الدعاية للدستور المصري ومصادرة الآراء

الدعاية للدستور المصري تحليل للخطاب

امتلأت الشوارع فى المدن المصرية، وعلى رأسها القاهرة، بلافتة عُلقت يمينا ويسارا، تدعو المصريين إلى المشاركة فى التصويت على الدستور الجديد، حتى قبل إعلان الرئيس المؤقت عدلى منصور عن موعد الاستفتاء.

ولا ضير فى حث أبناء الشعب على ممارسة حق من حقوقهم الديمقراطية، ألا وهو الإدلاء بأصواتهم فى الاستفتاء الذى نأمل أن يكون بداية استقرار تحتاجه البلاد.

لكن المشكلة تكمن فى المصادرة على حق المصريين فى الإدلاء بأصواتهم بحرية مطلقة ودعوتهم، بطريقة غير مباشرة، إلى التصويت بالموافقة على مشروع الدستور الجديد فى إعلان نتوقف عنده فى هذه المقالة محللين له باعتباره جزءا من مكونات خطاب سياسى ينحو فى جانب منه نحوا غير ديمقراطى. فقد صيغ الإعلان بطريقة تنم عن دراية بعلم النفس، وسبل التأثير فى اتجاهات الناس.

ولا ينبغى أن نهون أبدا من شأن أى إعلان، أو لافتة قد تبدو صغيرة إذ إن لها تأثيرا كبيرا يعادل تأثير الخطابات السياسية إن لم يفقها أحيانا.

فالصورة والإعلان واللافتة والإعلام والموسيقى والأغنيات والزى والملابس والكلمات والخطب تُكوّن جميعها ما نسميه بـ«الخطاب السياسى».

ونحن ندلى بأصواتنا فى الانتخابات، أو الاستفتاءات، متأثرين بحملات انتخابية ودعايات وشعارات وصور وخطب تلقى. والزعماء يستخدمون الخطاب السياسى بمكوناته المختلفة لخوض الحروب أو لإنهائها ولعقد اتفاقات أو لفسخها ولتجييش أفراد الشعب للسير وراء كتائبهم.

ولا نعلم أى جهة تقف وراء تلك اللافتة، إذ لا تحتوى أى إشارة إلى إدارة ما، أو هيئة محددة، أو وزارة معينة. لكن لا شك أن الحكومة المصرية تعرف تلك الجهة، أو الأشخاص، الذين مولوا حملة نشر ذلك الإعلان، لأنهم لابد قد حصلوا على إذنها وموافقتها قبل توزيع اللافتات وتعليقها فى الشوارع.

وكنا نود من السلطات أن تتمهل قليلا، وتدرس بتأن ذلك الإعلان والطريقة التى صيغ بها، قبل السماح بنشره.

إذ إنه يصادر على حرية أفراد الشعب فى الإدلاء برأيهم بالموافقة أو الرفض بإرادة مطلقة، بل توجههم وجهة معينة، حتى وإن كان فى تلك الوجهة صالح البلاد. فإجراء استفتاء ما يعنى بداهة إعطاء المستفتين الحرية كاملة دون أى تأثير فى اتجاهاتهم، ليحددوا خيارهم دون تدخل.

إذا نظرنا ــ فى ضوء ما سبق من القول ــ إلى اللافتة، كما تبدو فى الصورة، نجد أنها، من حيث الصياغة، لا تشمل غير ثمانى كلمات مختارة بعناية ومرصوفة جنبا إلى جنب بدقة.

ولو بحثنا عن الكلمات الأساسية التى نتوقع ورودها فى أى استفتاء على أى دستور، لوجدناها موجودة فى اللافتة. ففيها كلمة «دستور»، و«مشاركة»، و«نعم»، وهذه هى أهم ثلاث كلمات فى الاستفتاء على الدستور، من جهة ترغب فى حض الناس على الموافقة عليه.

وإلى جانب تلك الكلمات، ثمة خلفية مهمة فى عملية الإقناع بالتصويت بـ«نعم» تمثلت فى تعبيرى (٣٠ يونيو)، و(٢٥ يناير)، وفى استخدامهما هنا، ليس فقط إشارة إلى ما حدث فى هذين التاريخين، بل فيه أيضا استثارة للعواطف التى صحبتهما فى نفوس المصريين، أو فى نفوس عدد كبير منهم.

