في نفسي شيء من “الجيم” القاهرية

قصة صوت الجيم العربي

عندما بدأت العمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، قال لي أحد المديرين منبها: “انتبه فنحن هنا لا نستخدم “الجيم” المصرية، بل “الجيم العربية، لأننا نتوجه لكل العرب”.

وظللت فترة طويلة أغالب فيها عادتي الصوتية حتى غلبتني “جيم” بي بي سي وأصبحت هي الصوت الذي أستخدمه حتى في كلامي مع بني جلدتي من المصريين.

وكنت خلال تلك الفترة أدرس لدرجة الدكتوراه في علم الأصوات في جامعة لندن، ولما يزل في نفسي شيء من “الجيم”.

وقررت أن أصاحبها حتى أعرف أصلها. وهذه هي الحكاية.

وتبدأ الحكاية بما لاحظته من تعدد الصور الصوتية لبعض الأصوات العربية في بلداننا، وعلى رأسها “الجيم”.

الصوت والحرف:

موضوع الكلام هنا هو صوت الجيم. ونحن عندما نتكلم عن صوت ما، يدور حديثنا على “الصوت”  كما ننطقه، ولا علاقة لهذا الحديث بالحرف الذي يمثله كتابة.

وتشيع لهذا الصوت بعض الصفات بين الكتّاب، مثل الجيم “القاهرية”، أو الجيم “المعطشة”، أو الجيم “البدوية”. ولست من مؤيدي استخدام تلك الصفات لأنها إما غير دقيقة، وإما غير علمية، وسأكتفي بـ”الجيم” اسما للصوت، على أن أشير إلى الصور الصوتية التي أعنيها بما يقاربها في اللغة الإنجليزية، وأضع النطق إلى جوارها.

المشكلة:

أكثر الصور الصوتية شيوعا للجيم في العالم العربي أربع، هي:

١ – (ج = g): كما ينطق في جنوب اليمن، وعُمان، وبعض مناطق الحجاز، وبعض مناطق مصر، بطريقة تماثل نطق الصوت الإنجليزي /g/ في كلمة /game/.

٢ – (ج = j): ولكنه ينطق في سوريا ولبنان وبعض بلاد الشام، وبلدان شمال إفريقية (تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا)، التي احتلتها فرنسا، بطريقة أخرى تشبه الصوت الفرنسي في ضمير المتكلم /je/ أو كلمة /jour/، والصوت الإنجليزي /j/ في كلمة /measure/.

٣ – (ج = dj): أما أهل الأردن وبعض البلدان العربية الأخرى فينطقونه بطريقة تشبه الصوت الإنجليزي /dj/ في كلمة /jam/. وهذا صوت مركب من عنصرين هما /d/ و/j/. ويرى علماء منهم إبراهيم أنيس في كتابه (أصوات اللغة)، وعمر فروخ في كتابه (عبقرية العربية) أن هذه الصورة هي الصوت العربي الأصيل.

٤ – (ج = y): وهناك صورة أخرى له في الكويت والإمارات، حيث ينطق بطريقة تشبه الياء العربية.

هذا التنوع في نطق الصوت يدل على أنه غير ثابت، بل قلق. فهو – مثلا – ليس مثل صوت “س”، الذي لا يوجد له، تقريبا، سوى صورة صوتية واحدة. ففي العربية إذن أصوات شبه ثابتة، وأصوات قلقة.

وليس لنسبة شيوع صورة من تلك الصور الصوتية “للجيم” بين الناطقين باللغة أي علاقة بأصل الصوت وأقدميته في اللغة. كما لا يعني تبني وسيلة إعلامية ما لصورة من تلك الصور أن تلك الصورة الصوتية، هي الصورة العربية الأصيلة لهذا الصوت.

أدلة عامة

هناك أدلة عامة تشير إلى أن صوت الجيم العربي الأصلي ليس هو الصور الصوتية (٣ = dj)، بل الصورة الصوتية (١ = g). ومن بين تلك الأدلة ما يلي:

١ – اللغات السامية: من بين الأدلة العامة التي تؤيد الفكرة القائلة بأن الصورة الصوتية /g/ للجيم، كما تنطق في كلمة (game) في الإنجليزية، آصل من غيرها من الصور الصوتية في العربية، أن لغتنا العربية تنتمي إلى أسرة اللغات السامية. والصوت المستخدم في اللغات السامية هو صوت /g/.

