محاولة لفهم ملصق ”هل صليت على النبي؟“

محاولة لفهم ملصق هل صليت على النبي؟

أثيرت ضجة كبيرة في مصر قبل سنوات حول ملصق انتشر على الجدران وفي أرجاء الشوارع، وعلى جنبات السيارات، يذكّر المسلمين بالصلاة على النبي، عليه السلام.

ونحن المصريين شعب يميل إلى التدين، ووضع الملصقات، واللافتات، أو الكتابة على الجدران فيه – في رأيي – منبر للتنفيس عن مكنوناتهم، كلما تعثرت المظاهر الديمقراطية في الحياة السياسية.

كما أن الالتجاء إلى الدين، ورفع بعض الشعارات المرتبطة به، وكتابة بعض الأدعية، وتذكير أفراد المجتمع بما ترى ثلة منا أنه ”من صميم الدين“، ليس أمرا جديدا علينا، فهو قديم ومنتشر على سيارات النقل منذ أمد بعيد. وقد يشير تزايد تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة إلى ما يتنازع نفوسنا من خلط، نخبط معه هنا وهناك بحثا عن هويتنا، والتمسك بأهداب أي شيء قد يكون ذا صلة بتلك الهوية.

ولست أريد الوقوف طويلا عند دلالة الملصق، وما دار حوله هنا.  لكنني أود التوقف عند محتوى الملصق ذاته، وما يدعو إلى التذكير به، وهو ” الصلاة على النبي”، محاولا عرض وجهة نظر لفهمه، قد تحد من غلواء الجدل.

وأنا أقدم هنا رأيا آمل أن تتسع صدور القراء له أولا، وأن يتفكروا فيه بتعقل ثانيا، قبل إلقاء أي حكم جزافا.

لكن دعوني أقدم لوجهة نظري بعرض بعض الملاحظات العامة المتعلقة بمنهجنا الفكري.

أولا: يميل كثير منا – نحن المسلمين – عندما نتعامل مع القرآن الكريم ، أو نستشهد به، أن نقف فقط عند آية أو آيتين، دون التفات إلى سياق السورة التي وردت فيها الآية قيد النقاش، أو حتى الآيات السابقة واللاحقة، أو الآيات التي وردت فيها الكلمة أو العبارة التي نتناقش بشأنها، إذ إن القرآن يفسر بعضه بعضا. وغالبا ما يفضي بنا هذا النهج إلى التوصل إلى نتائج غير صحيحة، في كثير من الأحيان.

ثانيا: كما أننا ننحو في تناولنا للنصوص إلى الوقوف عند المعاني القريبة السطحية، والتوقف عند حرفية النصوص، دون أن نتعمق فيها، أو نربط بعضها ببعض، ودون أن نقرأها في سياقها، مغفلين غالبا مقاصد الدين أو الشريعة.

ثالثا: ولست أبالغ إن قلت إننا نقنع في سلوكنا – في معظم الأحيان- بالجانب اللفظي، ولا نتخطاه إلى الفعل أو العمل، متوهمين أن ”الفعل الكلامي“ يغني عن ”الفعل“ ذاته. وفكرة الأوراد الدينية اليومية التي يلزم بها بعض المتدينين أنفسهم أكبر دليل على ذلك. فلو قلت كذا  وكذا .. ١٠٠ مرة .. كتب لك كذا وكذا .. في الجنة، أو غفر لك كذا وكذا .. من سيئاتك.

ولذلك تمتلئ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الآن بمئات، بل آلاف الدعوات إلى ترداد عبارات وجمل معينة، أو كتابتها وإرسالها للآخرين – تماشيا مع طبيعة وسائل التواصل في عصرنا – لنوال أمر أو آخر من أمور الدنيا، وحتى من أمور الآخرة.

وفي ضوء هذا كله ينبغي أن ننظر إلى ملصق “هل صليت على النبي اليوم؟” وسأحاول هنا وضعه في سياقه القرآني الذي ورد فيه، للتعرف على معناه الحقيقي، بحسب فهمي.

وردت مسألة “الصلاة على النبي” في سورة الأحزاب في الآية ٥٦ (إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

وأحسب أن لدى كثير من المسلمين وهما هنا، ألا وهو أن الله تعالى خص نبيه الكريم محمدا عليه السلام وحده  “بالصلاة عليه”، مدللين على ذلك بالآية السابقة. وهذا استنتاج – في رأيي – غير صحيح.

ففي سورة الأحزاب نفسها آية أخرى، وردت قبل آية الصلاة على النبي ببضع آيات، وهي الآية ٤٣ التي تقول  “هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما.”

فالله سبحانه – كما تبين الآية ٤٣ – يصلي على عباده، ومن بينهم نبيه الكريم، كما تبين الآية ٥٦. ولكن ما هو المقصود بصلاته تعالى؟

لنعد إلى الآية ٤٣ من سورة الأحزاب ونقرؤها في سياقها، فقد سُبقت الآية بآيتين أخريين، هما “يا آيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (٤١) وسبحوه بكرة وأصيلا (٤٢) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما (٤٣).