وإذا انتقلنا إلى الجانب الثانى، وهو رصف الكلمات الثمانى التى اشتملت عليها اللافتة، واجهتنا طريقة ترتيب تلك الكلمات، وتقديم بعضها على بعض. فقد قدمت كلمة «المشاركة» فوضعت فى بداية الإعلان، لأن الهدف المرجو من اللافتة برمتها، هو حض الجماهير على المشاركة فى الاستفتاء. واستتبع ذلك، بطبيعة الحال، ورود كلمة «الدستور» ثم «نعم» عقب المشاركة لتظل الكلمات الثلاث مرتبطة ببعضها فى أذهان قراء الإعلان.

واختار الإعلان صيغة الجملة الاسمية حتى يتسنى وضع كلمة المشاركة، وهى اسم، فى صدارة اللافتة، ثم جاء الجزء المكمل للتركيب الاسمى، أى عبارة (يعنى نعم)، ليحصر المشاركة أمام القراء فى خيار واحد فقط، هو «نعم».

وهنا يجب أن أقول إن الإعلان ــ بغض النظر عن الخطأ فى تذكير الفعل «يعنى» فيه، وكان ينبغى تأنيثه، أى «تعنى»، لأنه يعود على المشاركة ــ صيغ بحنكة ليوهم قارئه لأول وهلة بأن «نعم» موجهة إلى ٣٠ يونيو، و٢٥ يناير، وذلك باستخدام حرف الجر «لـ».

أما الجانب الثالث الذى استخدمه الإعلان للتأثير فى قرائه، إضافة إلى الكلمات ورصفها، فهو الجانب الفنى المتمثل فى الأشكال والألوان المستخدمة فيه. ولا شك أن اختيار اللون الأحمر خلفية للافتة، أمر متعمد، لأن فى الأحمر إثارة، وربما يكون فيه أيضا إشارة إلى الدماء التى سالت خلال انتفاضة الشعب.

ووضع الإعلان فى شكل عمود طولى لا يتسع كل سطر فيه إلا لكلمتين فقط. وهنا نلاحظ أن كلمة «الدستور»، وهى كلمة محورية، احتلت وحدها سطرا كاملا، لإبرازها أكثر من غيرها من الكلمات. ولم يكتف الإعلان بهذا لإبراز الكلمة، بل أضاف إلى ذلك عنصرا آخر من عناصر الإبراز، وهو وضع الكلمة فى مربع ذى خلفية لونية بيضاء ليكون أكثر ظهورا، ولفتا للأعين.

واستخدم الإعلان الأسلوب ذاته مع كلمة «نعم»، فوضعها فى مربع ذى خلفية لونية خضراء، واللون الأخضر لون محبب فى نفوس الناس لارتباطه بأشياء كثيرة: دينية متمثلة فى الرايات الخضراء، ونفسية تتمثل فى ارتباط هذا اللون بالنبات والإثمار.

وهكذا وضع الإعلان كلمتى «الدستور» و«نعم» بطريقة جعلتهما صنوين لا ينفصلان، من حيث إبرازهما، ليظلا أيضا مرتبطتين فى نفوس قرائه، وليؤثرا فى قراره.

وبهذه الطريقة التى صيغ بها هذا الإعلان، لغويا وفنيا، لم يترك مجالا لكثير من الأفراد، البسطاء وربما غير البسطاء، للتفكير وإعمال العقل فى القرار الخطير الذى سيتخذونه يوم الاستفتاء، بل حاول أن يسوقهم نفسيا إلى وجهة محددة تريدها الجهة التى فكرت فى الإعلان ومولته ووزعته.

وأحسب أنه كان من الأجدر فى الإعلان عن الدستور الجديد، أن يبرز المواد التى يريد من أفراد الشعب الالتفات إليها، فى عدة إعلانات مختلفة، دون تدخل أو توجيه، أو مصادرة للآراء، خاصة أن هذا الإعلان انتشر فى الشوارع فى فترة «الحوار المجتمعى» للدستور.

(نشرت هذه المقالة في صحيفة الشروق المصرية في ٢٠١٣)

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.