ولا تستخدم تلك اللغات صوت /dj/ إلا في الكلمات الأجنبية المقترضة. وهذا هو حال اللغة العبرية الآن.

فإذا افترضنا أن صوت /dj/ هو الأقدم وهو الأصل، فيجب أن يكون لدينا إجابة شافية لسؤال جوهري، ألا وهو: لماذا شذت العربية عن أخواتها جميعا في هذا؟

والحقيقة أن العربية لم تشذ عن أخواتها، بل إنها كانت تستخدم الصوت السامي /g/، لكن هذا الصوت زاحمته صور صوتية أخرى بعد فترة، كان منها صورته المركبة /dj/. وما زال عدد كبير من الناطقين بالعربية في مصر واليمن وعُمان والحجاز، يستخدم حتى عصرنا هذا الصوت السامي الأول /g/.

٢ – تعريف القدماء:

ولمؤلف لسان العرب، ابن منظور، الذي عاش معظم حياته فيما بين القرن السابع والثامن الهجريين، الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين (ت ٧١١ه-١٣١١م)، نص مهم جدا في هذا السياق يدل على تعايش الصوتين معا، أي /g/ و/dj/. فهو يقول في الجزء الأول من تعريفه للجيم: “الجيم والشين والضاد ثلاثة في حيز واحد، وهي من الحروف الشجرية، والشجر مفرج الفم”، (لسان العرب – مادة “جيم”)

وهذه المنطقة التي يشير إليها ابن منظور من الفم هي المنطقة الواقعة ما بعد اللثة فيما وراء الأسنان العليا الأمامية ووسط الحنك الأعلى. وهي المنطقة التي يلامسها، خلال نطق هذه الأصوات الثلاثة، الجزء الفاعل من اللسان.

وقد كان من نتيجة هذا التقارب بين “الجيم” و”الشين” تبادل المواقع بينهما في بعض الكلمات. وقد تحدث عن هذا علماء اللغة، مثل سيبويه في (الكتاب) وابن جني في (الخصائص)، لافتين إلى أن من العرب من يقول في “أجدر – أشدر”. وأشار إليه أيضا باحثان معاصران هما جهاد أحمد العرايفي وإبراهيم محمود خليل في بحثهما (الاضطرابات النطقية في صوتي الجيم والشين في العربية).

وإذا دققنا السمع فسنجد نظيرا لهذا في قراءات بعض المذيعين والمذيعات عندما يبدلون بالجيم شينا، فيقولون في مجتمع (مشتمع).

ولتعريف لسان العرب للجيم جزء ثان يتحدث فيه ابن منظور عن “مخرج الجيم والقاف والكاف بين عَكَدَةِ اللسان، وبين اللَّهاةِ في أَقصى الفَم”، (لسان العرب – مادة “جيم”).

وابن منظور يضع في هذا الجزء مخرج صوت “الجيم” مع مخرجي صوتي القاف والكاف. وهذان الصوتان (“القاف” والكاف”) ينطقان في أقصى الحنك الأعلى عندما يلامس الجزء الخلفي من اللسان تلك المنطقة. وهو عندما يلحق بهما صوت “الجيم” إنما يتحدث عن صورة “الجيم” السامية المفردة الأصلية، وهي الصورة الصوتية التي تشابه صوت /g/ في الإنجليزية.

ويبدو أن هذه الصورة الصوتية كانت موجودة جنبا إلى جنب مع الصورة الأخرى /dj/ المركبة في عصر ابن منظور، أي منذ ما يقارب أكثر من ٧٠٠ عام،  كما هو حال وجودهما الآن.

٣ – الصوت المركب: معظم أصوات اللغات في العالم أصوات مفردة، أي تتكون من عنصر صوتي واحد، مثل “ت”، و”ث”، و”ب” في اللغة العربية، و”t”، و”g”، و”b” في الإنجليزية.

