أحد أسباب الأخطاء التي يرتكبها بعض الكتاب والصحفيين والإعلاميين هو تسرب الدلالات العامية إلى اللغة الفصيحة. ولا ينبغي لنا التساهل مع مثل هذا التسرب، نظرا للاختلاف الجوهري بين المستوى الفصيح والمستوى العامي.
إذ إن لكل مستوى منهما، بالرغم مما بينهما من تشابه ظاهري، أنظمته الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية الخاصة به.
ودوما ما يتعرض من يعيش في جماعة لغوية تستخدم لغتين إلى الخلط بينهما، خاصة إذا كانت إحدى هاتين اللغتين أكثر هيمنة من الأخرى على حياة أفراد الجماعة اللغوية.
ولا ريب أن اللهجات العامية في مجتمعاتنا العربية حاليا هي المستوى اللغوي السائد والمهيمن على حياتنا اليومية، وإن زاحمته صيغ متعددة من ”العربيزي“، أي العربية التي شوهتها كلمات وتعبيرات إنجليزية.
وتظهر آثار تلك الهيمنة أحيانا عندما نضطر إلى الكتابة باللغة العربية الفصيحة، أو إلى الكلام بها، أو إلى تسجيل تقارير صوتية أو تلفزيونية بها. وسوف أدلل على ذلك الأثر هنا بمثالين فقط مما قرأته وشاهدته في بعض المواقع الإخبارية.
المثال الأول: كلمة ”مطارح“
ورد هذا المثال في موضوع نشرته بي بي سي عربي في السابع والعشرين من مارس ٢٠٢٥، تحت عنوان ”من يقف في وجه ترامب“.
وتقول كاتبة الموضوع، وهي مصرية:
”بحسب موقع مجلس الشؤون الخارجية Council on Foreign affairs، فإن نظام فصل السلطات في الولايات المتحدة ينتهي لا محالة للمشاحنات وسمح بذلك الدستور الأمريكي نفسه الذي مثلما كان صريحا في مطارح فإنه غير واضح في نقاط أخرى .. “
”مطارح“ كلمة فصيحة، ومفردها ”مطرح“، وتعني ”مكان“ أو ”موضع“، لكنها أيضا مفردة شائعة في العاميات ومن بينها المصرية.
وثمة أمثلة أخرى لمثل هذا الاستخدام الرديء لكلمة ”مطارح“ موجوة على الإنترنت، من قبيل:
- ”وحيث إنهم غير قادرين على كسب العيش، فهم يلجؤون للعيش في مناطق جبلية أو مطارح النفايات ويتعيشون بجمع فضلات الطعام نهارا ويتغطون بأوراق الأشجار أو الأسمال ليلا.“
- ”وطلبت الوفود أن تتضمن وثيقة الميزانية الجديدة شرحا واضحا عن مطارح التغييرات عن الميزانية السابقة والأساس النظري لذلك.“
لكن ما الخطأ إذن في استخدامها، وهي من بنات الفصحى، في تقرير مكتوب باللغة العربية الفصيحة؟
هذا ما سأبينه بعد عرض المثال الثاني.
المثال الثاني: كلمة ”حُجة“
سمعت هذا المثال في مقطع ڤيديو نشره أيضا موقع بي بي سي عربي في الخامس من أبريل ٢٠٢٥ تحت عنوان ”لماذا يتم استهداف مراكز البحوث العلمية في سوريا؟ بي بي سي تقصي الحقائق“
وهذا ما قالته المذيعة، وهي أيضا مصرية، بغض النظر عن لغة العنوان السقيمة، والأخطاء التي ارتكبتها في نطق اسم الصحيفة الفرنسية، ونطق بعض الألفاظ العربية بصفة عامة:
”صحيفة لوفيجارو الفرنسية أشارت إلى أن باريس فضت الشراكة عام ١٩٨١ مع سوريا بحِجة أن هذه الشراكة تتضمن مخاطر“.
”حُجة“، بضم الحاء، كلمة فصيحة معناها البرهان، كما نقول مثلا: هل لديك ”حجة“ على ذلك. بيد أنها تستخدم أيضا في اللهجات العامية، وهي في بعض اللهجات ومن بينها العامية المصرية، تنطق بكسر الحاء، كما نطقتها المذيعة.
