من هيئة الإذاعة البريطانية إلى “بي بي سي” عربي

من هيئة الإذاعة البريطانية إلى بي بي سي

احتفال بي بي سي عربي بعيد ميلادها –الذي يحل في الثالث من يناير/كانون الثاني، حين بدأت أول بث لها قبل خمسة وسبعين عاما في عام ١٩٣٨- يذكرني دوما بأغنية للمطرب والشاعر الشعبي العراقي عزيز علي (١٩١١-١٩٩٨) سمعتها في أرشيف الإذاعة.

تدور كلمات الأغنية – وليس ذلك مصادفة – على الراديو، واليوم فعلا، كما تقول كلمات الأغنية، هو يوم الراديو.

تقول كلمات المونولوج، وهو الفن الغنائي الذي كان لعزيز علي فضل إدخاله في الغناء العراقي:

“ها اليوم يوم الراديو …”

“الراديو دا يصبحنا ودا يمسينا، الراديو دا ما انام يصحينا”

“الراديو دا يعلمنا ودا يقرينا، ما كنا نعرف شي لو ما هالراديو”

“أصبح كل واحد من عدنا يشوف بعينه ويسمع بادنا، ويميز اليسرى م اليمنى”

“ويدري بالحرب وبالهدنة، ويقرا الممحي بالراديو”

“ويعرف أسرار الراديو، رحم الله اللي سوا الراديو”.

تاريخ حافل

وما بين ١٩٣٨ و٢٠١٢ كان تاريخ حافل بالأحداث والتحولات والإنجازات.

كانت البداية إذاعة عربية موجهة، في وقت لم تكن فيه إذاعات عربية موجهة مشهورة، ببث لا يتجاوز الساعة الواحدة. وسارت المحطة الوليدة على خطى الإذاعة الأم من حيث القيم الإعلامية الملتزمة بالحيادية في تقديم الأخبار، بفريق محدود العدد من المذيعين العرب.

ونمت المحطة، واحتضنت العشرات من المذيعين والصحفيين، وزادت ساعات بثها حتى أصبحت أربعا وعشرين ساعة في أواخر عام ٢٠٠١، مواكبة خلال مسيرتها الحرب العالمية الثانية، وأحداثا عالمية وعربية كثيرة أخرى، ساعية إلى الحفاظ على الحيادية قدر الإمكان، بيد أنها لم تسلم من انتقاد طرفي كل صراع.

وتوسعت بي بي سي عربي فخرجت من عباءة الإذاعة لتخوض غمار البث التليفزيوني الفضائي في عام ١٩٩٤ لمدة عامين تقريبا، ثم أعادت التجربة مرة أخرى في ٢٠٠٨.

وبادرت إلى دخول مجال الإنترنت، بتأسيس موقع عربي لها في عام ١٩٩٨، يزداد تصفح الجمهور العربي له وتفاعله معه يوما بعد يوم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.

وقدمت بي بي سي عربي منذ سني نشأتها الأولى برامج للتواصل مع مستمعيها، فبثت في عام ١٩٤٣ أولى حلقات برنامجها “ندوة المستمعين” لأول مرة، ثم أتاحت في التسيعينات لمستمعيها العرب بعد ذلك الفرصة لمواجهة مسؤوليهم عبر الإذاعة في برنامج “دعوة للحوار”.

ثم قدمت عبر الوسائط الثلاثة: الإذاعة، والتليفزيون، والإنترنت، “نقطة حوار” لإعطاء جمهورها منبرا يبدون من خلاله الرأي في الأحداث والقرارات والتغيرات التي تمر بها مجتمعاتهم.

وأتاحت بي بي سي الفرصة في أواخر التسعينيات لمجموعة من الشباب كي يقدموا برنامجا عن الشباب وقضاياهم ومشكلاتهم.

تاريخ شخصي

هذه معالم بي بي سي عربي كما يعرفها جمهورها، بيد أن ثمة تاريخا آخر لبي بي سي يوجد بين ضفاف ذكرياتي التي تجمعت خلال سنوات وسنوات من العمل في تلك المؤسسة الإعلامية الطويلة العمر.

في ذلك التاريخ الشخصي لبي بي سي – كما عرفتها – مرت المحطة بحقبتين تميزان أسلوبها، وبرامجها، ومذيعيها، وتوجهها الإعلامي.

هيئة الإذاعة البريطانية

أولى تلك الحقبتين – وهي التي أسميها حقبة “هيئة الإذاعة البريطانية” – بدأت في عام ١٩٣٨ مع النشأة الأولى للإذاعة، واستمرت حتى أواخر التسعينيات. وتميزت الإذاعة فيها بالاعتناء بالصياغة العربية الرصينة، وتحري الدقة اللغوية في الأداء.