لكن يوجد في بعض اللغات أصوات “مركبة”، أي مكونة من عنصرين صوتيين. ومثال ذلك اللغة الإنجليزية، التي يوجد فيها زوجان. أحدهما مركب من عنصرين هما ” t= ت” + “sh = ش”، ويرمز إليه كتابة بـ”ch”، كما في كلمة “church“. أما الآخر فمركب من عنصرين هما “d = د” + “j = چ”، ويرمز إليه كتابة بـ”j”، على الأغلب، كما في كلمة “jam”.

وهناك علاقة بين هذين الزوجين، وهي أن كلا منهما ينطق من مخرج واحد تقريبا. ثم إن المركب الأول منهما (ت + ش) صوت مهموس، أي لا يهتز الوتران الصوتيان عند مرور الهواء بينهما خلال نطقه. أما المركب الثاني (د + چ)، فهو مجهور، لاهتزاز الوترين خلال نطقه.

وليس في العربية إلا صوت مركب مجهور واحد، وهو /د + چ/ المشابه للصوت المركب /dj/ في الإنجليزية.

وهذا في حد ذاته يثير الانتباه، لعدم وجود نظير مهموس لهذا الصوت المركب المجهور. إذ إن طبيعة اللغات – على الأغلب – تنحو إلى أنه إذا وجد في واحدة منها صوت مهموس من مخرج معين، يكون له في اللغة ذاتها نظير مجهور من المخرج نفسه. ومثال ذلك في العربية /ت/ + /د/، و/ث/ + /ذ/، و/س/ + /ز/.

وانفراد العربية دون اللغات السامية الأخرى بصوت مركب مجهور، وهو /dj/ بالوجود، بلا نظير مهموس، ربما يكون دليلا آخر على أنه ليس صوتا أصيلا في لغتنا العربية، بل إنه صوت وافد، دخل اللغة في مرحلة لاحقة. وربما يكون قد دخل اللغة مع دخول بعض المسلمين الجدد إلى الدين، خاصة من كانت لغاتهم الأم لغات أخرى مختلفة، تضم أنظمتها الصوتية أصواتا مركبة.

وهذا الوصف ينطبق على اللغة الفارسية:

التي يوجد فيها صوت مركب مماثل لصوت /ch/ المركب في الإنجليزية. ويُمثل هذا الصوت في الأبجدية الفارسية بحرف /چ/، وهو صوت مهموس. وتستخدم الفارسية أيضا نظيره المجهور، وهو صوت /dj/، ويُمثل كتابة بحرف /ج/ في الأبجدية الفارسية المأخوذة من العربية.

وفي الفارسية أيضا صوت /g/، ويرمز إليه كتابة بحرف /گ/، وصوت /j/، ويرمز إليه كتابة بحرف /ژ/.

  • چ = (ch)
  • ج = (dj)
  • گ = (g)
  • ژ = (j)

وأدى هذا الدخيل الوافد، كما أسميه، إلى حدوث بعض الظواهر الصوتية في العربية بمستوياتها المختلفة. فقد عوضت بعض اللهجات العربية هذا النقص في النظام الصوتي فأخذت تستخدم /ch/، إلى جانب /dj/، مثل اللهجة العراقية.

وفكّت لهجات أخرى هذا الصوت المركب الغريب عليها /dj/، متبنية عنصرا واحدا فقط منه. إذ تبنى بعض أهل صعيد مصر العنصر الأول /d/ في لهجتهم في كلمات مثل “جيش”، التي ينطقونها “ديش”، وكلمة “جنيه”، التي ينطقونها “دنيه”.

أما الناطقون بالعربية في معظم دول الاحتلال الفرنسي فاستخدموا العنصر الصوتي الثاني، /j/، متأثرين بالصوت الفرنسي في كلمات مثل /Je/ و/jour/.

قاعدتان صوتيتان:

إلى جانب هذه الأدلة العامة، هناك قاعدتان صوتيتان تطبقان في تجويد القرآن الكريم، ويسري تطبيق إحداهما على اللغة العربية الفصيحة، وتكشف دراستهما بأناة أننا أمام مشكلة مع صوت الجيم في صورته الصوتية /dj/.