وثمة أمثلة مشابهة لهذا أيضا على الإنترنت، من بينها:
- المنطقة انفصلت بحجة طلب المزيد من الحكم الذاتي والإدارة الذاتية.
- بعض الناس لا يصدقون الإحصاءات، بحجة أنها لا تعكس الأوضاع الواقعية.
- النقاد رفضوا الكتاب باعتباره غير طبيعي، بحجة افتقاره للأصالة.
ليس كل ما في المعجم مقبولا في الاستخدام
وجود كلمة ”مطارح“ وكلمة ”حُجة“، بالرغم من نطقها ”حِجة“، في معاجم اللغة الفصيحة لا يعني جواز استخدامهما في لغة الإعلام في تقرير مكتوب أو مسموع أو مرئي.
أما كلمة ”مطارح“ فهي في رأيي أكثر شيوعا في العامية منها في اللغة الفصيحة. وهذا بالضبط ما تبادر إلى ذهني حينما قرأت الكلمة في تقرير بي بي سي عن ترامب: كيف تستخدم الكاتبة كلمة ”عامية“ في سياق فصيح؟
وعندما تأكدت من وجود الكلمة في اللغة الفصيحة تساءلت: ما الذي جعلها إذن ممجوجة في السياق الذي استخدمت فيه؟
وهنا أدركت أن دوارنها وتكرارها على ألسنة العامة، في مثل قولنا في مصر: ”شقتي أربعة مطارح وحمام“، أي أربع غرف، صبغها بصبغة عامية غالبة، فلم تعد معها مناسبة للاستخدام في المستوى الفصيح جنبا إلى جنب مع بنات الفصحى.
وكان الأنسب في ذلك السياق أن تقول الكاتبة، إن كانت لديها قسط من الدراية بطبيعة اللغة العربية ومستوياتها:
”وسمح بذلك الدستور الأمريكي نفسه الذي مثلما كان صريحا في مواضع/مواقع فإنه غير واضح في نقاط أخرى ..“
وإن توقفنا عند كلمة ”حُجة“، التي استخدمتها المذيعة بصيغتها في العامية المصرية فنطقتها ”حِجة“، فسنجد أن معناها في اللهجة العامية المصرية، بعد جلبها من الفصحى، تغير وتحول إلى دلالة أخرى.
فحُجة في المستوى الفصيح تعني البرهان، كما ذكرت سابقا، مثل قولنا: ”أقام المحامي الحُجة على المتهم“، أي البرهان.
لكن معناها في اللهجة العامية أصبح ”ذريعة“، كما في قول العوام: ”غاب الشاهد عن الحضور بحِجة مرض زوجته“.
وهذا هو المعنى الذي كان في ذهن المذيعة المصرية عندما كتبت تقريرها وقرأته، فقالت: ”فضت باريس الشراكة عام ١٩٨١ مع سوريا بحِجة أن هذه الشراكة تتضمن مخاطر“.
هنا ارتكبت المذيعة خطأين:
- * أولهما أنها نطقت الكلمة بصيغتها العامية ”حِجة“
- * وثانيهما أنها أخطأت في اختيار المفردة الأنسب. إذ إنها أرادت أن تقول: إن فض الشراكة كان مبنيا على ”ذريعة واهية، وهي تضمنها مخاطر“، لكنها اختارت للتعبير عن ذلك المفردة الخاطئة التي تعني ”برهان“، وهي كلمة ”حجة“، لأن ثمة خلطا في ذهنها بين دلالة الكلمة في المستوى الفصيح ومعناها في المستوى العامي. ويرجع ذلك إلى قلة إدراكها وضحالة معرفتها.
ونلاحظ في الختام أن الخطأين في استخدام كلمة ”مطارح“، وكلمة ”حِجة“، في التقريرين السابقين لم ينتبه إليهما أي واحد من ”كبار“ المحررين في بي بي سي، الذين يراجعون ويدققون ما ينشر ويذاع، بسبب فقدانهم للمعرفة، ناهيك عن إدراك طبيعة اللغة ومستوياتها.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.