أين خروف العيد وأين عم جبريل؟

عيد التضحية

كنا في مثل هذا اليوم – ونحن أطفال صغار – نلهو ونلعب مع ”خروف العيد“ الموجود في حوش بيتنا الكبير، مطأطئ الرأس يأكل مما وضعنا أمامه، وهو لا يدري المصير الذي ينتظره.

ثم نستيقظ في صباح اليوم التالي مبكرا على أصوات الجزارين الجوالين وهم ينادون ”اللي يدبح؟ (مَنْ يذبح؟)“. لكن أهلي لم يكونوا يلجؤون إلى مثل هؤلاء، بل كانوا – وكنا معهم – ينتظرون عم جبريل الذي اعتدنا كل عام أن نراه وهو يدخل مشمرا عن ساقيه وقد أحاط بوسطه نطاق يعلق فيه سكاكينه وسواطيره، ومتأهبا – بالرغم من كبر سنه – للإيقاع بضحيته التي لم نكن نعرف رقمها بين أضحياته في ذلك اليوم.

وكان عمي – رحمه الله – يعد، بعد العودة من الصلاة، المكان والعُدد للذبح وللشوي في الحوش الكبير.

ولا أذكر صورة أبي – رحمه الله – في ذلك الشريط من الذاكرة، إذ كان قد غادرنا ولما أزل في سن صغيرة، بعد حادث مفجع.

كان بيتنا هو بيت جدتنا – التي تعود جذورها إلى أصول تركية – وهو البيت الذي آثرت العيش فيه هي وأولادها الثلاثة: أبي وعماي الآخران، بعد أن تزوج عليها جدي ولم تطق البقاء، فأخذت أبناءها ورحلت بهم إلى المدينة. وبقي الأبناء في البيت ذاته بعد وفاة أمهم. وكان أبي أكبرهم. وترك البيت بعد ذلك عمي الأوسط عندما تزوج. وبقي فيه أبي حتى بعد زواجه. وظل عمي الأصغر فيه أيضا بعد زواجه. لكل واحد منهما شقة شبه مستقلة من البيت.

كنا نتحلق جميعا في صباح العيد على طاولة الطعام لتناول وجبة غداء مبكر تكون اللحوم المشوية هي عمادها، إلى جانب الفطير.

هكذا كنا نفعل كل عيد. ويعود العيد، لكن عم جبريل لم يعد، فقد رحل إلى بارئه.

وفقد العيد بهاءه برحيله – بالنسبة إلينا نحن الأطفال على الأقل – وانفرط عقد الأسرة بزواج أختيّ. ولم يعد لنا في العيد إلا شريط ذكريات. نديره في رؤوسنا كل عام، في صمت وفي لحظات تأمل نختلسها ممن حولنا أحيانا.

بيد أن هناك شريطا آخر أتذكره، في هذا العيد الأكبر، شريطا يحكي قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وأتذكر فيه خضوع إبراهيم التام لأمر الله له، وطاعة إسماعيل لما قصه أبوه عليه.

أذكر ذلك وأسائل نفسي: كم واحد منا – يا ترى – يستطيع أن يكون إبراهيم في الانصياع لأوامر ربه؟

ومَن مِن أبنائنا – يا ترى – يستطيع أن يكون إسماعيل في طاعة أبويه، فيما ليس فيه معصية لربه؟

كل عام أنتم أرق، وأكثر إنسانية، وأكثر حبا للوالدين – أو من بقي منهم – وأكثر عرفانا وتذكرا لذكرى من رحل منهم، وأكثر استعدادا للتضحية في سبيل إخواننا جميعا في الإنسانية. وهذا فعلا هو العيد الأكبر.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.