فمن يدرس في تأن قاعدة (إدغام لام التعريف)، التي تعرف بين طلاب العربية بقاعدة “اللام الشمسية واللام القمرية”، يدرك تلك المشكلة مع صوت “الجيم”.

ومن يفكر مليا في أصوات قاعدة القلقلة في تجويد القرآن الكريم، يشعر أيضا بأن ثمة مشكلة مع صوت “الجيم”.

وهذا ما حدث معي، ودفعني إلى التوقف عند هذا الصوت، وبحث أصله.

١ – القاعدة الأولى: إدغام “ل” التعريف أو عدم إدغامها

إحدى وسائل تعريف أي كلمة نكرة في العربية إضافة أداة التعريف (ال) إلى أولها. وعند إجراء هذه العملية نجد أن “ل” التعريف تدغم مع بعض الأصوات (أي لا يظهر صوت “ل” نطقا، بل يتحول إلى صوت آخر يطابق الصوت الأول في الكلمة النكرة ويدغم فيه). ونحن نصف صوت اللام في هذه الحالة بـ”اللام الشمسية”، كما يحدث عند تعريف كلمة “شمس”، فننطقها “الشَّمس”، بتشديد صوت الـ”ش”.

وهناك حالة أخرى، يظهر فيها صوت “ل” نطقا، ونصفه هنا بـ”اللام الْقمرية”، كما يحدث عند تعريف كلمة “قمر”، فننطقها “الْقَمر”.

لكن لماذا يدغم صوت “ل” مع بعض الأصوات، ولا يدغم مع أخرى؟

يفسر بعض الباحثين إدغام “لام التعريف” مع بعض الأصوات، مثل الـ(ش) في كلمة شمس، بقرب مخرج ذلك الصوت من مخرج صوت (ل)، أي من النقطة التي يلتقي فيها جزء من اللسان بجزء من الحنك الأعلى عند نطق الصوت. فتلك النقطة، أو المخرج، عند نطق (ل) قريبة جدا من مخرج (الشين). وهذا القرب يمثل صعوبة للمتكلم عند النطق. إذ إن انتقال اللسان من مخرج إلى مخرج لصيق آخر في جزء من الثانية أمر صعب. ولذلك يجنح المتكلم إلى إدغام الأصوات المتماثلة، أو المتقاربة المخارج في بعضها. وهو يفعل ذلك تطبيقا لقاعدة صوتية عامة في لغات العالم كافة، تهدف إلى (تقليل الجهد العضلي) قدر الإمكان في عملية الكلام.

لكن هذا التفسير لا ينطبق على أصوات تدغم اللام فيها، مثل صوت (الذال) في كلمة (الذَّهب)، بالرغم من بعد مخرجه من مخرج اللام.

وبينت البحوث الأحدث أن السبب الأساسي في إدغام صوت “اللام” في بعض الأصوات دون غيرها يرجع إلى الجزء الفاعل من اللسان خلال عملية نطق (اللام) ونطق الأصوات التي يدغم فيها.

وهذا الجزء الفاعل ببساطة هو “ذلق وأسلة” اللسان، أي الجزء المدبب منه مع طرف اللسان الأمامي.

اللام
مخرج صوت اللام (الصورة من موقع الشيخ أيمن سويد)

وإذا راقبنا نطقنا فسنجد أن هذا هو الجزء الفاعل عند نطق صوت “ل”، وجميع الأصوات الأخرى التي يدغم فيها. وهذه الأصوات هي:

  • ت، ث، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ل، ن.

لكن صوت “ل” لا يدغم مع مجموعة أخرى من الأصوات، يكون طرف اللسان ومقدمته عند نطقها في وضعهما الطبيعي (وضع الراحة) في أسفل الحنك. وهذه الأصوات هي:

  • أ، ب، ج، ح، خ، ع، غ، ف، ق، ك، م، ه، و، ي.

وإذا راقبنا نطقنا لهذه الأصوات جميعا، فسنجد أن طرف اللسان ومقدمته ليس لهما دخل أبدا في نطق أصوات تلك المجموعة، فيما عدا صوت “ج = dj”.

