وسط هذه الأحداث الدامية في غزة التي تحيط بنا صباح مساء، أتيحت لنا أنا وزوجتي فرصة حضور عرض لـ”سيرك دو سولي“ الكندي في”رويال ألبرت هول“ العريقة في لندن.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي نشاهد فيها عرض الشركة الكندية الشهيرة.
بدأ برنامج العرض، كما كنا نتوقع، بفقرة كان أبطالَها عدد من المهرجين الذين خرجوا علينا من الجانب الأيمن لخشبة المسرح الدائرية التي تغطي وسط القاعة المستديرة الضخمة.
لفتتني أشكال المهرجين الذين غاصت أجسادهم في ملابس مزركشة غطت حشواتها وضخمت صدور بعضهم ومؤخرات بعضهم الآخر في ألوان زاهية. وشد انتباهي أيضا أغطية رؤوسهم العجيبة الأشكال، وأقنعة وجوههم التي ماثل بعضها صور الطيور والحيوان.
ثم تلا تلك الفقرة الممتعة، التي غلبت على الأدوار فيها لغة الجسد والإشارة، المصحوبة بكلمات فرنسية قليلة وكلمات إنجليزية معدودة، عدد من الفقرات للاعبين في السيرك ذوي أجسام رياضية فذة لا نراها إلا في مسابقات الأولمبياد الدولية.
وأخذ كل منهم يستعرض أمامنا قدراته الفائقة في القفز أو في لعبة العقلة أو التوازن على بعض عيدان الخيزران الضخمة أو اللعب بأطواق الخيزران بطرق مبهرة لم نرها من قبل.
وكان كل ذلك مصحوبا بموسيقى حية وبعض الأغنيات المختارة التي أدتها مطربتان تتمتعان فعلا بصوتين رائعين.
وبعد تلك الفقرات اتسعت فتحتات البوابات التي كان يخرج منها لاعبات السيرك ولاعبوه على الجانب الأيمن. فملت برأسي لأهمس في أذن زوجتي:
– يبدو أنهم يجهزون المكان لخروج الفيل ليتحفنا بفقرة ممتعة ننتظرها.
وتأهبنا للفقرة متطلعين بنشوة عجيبة تستدعي تاريخ أجدادنا وأسلافنا، الذين كانوا يتحلقون مثلنا لمشاهدة عروض أرادوا منها إثبات مدى قدرتهم على السيطرة على الحيوانات، صغيرها وكبيرها، وأليفها ومتوحشها. ويبدو أن في ذلك إشباعا دفينا لدينا لمتابعة مشاهد الغلبة والسيطرة التي قد يفتقدها بعضنا في أنفسهم.
وانتظرنا .. لكن لم يخرج من البوابات التي فرغت أفواهها أي فيل أو دب أو أسد أو حتى صرصار. ولم تتمخض البوابات إلا عن أسطول من آلات الإيقاع الضخمة والصاجات النحاسية على عجلات. وتصدرت الآلات جانب القاعة الأيمن وشرعت في هز أرجاء المكان بصدحها.
وطاردتني ذكريات السيرك أيام زمان.
كانت عروض السيرك أمرا مألوفا في بلادي يعلن عنها كما يُعلن عن عروض المسرح. وكان السيرك ملتقى أفراد الأسرة جميعا. وكنا نسعد فيه بفقرات متنوعة، من بينها فقرات الأسود المدربة والفيلة والخيول.
لكن الزمن تغير! بيد أن صورة السيرك زمان ظلت حية في مخيلتي.
ومع علو أصوات المدافعين عن ”حقوق الحيوان“، شرعت دول كثيرة في سن قوانين صارمة حالت دون مواصلة تقييد حرية الحيوان، أو ”استغلال“ الحيوانات، الأليف منها والبري، في مجالات كثيرة، من بينها استعراضات السيرك.
وهنا ألح على خاطري سؤال:
– هل أصبحت ”حقوق الحيوان“ في عالمنا أهم من ”حقوق الإنسان“؟
ووجدتني أرد على نفسي:
– هذا هو فعلا ما تحاول أن تروجه البلدان الغربية، التي تنتشي بديمقراطياتها التي من المفترض أن ينعم فيها الجميع بالتمتع بحقوقه. لكنها تدرك – فيما يبدو – أن هذا ليس هو الواقع. وهذا ما تؤكده الأحداث التي تشهدها مجتمعاتها.
فهل ينعم السود بحقوقهم في تلك الدول الديمقراطية، وهل ينال المسلمون أو المهاجرون أو اللاجئون فيها حقوقهم جميعها؟
طغى الاهتمام بـ”حقوق الحيوان“ في تلك المجتمعات الغربية على غيره، ليس لرفق تلك الدول بالحيوان، وإن كانت الحيوانات بالفعل جديرة بهذا الرفق، ولكن لأن في ذلك غطاء وسترا للانتهاكات التي ترتكب في حقوق الإنسان في هاتيك الديمقراطيات.
فمن يرفق بالحيوان ويشفق عليه من قيود الحبس في السيرك وسوء استغلاله من أجل كسب المال، لا يتصور عاقل أن يكون فظا مع بني جلدته من البشر.
هذه هي فطرة الإنسان وطبيعة البشر.
لكن من يهيمنون على السلطة في تلك الدول الغربية فارقتهم تلك الفطرة الإنسانية، وهجروا تلك الطبيعة البشرية، من أجل السعي إلى الهيمنة والكسب والاحتلال والاستغلال.
ولذلك وجدوا في حقوق الحيوان ذريعة فسنوا القوانين لحمايتها، وهم في الوقت نفسه لا يلقون بالا لحقوق بني البشر من السود، أو المهاجرين، أو اللاجئين، أو المرضى والجوعى والمهمشين.
وليس ما يحدث في غزة منا ببعيد.
وكان هذا درس السيرك في صورته المعاصرة.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.