في الآيات دعوة صريحة من الله تعالى إلى المؤمنين بذكره وتسبيحه، لأنه سبحانه هو الذي”يصلى“ علينا هو وملائكته، والعلة وراء “صلاة” الله وملائكته على عباده، هي إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور. فهل تعني صلاة الله هنا: الرحمة أو المغفرة منه؟ وإن كان هذا هو معنى “الصلاة” المقصود – كما تذهب إلى ذلك معظم كتب التفسير – فكيف تكون ”صلاة“ الملائكة؟ هنا وجد المفسرون أنفسهم في مأزق لأن الملائكة لا ”ترحم” ولا ”تغفر“، فقالوا إن صلاتهم هي ”الدعاء“  للمؤمنين بالرحمة والمغفرة.

ولست أجد هذا التفسير مقنعا، بالرغم من نقل معظم المفسرين له عن بعضهم بعضا. فهو لا يأخذ في الحسبان مسألة “إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور” علة لصلاة الله تعالى على عباده هو وملائكته.

وأنا أزعم هنا أن المقصود بـ”صلاة“ الله تعالى، و”صلاة” الملائكة“ هو تأييده ونصرته سبحانه، مسخرا ملائكته، لمساعدة المؤمنين للخروج من الظلمات إلى النور. وتأييده ونصرته هو وملائكته دائم للمؤمنين، بدليل استخدام صيغة الفعل المضارع في الآية الكريمة، وهي ”يصلي“.

وقد يسأل أحدنا: وما علاقة هذا المعنى الذي تذهب إليه بالفعل ”يصلي“ في الآية، إذ ليس من بين معاني ”يصلي“ التأييد والنصرة؟ وهذا صحيح، لكن الفعل ”يصلي“ يدل في أصله اللغوي على ”الصلة“، فالله سبحانه دوما على ”صلة“ بعبده المؤمن يؤيده وينصره حتى لا يحيد.

وهذا هو المعنى نفسه الذي أذهب إليه في تفسير آية الصلاة على النبي ”إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما“، خاصة إذا استحضرنا هنا السياق العام لسورة الأحزاب التي وردت فيها الآية، وهو ما لخصه القرطبي في تفسيره (أحكام القرآن) عندما قال إن السورة  “نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله .. وطعنهم فيه ..” فقد كان النبي عليه السلام، مع إيذاء المنافقين له وطعنهم فيه، بحاجة إلى مساندة ربه ونصرته هو وملائكته.

والآيتان اللتان تلتا آية الصلاة على النبي تؤكدان ما أذهب إليه من معنى. إذ يقول الله تعالى مباشرة بعد آية الصلاة على النبي  “إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (٥٧)، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا(٥٨).

ففي سياق إيذاء المنافقين تشد الآية من أزر النبي وتطمئنه بالقول إن الله سبحانه، وملائكته، ”يصلون عليه“، أي يؤيدونه وينصرونه في مواجهة هذا الإيذاء، وهذا أيضا ما يطلبه الله من الذين آمنوا، أن يؤيدوا النبي وينصروه، وأن يسلموا لهذا الأمر الذي أمرنا به الله تسليما.

هذا ما طلبه الله تعالى من المؤمنين الذين عاصروا ما حدث من المنافقين للنبي من إيذاء عند نزول الآيات السابقة، وهذا أيضا ما تطلبه الآيات من المؤمنين جميعا في كل عصر، بعد وفاة النبي عليه السلام، أن يؤيدوه وينصروه بالعمل والفعل، وليس بتكرار صيغ ”الصلاة“ مئات، أو آلاف المرات، كما نفعل.

فهل نصرتنا وتأييدنا للنبي يقف عند حد الشقشقة والطنطنة، وترداد الكلمات؟

وهل يفيد النبي من شقشقة الألسن مهما كثرت، بعد أن أيده الله ونصره هو وملائكته؟

وإذ كان أمر الصلاة على النبي أمرا إلهيا صريحا – كما يتضح من الآية الكريمة ”صلوا عليه“ – فهل يجوز أن نرد هذا الأمر من الله تعالى عليه ثانية – حاشاه – فنقول له “اللهم صل أنت على محمد …“ دون أن نفعل شيئا من جانبنا استجابة لأمره؟

والأمر الإلهي إلينا بالصلاة على النبي، مثل غيره من الأوامر التي أمرنا بها المولى تعالى، يحتاج إلى فعل، وليس إلى ترداد كلام. فعندما يأمرنا الله تعالى بأداء الصلاة، أو بالصيام، أو بإيتاء الزكاة، أو بالصلاة على النبي، فهو سبحانه يتطلب منا أفعالا تؤدى، وليس أقوالا تردد.

وكم بالغنا في صيغ الصلاة، وبالغت الروايات الواردة في الأحاديث، في جزاء من صلى على النبي حتى بلغت به إحدى تلك الروايات، نوال الشفاعة يوم القيامة، لمجرد تكرار وترديد ألفاظ بعينها عددا من المرات.

وفي ثقافتنا الإسلامية كتب كثيرة في فضل الصلاة على النبي، لعل أشهرها كتاب (دلائل الخيرات) لمحمد بن سليمان الجزولي.

نحن بحاجة إلى وقفة نتدبر فيها كثيرا مما أصبحنا نردده دون وعي، بل أضحينا أيضا ندعو غيرنا إلى تكراره.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.