الجيم
مخرج الجيم (الصورة من موقع الشيخ أيمن سويد)

والسبب هو أن لمقدمة اللسان وطرفه الأمامي دورا مهما في نطق صوت “الجيم”، في صورته النطقية المشابهة لـ/dj/، أي الصوت المركب، كما ينطقه قراء القرآن الكريم، وكما ينطقه بعض العرب، وهو الصوت الذي يعتقد بعضنا أنه الصوت العربي الأصلي.

فلماذا إذن لم يوضع صوت “الجيم” مع مجموعة الأصوات “الشمسية”، التي يشارك في نطقها جميعا، مقدمة اللسان وطرفه الأمامي؟ ولماذا وضع صوت “الجيم” مع مجموعة الأصوات الأخرى، “القمرية”، التي لا دور للسان في نطقها، بالرغم من أنه، كما ينطقه قراء القرآن، صوت لمقدمة اللسان وطرفه الأمامي دور كبير في نطقه؟

ودور اللسان في نطق صورة الجيم النطقية التي يستخدمها قراء القرآن الكريم “dj”، يشابه تماما دوره في نطق صوت “الشين”. ولهذا التشابه جمع علماء التجويد صوتي “الجيم” و”الشين” في مخرج واحد حددوه بـ“وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك”، بحسب ما قاله ابن الجزري في الجزء الأول من كتابه (النشر في القراءات العشر).

فنحن هنا أمام مشكلة وهي أن لدينا صوتين (هما “ش” و”ج”) ينطقان من مخرجين متقاربين جدا من بعضهما، والجزء الفاعل في نطقهما كليهما هو طرف اللسان ومقدمته، وهو الجزء الفاعل مع أصوات (اللام الشمسية) جميعا، لكن أحدهما، وهو “ش”، وضع في مجموعة (اللام الشمسية)، وهذا تصنيف دقيق. أما الآخر، وهو “ج”، فوضع ضمن مجموعة (اللام القمرية) بالرغم من مخالفته لصفات أصوات تلك المجموعة نطقا. وهذا تصنيف خاطئ.

الشين
مخرج صوت الشين (الصورة من موقع الشيخ أيمن سويد)

فماذا حدث؟ وكيف نحل المشكلة؟

الحل يسير جدا. وهو أن صوت الجيم الأصلي هو الصوت الأصلي في جميع اللغات السامية، وهو الصورة الصوتية الموجودة حاليا بين المتحدثين بالعربية، ويشبه الصوت الإنجليزي /g/. وهذا هو الصوت الذي بنيت عليه قاعدة (اللام الشمسية) و(اللام القمرية).

وصوت (ج = g) صوت ينطق في أقصى الحنك ولا دخل لذلق اللسان أو أسلته، أو طرفه الأمامي في نطقه. إذ إن الجزء الفاعل في نطقه هو أقصى اللسان. وهو الجزء نفسه المشارك في نطق أصوات أخرى، مثل /ك/ و/ق/، وهذان صوتان شبيهان بالجيم (أي = g) من حيث دور أقصى اللسان فيهما. وجميع هذه الأصوات أصوات تندرج تحت المجموعة (القمرية) التي لا تدغم معها لام التعريف.

فالقاعدة إذن سارية على صوت الجيم الأصلي السامي (= g)، المندرج تحت المجموعة القمرية. فنقول (الْجمل، والْجنة، والْجيش)، كما نقول (الْكتاب، والْقماش، والْكون، والْقواعد).

ونظرا للتقارب بين الصورة الصوتية للجيم السامية /g/ مع القاف /ق/ يحدث في لهجاتنا العربية في وقتنا الحالي تبادل بينهما. فكلمة مثل (الشارقة = sharqa) أصبحت تنطق (الشارجة = sharga). ثم أخذت تنطق (الشارجة = sharja). وهذا يبين لنا أن أصوات العربية ليست جامدة أو ثابتة، بل متغيرة، حتى وإن لم ندرك نحن هذه التغيرات في وقتها.