وكانت “الصبغة” العربية هي السمة الغالبة التي تميزت بها تلك المرحلة، ومن هنا شاع تعبير “هيئة الإذاعة البريطانية” علما على الإذاعة.

كان في الإذاعة في تلك الحقبة مذيعون يتميزون بجمال الصوت وطلاوته، ومترجمون مشهود لهم بالقدرة في اللغتين العربية والإنجليزية، وحسن الترجمة وجودة السبك في الصياغة. وكان هناك فصل واضح بين عمل كل منهما.

وأذكر أن أحد الزملاء سألني متخابثا عندما التحقت بالإذاعة في الثمانينيات “أنت هنا قراءة، ولا كتابة؟”، وهو يعني بالقراءة مذيعا، وبالكتابة مترجما.

وكان المذيع في تلك الحقبة “خطيبا” يتميز بصوت جهوري، وينحو في قرائته إلى “الإلقاء”. ولم يكن المذيع ناقلا للخبر أو المعلومة فحسب عبر الأثير، بل ناقلا متحمسا، ومثيرا للحماس، عدته في ذلك صوت جهوري –كما قلت- وطريقة إلقاء تميل إلى الخطابة.

وعرفت الإذاعة من تلك المدرسة أعلاما بارزين، أذكر منهم ماجد سرحان من فلسطين، ومحمد الأزرق من المغرب، ونجا فرج وحسن أبو العلا من مصر، ومديحة المدفعي، وسامية الأطرش من العراق.

أسلوب متميز

وكان أسلوب الإذاعة في تلك الحقبة متميزا بتلك الصبغة “العربية”. وكان المذيع يخاطب مستمعيه دوما بـ”سيداتي وسادتي”.

وكان إرسال الإذاعة اليومي يفتتح بتلاوة من القرآن، سجل بعضها خصيصا لبي بي سي.

“لاريب أنكم جميعا تعلمون أن ندوتنا عبارة عن حلقة اتصال بيننا وبينكم، وأننا نحاول جهد المستطاع كسب عطفكم، وتلبية طلباتكم”

وكان المذيع يستخدم تعبيرات في خطابه لجمهوره لا نعهدها إلا في تلك الحقبة. وفي أول إذاعة خارجية من هيئة الإذاعة البريطانية في عام ١٩٣٨ خاطب المذيع جمهور مستمعيه متوددا إليهم بالقول “إخواني وأخواتي في الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحن هنا في كاردف، حيث يحتفل إخوانكم المسلمون بعيد الفطر، أعاده الله عليكم بكل خير وعافية، وكل عام وأنتم بخير”.

وفي تلك الحقبة كانت بريطانيا “دولة عظمى” – كما قال مقدم الإذاعة الخارجية عن مدينة كاردف – في حديثه عن المدينة “وهي عاصمة مقاطعة ويلز في بريطانيا العظمى”.

وفي أول حلقة من “ندوة المستمعين” بدأ المذيع قائلا “سيداتي وسادتي، أسعد الله مساءكم”. ثم لاحظوا رصانة الأسلوب الذي تميزت به الإذاعة في تلك الحقبة، ومفهوم العلاقة بين الإذاعة، متمثلة في مذيعها، وجمهورها، “لاريب أنكم جميعا تعلمون أن ندوتنا عبارة عن حلقة اتصال بيننا وبينكم، وأننا نحاول جهد المستطاع كسب عطفكم، وتلبية طلباتكم”.

“من بواعث سرورنا أن يشترك معنا في الرابطة الفكرية لهذا المساء حضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك”

وفي تلك الحقبة أيضا كان “الشرق الأدنى” هو ما يعرف الآن بـ”الشرق الأوسط”، وكانت الدول العربية “أقطارا”، فيتحدث المذيع عن رسالة من القطر المصري مثلا.

وكنت تسمع في تلك الحقبة تعبيرات من قبيل “لعمري لا يمل المرؤ الاستماع إلى حديث الأخطل الصغير، وإلى شعره المخلد”.

وكان الضيوف يخاطبون -أو يشار إليهم- بعبارات مثل “أستاذي الكبير”، و”الأديب الكبير عباس محمود العقاد رحمة الله عليه”، و”من بواعث سرورنا أن يشترك معنا في الرابطة الفكرية لهذا المساء حضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك”.

مرحلة وسيطة

وظلت الإذاعة على ذلك عهدا، لكنها لم تستطع الاستمرار على ذلك النحو بعدما رفعت الإدارة شعارات “ترشيد الإنفاق” وتوظيف عاملين يستطيعون العمل بكفاءة مذيعين ومترجمين على السواء.

