من أسرار اللغة: الكلمات والسياق الاجتماعي

الكلمات وسياقها الاجتماعي

الكلماتتحدثت في اليومية السابقة عن القدرة (الكفاءة) اللغوية Linguistic Competence التي نملكها جميعا في لغاتنا الأم، وبينت أن معرفة قواعد اللغة وصحة الكلام نحويا – Grammaticality، لا يكفيان وحدهما لأداء لغوي (كلاما وكتابة) سليم ومفهوم، بل لا بد معهما من معرفة ما تقبله الجماعة اللغوية التي ننتمي إليها في سياق أو مقام معين، وما لا تقبله – Acceptability. وذكرت أن ليس كل ما هو صحيح نحويا مقبولا لدى الجماعة اللغوية. واليوم أود أن أذكر عنصرا آخر ذا أهمية كبيرة في الأداء اللغوي الصحيح، كلاما وكتابة، وفي فهم ما نسمعه وما نقرؤه من كلام الآخرين وكتاباتهم. غير أني أريد أن أزيح – قبلُ – وهما قد يتوهمه بعضنا في تعامله مع اللغة. فقد يظن بعضنا أن معرفة قواعد اللغة، ووفرة المحصول اللفظي لديك منها، سيضعان قدميك على طريق إتقان تلك اللغة. فلو حفظت كتابا في قواعد اللغة، واستوعبت معجما صغيرا من معاجم اللغة، فلن يضمن لك ذلك البراعة المرجوة كلاما وكتابة وفهما، إذ مازلتَ مع ذلك تفتقد إلى عنصر آخر.

وهذا العنصر المفتقد هنا هو ما أسميه بالكفاءة (القدرة) اللغوية الاجتماعية، وهي ما يشار إليه في علم اللغة بأكثر من مصطلح، منها Social Competence، أو Communicative Competence الذي يتسم باتساع مفهومه أكثر، أو Social Contexct الذي كان يستخدم في كتابات خمسينيات وستينيات القرن الماضي في علم اللغة.

فما هو المقصود بالكفاءة الاجتماعية؟

ربما كان التمثيل هنا – أي الشرح باستخدام أمثلة – خير جواب.

لقد ضربت ذات مرة المثال التالي لطالباتي في كلية البنات بجامعة عين شمس، حينما كنت أدرس لهن مادة علم اللغة الاجتماعي، فطلبت منهن أن يتخيلن الموقف الآتي.

عميدة الكلية وهي داخل سيارتها الفارهة صباحا، وقد هدّأ السائق سرعته عند البوابة، فهب البواب من مقعده ليفتح البوابة الكبيرة للدكتورة العميدة. وفتحت البوابة ودخل السائق بالسيارة ثم توقف أمام باب مبنى الإدارة. وأسرع البواب ليفتح باب السيارة للعميدة، التي ترجلت من السيارة في تؤدة ووقف البواب إلى جوار بابها رافعا يده بالتحية حتى تنزل العميدة من السيارة. ونزلت العميدة فحيت البواب، والآخرين الذين التفوا حول السيارة بصوت خافت متسرع “صباح الخير”.

وسارع الجميع إلى رد التحية وكأنهم جوقة “صباح النور يا دكتورة”، إلا البواب الذي جرى نحو العميدة ليحمل عنها حقيبتها، وانحنى قليلا وقال “صباح النور يا عسل”.

وهنا انفجرت الطالبات في موجة ضحك عالية. وبعد أن هدأ ضحكهن، قلت لهن إن ضحكهن على المشهد الذي تخيلناه معا وما قيل، فيه أكبر دليل على أن شيئا ما قد حدث في المشهد خالف الأمور المعهودة لنا اجتماعيا، ونحن دوما نرفض ما يخالف مألوفنا الاجتماعي إما بالضحك، و إما بالانتقاد والسخرية.

إن ما أثار ضحك الطالبات هو ما قاله البواب – وينبغي ألا ننسى هنا أنه بواب، ذو مستوى اجتماعي معين – للعميدة، وهي هنا رئيسة جميع العاملين والعمال في الكلية، وهي ذات مستوى اجتماعي مختلف تماماً عن البواب. وفي ضوء هذا السياق الاجتماعي الذي يلعب فيه البطولة بواب وعميدة كلية، يمكننا أن نتوقع نوع التخاطب الذي قد يدور بين هذين البطلين في هذا السياق. فتعبير “صباح الخير” تعبير معتاد يستخدمه المتحدثون جميعا في مخاطبة أي شخص، من أي مستوى اجتماعي، وبغض النظر عن العلاقة الاجتماعية بين المتكلم والمخاطب.

أما المشكلة الحقيقية فكانت في استخدام البواب – وهو مرؤوس – لتعبير “يا عسل” الذي لا يمكن أن يستخدمه بواب في مخاطبة رئيسته أو مديرته، التي لا تربطه بها أي علاقة سوى علاقة العمل، وهما في هذا العمل متباعدان اجتماعيا تباعدا كبيرا. ونظرا لتلفظ البواب بشيء غير متوقع اجتماعيا، فقد أثار قوله ضحك الطالبات.

يمكن للبواب بطبيعة الحال استخدام تعبير “يا عسل”، في مخاطبة زوجته، أو خطيبته، أو بنت الجيران التي يشاكسها، أو أي فرد آخر من بني طبقته الاجتماعية، وممن تربطه به علاقة وطيدة تسمح بمثل هذا النوع من التخاطب.

ومن هنا ندرك أهمية الكفاءة (القدرة) الاجتماعية واستحضارها، جنبا إلى جنب قواعد اللغة، ومفردات اللغة، وقبول الجماعة اللغوية لما نعتزم استخدامه من كلمات، أو عبارات، أو تعبيرات خلال الحديث، أو عدم قبولها حتى لا نقع في مزلق يثير ضحك الآخرين علينا، وربما يثير سخطهم وسخريتهم المريرة أحيانا.

وأذكر هنا أيضاً ما حدث لي ذات مرة وكنت في العمل والتقيت بزميل، وهو رجل لطيف، وظريف، ومولع بمشاهدة الأفلام المصرية، وتقليد العبارات التي تتكرر فيها. سلمت عليه، والتفت إلى الناحية الأخرى لأذهب إلى وجهتي، لكني سمعته يناديني قائلا “تعال يا روح …”. وآذاني ما سمعت منه. لكنني أدركت أن هذا الرجل لا يسمع في الأفلام التي يشاهدها سوى الكلمات، دون أن ينتبه إلى سياقها الاجتماعي، ويأخذ في تردادها كالببغاء فرحاً بنفسه.

وأرجو ألا نقلده في تعاملنا مع الكلمات.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.