وهذا في رأيي ما تعرض له صوت الجيم العربية، الذي كان /g/ ثم جاوره /dj/ حتى طغى عليه في بعض المناطق، وحتى ظن بعض الناطقين بالعربية أنه الصوت العربي الأصيل.

فما حدث إذن بالنسبة للجيم في قاعدة (اللام الشمسية والقمرية) هو أن أصوات العربية طرأ عليها تغير، وأن صورة صوتية أخرى للجيم دخلت العربية، وهي الصورة الشبيهة بالصوت الإنجليزي /dj/، وأخذت تنتشر مع استخدامها وانتشارها في القراءات القرآنية. وبهذا تغيرت الصورة الصوتية للجيم بين الناطقين بالعربية، ولكن قاعدة لام التعريف لم تتغير، بل ظلت سارية.

ودليل ذلك ما يحدث حاليا في نطقنا لصوت الجيم على المستوى الفصيح بين بعض العرب. فنجد بعضهم يطبق في حديثه وقراءته للغة الفصيحة في بعض البرامج ونشرات الأخبار – دون أن يدري – القاعدة كما ينبغي أن تكون، بحسب طبيعة الصورة الصوتية /dj/، فيقول في (الْجنة = الجَّنة)، وفي (الْجيش = الجّيش)، وفي (الْجامعات = الجَّامعات).

٢ – القاعدة الثانية (القلقلة):

أما القاعدة الثانية التي توضح وجود مشكلة في الصورة النطقية لصوت “الجيم” بالطريقة الحالية /dj/، التي ينطق بها، فهي قاعدة صوتية تطبق في تلاوة القرآن الكريم عندما يظهر أحد الأصوات التالية في كلمة ويكون ساكنا. وهذه الأصوات هي:

  • ق، ط، ب، ج، د

ويجمعها علماء التجويد في كلمتي (قطب جد). والمقصود بالقلقلة هو النطق بحركة قصيرة جدا، فلنسمها حريكة، بعد أي صوت من أصوات تلك المجموعة عند وقوعه ساكنا. مثال ذلك صوت “ب” في كلمة “فانْصَبْ” في الآية الكريمة (فإذا فرغت فانصبْ). والهدف من إضافة هذه الحريكة القصيرة بعد صوت “ب” الساكن، هو السماح بخروج الهواء من بين الشفتين اللتين تكونان منطبقتين عند نطق الـ”ب”.

ولكن ما السبب وراء قلقلة الصوت في تلك الحالة؟

السبب يكمن في طبيعية أصوات (قطب جد) جميعها. فهي:

أولا: أصوات القلقلة أصوات “انحباسية”، أو “انفجارية”، لأن الهواء (ينحبس) عند النطق بها، ثم (ينفجر) عند فتح المجال له. وهذا يحدث عند نطق صوت “ق”، و”ط”، و”ب”، و”د”. وحتى تشعر بهذا الانحباس، ضع صوت “أ” قبل أي منها، فقل مثلا “أقْ” أو “أطْ” وتوقف. ستشعر الآن بانحباس الهواء. لكنك إن أضفت فتحة قصيرة جدا بعد الصوت مباشرة، فستشعر بقلقلة الصوت، أي بتحريكه قليلا، لأنك سمحت بخروج الهواء، ولم تطل فترة الانحباس.

وهذا بالضبط ما يحدث عند نطق “ق”، أو “ط”، أو “ب”، أو “د”. فهناك انحباس للهواء، ثم انفجار له عند إضافة ما سميته “بالحريكة” بعده مباشرة. وهذا ما تدركه آذاننا على أنه “قلقلة”.

لكن هذا لا ينطبق على صورة الجيم النطقية/dj/، كما ينطقها قراء القرآن الكريم. لماذا؟

لأن هذه الصورة النطقية صوت مركّب من صوتين هما (d) و (j)، أولهما “انحباسي” وثانيهما “احتكاكي”. والصوت الاحتكاكي لا ينحبس الهواء معه انحباسا تاما، كما يحدث مع أصوات “ق، ط، ب، د”، لأن الهواء خلال نطق الأصوات الاحتكاكية يواجه تضييقا في الممر الذي يمر منه، وليس انحباسا يعقبه انفجار. ومن هنا لا حاجة أبدا إلى جلب “حريكة” تسمح لنا بفتح مجال للهواء المنحبس بالمرور، لأن ممر الهواء مفتوح بالفعل، ولكنه ضيق، ولوجود هذا الضيق نسمع احتكاكا. وصوت (j)، وهو العنصر الثاني الاحتكاكي من “الجيم” يماثل صوت (ڤ = v) في هذا، أي في سماع احتكاك الهواء خلال النطق بهما.

