سيرة حياة

محمد رياض العشيري

أهلا وسهلا بكم في صفحات “أسر الكلام.

لماذا “أَسْرُ الْكَلَامِ” عنوانا؟

للكلام – كما أعتقد – أَسْرٌ يوقعنا في شراكه. نشعر بذلك ونحن نقرأ لكبار الكتَّاب، إذ يأسرنا الكاتب بألفاظه وتراكيبه وبأفكاره، فنظل له أسرى حتى ننتهي من القراءة. وهذا هو الأسر الإيجابي الذي يحفزنا على القراءة ويدفعنا إلى الاستمرار فيها.

بيد أن للكلام أَسْرا آخر ينبغي لنا أن نسعى قدر الإمكان إلى الفكاك من حبائله. وهذا هو ما يواجهه بعض المترجمين غير القادرين حينما ينقلون من لغة أجنبية إلى لغتهم الأم، فيقعون في شراك تراكيب تلك اللغة الأجنبية واستعاراتها، التي هي وليدة ثقافة خاصة تخالف ثقافتنا العربية. وينشأ عن ذلك تعبيرات وتراكيب في العربية لا صلة لها بثقافتنا، لكنْ يكتب لها الشيوع – من أسف – عبر وسائل الإعلام غير الحصيفة.

ويدرك علماء اللغة والباحثون فيها مدى تأثير الكلام بعامة والآسر منه بخاصة. ويُحسن السياسيون الأذكياء توظيف مهارة هؤلاء العلماء في صوغ خطاباتهم حتى يحققوا مآربهم. وهذا أَسْرٌ آخر علينا أن نكون على وعي به حينما نقرأ أو نسمع خطابات السياسيين وتصريحاتهم حتى لا نقع أسرى توجهاتهم وأيديولوجيتهم.

من أجل هذا كله اخترت “أَسْرُ الكلام” عنوانا لهذا الدُوَّار.

في البدء كانت الكلمة

في البدء كانت الكلمة (كن فيكون)، وفي البدء أيضا علم الله آدم الأسماء كلها. وبعد أن خلق الله تعالى الكون ثم خلق بني البشر كانت الصلة بهم هي الكلمة التي تمثلت في الصحف الأولى وفي الكتب السماوية المقدسة.

وفي البدء أيضا، وعندما يبرأ الله تعالى الإنسان في رحم أمه يخلق له الأذن ليسمع الكلمة ثم البصر واللسان ليقرأها ويلفظها.

ومنذ هبوط بني آدم على الأرض كانت اللغة منشأ خلافاتهم، وكانت اللغة أيضا ولاتزال وسيلة التقارب المثلى بينهم في آن.

في أسر الكلام سيجد القارئ خواطر عن اللغة والدين والحياة.

ووسط زحمة الحياة اليومية بمشاغل العمل والخلافات التي تنشأ بيننا، والنمطية الرتيبة التي نشأنا عليها ورُبينا عليها، ومازلنا نربي أولادنا، بما فيها من ”تقديس“ للماضي ولعلماء الماضي وكتب علماء الماضي وأقوال علماء الماضي، يزداد إطباق الماضي على عقولنا فلا يستطيع منه فكاكا إلا القوي الواعي منا. وهنا في أسر الكلام دعوات لهذا الوعي لتحرير عقولنا حتى نفكر بحرية، ويمكننا الإبداع.

العين والأذن واللغة

أنا مولع باللغة، شديد الشغف بها. وقد لفتتني اللغة العربية منذ بواكير حياتي أحرفا وكلمات مكتوبة من خلال الكتاب. وظللت مثل كثيرين غيري لا أتعامل مع اللغة العربية الفصيحة إلا من خلال حاسة النظر مدونة في الكتب. ثم كَتب لي القدر أن أعمل في الإذاعة فعرفت آنذاك العربية الفصيحة من خلال الأذن لغة حية منطوقة يجب الحفاظ على رونقها الصوتي المسموع الذي لا يدركه القارئون الذين يتعاملون مع حروف الكتابة الميتة.
في هذه الرحلة تعلمت الكثير عن اللغة.

ولدت في مدينة الفيوم التي تقع جنوب القاهرة بنحو ٨٠ كيلومترا في ٤ يوليو ودرست في مدارسها المرحلتين الإعدادية والثانوية. ثم انتقلت إلى الأسكندرية حيث درست في جامعتها وفي قسم اللغة العربية واللغات الشرقية درجة الليسانس في الآداب.

بعد ذلك انتقلت إلى العاصمة المصرية القاهرة حيث عُينت معيدا في مادة علم اللغة بجامعة عين شمس بكلية البنات فيها. وفي تلك الفترة أنهيت دراسة الماجستير بدراسة لغوية لواحد من أوائل الكتب التي عُنيت بتتبع التغير الدلالي لألفاظ العربية، ألا وهو “كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية” الذي كتبه الداعي الإسماعيلي في منطقة الري أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي (المتوفى ٣٢٢ هجرية). وكانت تلك الدراسة الخيط الأول الذي ربطتُ به دراسة اللغة بحسب المناهج الحديثة المعروفة لدى علماء اللغة المحدثين بالدرس الديني. ونشرت الدراسة دار نشر منشأة المعارف بالأسكندرية عام ١٩٨٦، وعثرت عليها بالصدفة مصورة على صفحات الإنترنت ضمن مجموعة دراسات وأبحاث عن الإسماعيلية.

وكانت المرحلة التالية حينما انتقلت من القاهرة إلى لندن حيث درست درجة الدكتوراه في علم الأصوات بدراسة عن الخصائص الصوتية لتلاوة القرآن الكريم في مصر، في أول دراسة تجرى على قراء محترفين وغير محترفين سُجلت لهم تلاوتهم في المعمل الصوتي بجامعة لندن. وهكذا توثقت الصلة مرة أخرى في حياتي العلمية بين الدرس اللغوي الحديث والدرس الديني، والدراسة منشورة بالإنجليزية تحت عنوان: (Sounds of Qur’anic Recitation in Egypt: A Phonetic Analysis) نشرتها دار (Edwin Mellen) للنشر عام ٢٠٠٨.

وكَتب لي القدر – بعد ذلك – أن أعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في قسمها العربي فعرفت آنذاك العربية الفصيحة من خلال الأذن لغة حية منطوقة يجب الحفاظ على رونقها الصوتي المسموع الذي لا يدركه القارئون الذين يتعاملون مع حروف الكتابة الميتة. وفي تلك الرحلة تعلمت الكثير عن اللغة كانت دراستي لعلم اللغة  (Linguistics)  بصفة عامة وعلم الأصوات  (Phonetics)  على الأخص مفتاحا لمعرفة جانب آخر عن اللغة كظاهرة اجتماعية إنسانية. وكان ذلك بداية مرحلة جديدة خلعت فيها اللغة – في نظري – ثياب القداسة ومن ثم أخذتُ أتعامل معها بطريقة علمية موضوعية باعتبارها ظاهرة اجتماعية تخضع مثلها في ذلك مثل الظواهر الاجتماعية الأخرى لعوامل التغير والتبدل والحراك متأثرة بما يطرأ على المجتمع المستخدمة فيه من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية.

وآمل أن يجد زائر “أَسْرُ الكلام” صدى ذلك كله في الصفحات التالية.

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.