من أسرار اللغة: الكلمات بين القواعد والاستخدام

الكلمات بين القواعد والاستخدام

دار بيني وبين إحدى الزميلات في العمل اليوم نقاش أظن أنه كاشف، لأنه يٓبين عن طريقة تعامل بعضنا مع اللغة وكلماتها. وهذه الطريقة بحاجة إلى وقفة هنا لنعرف ما لها وما عليها.

كان مدار النقاش على كلمة “متخابر”، وإن كانت صحيحة.

قلت للزميلة إن الكلمة من حيث صيغتها (الصرفية) صحيحة، ولا غبار عليها. لكنني بادرتها بالسؤال الضروري الذي سيرد قطعا على خاطر أي مهتم باللغة، ألا وهو: ما هو السياق الذي استخدمت فيه الكلمة، أو الذي تريدين استخدامها فيه؟ وعرفت منها أنه سياق الجاسوسية والتجسس. وسرعان ما أبديت تحفظي على استخدام كلمة “متخابر” محل كلمة “عميل” في هذا السياق، وحجتي في ذلك هي أن كلمة “عميل” أكثر شيوعا في هذا السياق من كلمة “متخابر”، وفي لغة الإعلام – كما ذكرت لها – لا ينبغي أن نستخدم كلمات، أو عبارات قد تلفت القارئ أو المستمع أو المشاهد عن الخبر أو الحكاية، ولو حدث وفعلنا ذلك، لفقدنا الجمهور الذي سيكون قد ترك سير الحديث وأخذ يفكر في تلك الكلمة أو العبارة التي تعثر عندها.

ولم يقنع كلامي زميلتنا التي قالت: مادامت كلمة “متخابر” صحيحة، فلماذا لا نستخدمها! وعقبت “إننا نعقّد الأمور لغويا”!

وأعدت على مسمعها مسألة الشيوع مقابل الصحة من حيث القواعد، خاصة في لغة الإعلام، ثم انتهى النقاش بغير اقتناع منها، وبتوقفي عند ما ذكرت، وهو ما سمح به الوقت ساعتها.

بيد أني أريد هنا أن استكمل النقاش مضيفا إليه شيئا آخر من زاوية “علم اللغة”، الذي أحسب أننا لا يمكننا قط فهم اللغة، أي لغة، إلا في ضوء، أو أضواء من مناهجه ونظرياته وتحليلاته.

والقضية التي دار عليها النقاش هي قضية صحة الكلمات من حيث القواعد (بمعناها الشامل لقواعد الصرف وقواعد التراكيب، أو النظم)، في مقابل قبول الجماعة اللغوية لتلك الكلمات أو عدم قبولها في الاستخدام الفعلي، وهذا ما يكتب لتلك الكلمات إما الشيوع، وإما الانزواء والهجران.

نحن هنا نتحدث عما يعرف في علم اللغة بالفرق بين Grammaticality و Acceptability. فليس كل ما هو صحيح “نحويا”، “مقبولا” للاستخدام لدى الجماعة اللغوية التي تتحدث اللغة التي يدور عليها النقاش، وهي هنا العربية الفصيحة. وليس كل ما هو “مقبول” لدى جماعة لغوية ما “صحيحا” نحويا في لغتها.

فكلمة “متخابر” صحيحة من حيث صيغتها الصرفية، فهي اسم فاعل قياسي، لكن هل هي مقبولة الاستخدام في لغة الإعلام لتحل محل كلمة “عميل” في سياق الحديث عن التجسس والجاسوسية؟ هذا هو السؤال المهم الذي علينا أن نجيب عليه.

لكنا يجب أن نوضح أولا أن الصحة النحوية، مسألة معيارية يتعلمها أبناء اللغة الأقحاح خلال عملية تعلم اللغة الأم من أمهاتهم وآبائهم بطريقة تلقائية، دون معلم أو درس، وهي مسألة تدخل تحت ما يسميه تشومسكي بالكفاءة (القدرة) اللغوية – Competence.

أما مسألة قبول جماعة لغوية لكلمة ما للاستخدام، أو عدم قبولها، فترجع إلي ما يسميه اللغويون بالسليقة اللغوية – Intuition، والسليقة تختلف من جماعة لغوية إلى أخري، بحسب البيئة الجغرافية، وربما العمر، وغير ذلك من العوامل.

وأنا أزعم أنا – نحن متحدثي العربية الفصيحة الآن – نواجه مشكلة مع المسألتين كلتيهما. فالفصيحة ليست لغة أي منا الأم، فلغاتنا الأم التي تعلمناها من أمهاتنا، ولا نخطئ فيها، ولدينا فيها كفاءة (قدرة) لغوية، هي ما نسميه باللهجات العربية. وهذا يعني أننا ينبغي أن نكون حذرين عندما نحكم على كلمة بأنها صحيحة نحويا، إذ يجب أن نتأكد إن لم نكن نعلم. فالعربية الفصيحة بالنسبة إلى كل متحدث منا هي لغة ثانية، يجب أن نوليها ما تستحقه اللغة الثانية من اهتمام وعناية ودرس، وألا نأخذها أبدا بلا اكتراث واهمين أنها لغتنا الأم.

ونحن أيضاً – كما أزعم – نواجه مشكلة مع مسألة السليقة اللغوية، التي لا تتوفر إلا لدى متحدثي اللغة الأصلاء. لكن لا جدال في أنا نملك تلك السليقة اللغوية بالنسبة إلى لغتنا الأم، أي اللهجة التي نتكلمها منذ الصغر، ونشأنا عليها.

وفي ضوء هاتين المشكلتين لابد لنا – نحن متحدثي العربية الفصيحة الآن – من استصحاب المعيارين معا عند الحكم على الكلمات، وتعاملنا معها، فنتأكد من صحة كل كلمة من حيث القواعد النحوية، ومن مدى قبول جماعتنا اللغوية لها، ومدى شيوعها، دون أن نغلب الصحة النحوية على قبول الجماعة اللغوية. كما ينبغي هنا أيضاً أن نستصحب السياق الذي تستخدم فيه الكلمة، أو الكلمات قيد البحث أو النقاش، إذ إنه سيساعدنا أيما مساعدة في الانتصار لكلمة على أخرى، إن كانت الكلمتان صحيحتين من حيث القواعد.

وأختم بالقول بأن معرفة قواعد اللغة، أو نحوها، لا يكفي وحده معيارا في التعامل مع الكلمات، فلا يغتر أحدنا بما ألم به من علم النحو، بل لا بد لنا أيضاً من معرفة ما تقبله الجماعة اللغوية، أو أصحاب حرفة أو مهنة ما، وما لا تقبله في سياق ما دون غيره.

ولهذا حديث آخر.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.