وهذا يعني أن الصورة النطقية المركبة للجيم /dj/، لا يمكن أبدا أن تكون من أصوات “القلقلة” الأصلية.

ثانيا: أصوات القلقلة أصوات “مجهورة”. وهدف القلقلة الأساسي هو الحفاظ على صفة الجهر التي تميز تلك الأصوات، والتي قد تُفقد إن ظل الهواء محبوسا ولم يفتح له المجال للخروج، خلال مرحلة “الانفجار”.

لكن ما هو الجهر؟

هو صوت طنين اهتزاز الوترين الصوتيين عند مرور الهواء القادم من الرئتين بينهما. وحتى يسمع هذا الطنين الذي يحمله الهواء لابد من خروج الهواء إلى خارج الشفتين حتى تسمعه الأذن. أي لابد من إتمام مرحلة “الانفجار” عند النطق بأي صوت من أصوات تلك المجموعة. إذ إننا إن توقفنا عند مرحلة الانحباس عند نطق صوت “د”، مثلا، ولم نسمح للهواء الذي يحمل صوت طنين اهتزاز الوترين الصوتيين، فسوف نسمع الصوت وكأنه “ت”. وهذا هو النظير “المهموس” لصوت “د”. إذ إن الفرق بين “د” و “ت” نطقا هو أن الوترين لا يهتزان عند نطق “ت”، ولذلك نقول إنه صوت “مهموس”.

وهذا الوصف، مرة أخرى، لا ينطبق على الصورة النطقية لصوت الجيم المركب /dj/، كما ينطقه قراء القرآن حاليا، وبعض العرب، لأنه صوت مركب من صوتين مجهورين ولا ينحبس الهواء خلال نطقه ولا يفقد – من ثم – صفة الجهر فيه، وتسمع الأذن معه طنين اهتزاز الوترين الصوتيين.

فلماذا وضع إذن ضمن مجموعة أصوات القلقلة؟

الحقيقة هي أن أصوات العربية تغيرت ولم تتغير قاعدة القلقلة.

وإذا أعدنا النظر إلى القاعدة، مع وجود الصوت العربي الأصلي، السامي (=g) فسنجد أن تطبيقها حينئذ سهل ميسور. فصوت الجيم السامي الأصلي صوت انحباسي، انفجاري، مجهور. ولذلك تطبق عليه القاعدة تماما بسهولة إن وقع ساكنا في كلمة. فهو يقلقل في كلمتين مثل (والفجْرِ)، و(حِجْر).

وما حدث هو أن صورة صوتية جديدة دخلت العربية، وهي صورة الصوت المركب /dj/، وأخذت الصورة الصوتية الجديدة تنتشر مع انتشار القراءات القرآنية. ولكن قاعدة القلقلة بقيت كما هي. وظل القراء يطبقونها على الصورة الصوتية الجديدة دون أن يدروا.

وأود هنا أن أشير إلى مشكلة أخرى شبيهة بمشكلة الجيم المركبة /dj/، وهي أن صوتي “ق” و”ط”، كما ينطقان الآن على ألسنة قراء القرآن، ليسا صوتين مجهورين، بل صوتين مهموسين. وقد يعني هذا أنهما ليسا الصوتين الأصليين اللذين كانت تطبق عليهما قاعدة القلقلة في الماضي. لكني لن أعرض لهذه المشكلة هنا.

للمشاركة على :

2 Comments

  1. بحث ممتاز حقيق بأن يكون مصدره الدكتور محمد العشيري نفع الله بكم
    ونفيدكم أن أهلكم في السودان يستخدمون الجيم العربية وهم على طبيعتهم وفي غير تكلف في نطق هذا الحرف وفي غيره

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.