وكان هناك مرحلة وسيطة بين حقبة “هيئة الإذاعة البريطانية” ذات الصبغة العربية الرصينة، والحقبة التالية لها، لكن تلك المرحلة الوسيطة لم تستمر طويلا، ولذلك لم أتكلم عنها كحقبة مستقلة.

في تلك المرحلة الوسيطة ظهر “المذيع المترجم”، الذي يتميز بالكفاءة في القراءة والكتابة معا، بعد أن انقضى عهد الفصل بين “المذيع” و”المترجم”. وولى في تلك المرحلة عصر “المذيع الخطيب”، وانتقل المذيع من قراءة نشرة الأخبار –التي كانت ساحته الرئيسية في الحقبة الأولى، يجول فيها ويصول- إلى تقديم البرامج والجولات الإخبارية التي يشارك في إعداد موادها، ونقل بعضها من الإنجليزية، وإجراء المقابلات الإذاعية مع المحللين والسياسيين والمسؤولين.

وظلت الإذاعة في تلك الفترة تعرف بين العاملين فيها وبين أفراد جمهورها باللقب ذاته “هيئة الإذاعة البريطانية”.

بي بي سي عربي

وفي أواخر التسعينيات انتقلت الإذاعة إلى الحقبة الثانية المهمة، وهي المرحلة التي أسميها مرحلة “بي بي سي عربي”.‪

حتى غرفة الأخبار اختلف شكلها عن الحقبة الماضية.

في تلك الحقبة أخذت الصبغة “العربية” تتلاشى، ولذلك بدأ اسم “هيئة الإذاعة البريطانية” في الانزواء، وحل محله اسم جديد ذو دلالة على الهوية الجديدة وهو “بي بي سي عربي”، وانحسر صوت تلاوة القرآن، فلم يعد الإرسال يفتتح به.

وكانت بوادر تلك الحقبة قد لاحت مع بدء ظهور موقع الإذاعة على الإنترنت، وتردد تعبيرات من قبيل “أونلاين” على استحياء، أول الأمر، ثم شيوعها وسيطرتها من بعد.

وفي تلك المرحلة –التي لاتزال بي بي سي العربية تعيش في ظلها حتى الآن- ظهرت برامج جديدة، أكدت ملمح الحقبة الجديدة، أذكر منها “بي بي سي إكسترا”، و”فور تك”، و”أجندة مفتوحة”، و”توب غير”.

وفي تلك المرحلة تغلبت “الصحافة” على “الإذاعة”، وأصبحت “الرسالة” الصحفية المراد توصيلها إلى الجمهور، مستمعين ومشاهدين ومتصفحين، أكثر أهمية من الوسيط.

وأصبح “المذيع الصحفي” الذي يتمتع بالمهارة الصحفية هو الشخص الملائم للمرحلة، وخبت أصوات كانت تعد علامة فارقة في مسيرة بي بي سي العربية في حقبتها الأولى ولم يكن غياب هؤلاء بسبب تقاعدهم، بل لأنهم لم يعد لهم مكان في الحقبة الجديدة.

وفي هذه المرحلة تمكن عدد من الصحفيين من دخول استديو الإذاعة مذيعين بسبب مهارتهم الصحفية، وإن كانوا لا يتمتعون بالطلاوة والجهورية التي كانت سمة مذيعي الحقبة السابقة.

وأتاحت الحقبة المجال أمام الصحفيين الجدد –وبعض القدماء أيضا- لكتابة تحليلاتهم للأخبار، بعد أن كانت تلك مهمة مقصورة على محللين من الصحفيين الإنجليز فقط.

شكوى

لقد أدى شيوع مصطلحات “الصحافة”، و”الرسالة الصحفية”، إلى إغفال أهمية الوسيط، ووقوع بعض الأخطاء أحيانا، سواء في التليفزيون، أم الإذاعة، أم الموقع الإلكتروني.

وتلك شكوى يرددها عدد من جمهور بي بي سي عربي، الذين عهدوا منها –في مرحلة سابقة- رصانة لغوية، وتحريا وتدقيقا، لكل ما يبث عبر منابرها المختلفة.

وحتى تتمكن بي بي سي العربية من الاستمرار -إلى ما بعد الخامسة والسبعين- في وسط إعلامي تزداد فيه المنافسة الشديدة، وقد امتلأت الساحة بأعداد غفيرة من المحطات، لا بد أن تعيد بي بي سي عربي من جديد التوازن الواجب بين الاهتمام “بالرسالة”، والعناية اللازمة بالوسيط، خاصة اللغوي.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.