يوميات صائم: رمضان ٢٠١٣

يوميات صائم ٢٠١٣

 ٣٠ شعبان

‫كنا ونحن أطفال نعرف بمقدم رمضان بمرور الرؤية. وهذا تقليد قديم نشأت عليه في مدينة الفيوم الواقعة جنوب القاهرة. كان يمر بشوارع مدينتنا موكب كبير في اليوم الذي تشرئب فيه اﻷعناق واﻷبصار إلى السماء لرؤية ميلاد هلال الضيف القادم. كان الموكب يضم جميع أصحاب الحرف والصناعات، إلى جانب فرقة موسيقى الشرطة والمطافئ التي تتقدم الموكب في زيها المميز وبأصوات آلاتها الفريدة وطبولها الضخمة. وكنا نعرف الموكب اختصارا بالرؤية: فكنا نتساءل طلعت الرؤية؟ وكنا – صغارا – نسارع إلى الاصطفاف على اﻷرصفة لمشاهدة الرؤية بألوانها الزاهية وراياتها المرفوعة المرفرفة ونغماتها الفريدة.

‫فأين الرؤية هذه الأيام من الرؤية أيام زمان؟

١ رمضان

نهجنا الفكري ورؤية هلال رمضان

‫بدء الشهور الإسلامية، خاصة رمضان، وقت يظهر فيه بجلاء نهج المسلمين الفكري.

‫فاختلاف المسلمين فيما بينهم على بدء شهر رمضان بسبب “رؤية” الهلال، أو عدم تمكن رؤيته، أمر أشعر معه بأسف شديد باعتباري مسلما. وقد لاحظت مثلا انقسام الجالية المسلمة في مدينة برمنجهام البريطانية إلى ثلاث طوائف، كل منها بدء رمضان في يوم مختلف، واحتفل بعيد الفطر في يوم مختلف.

سبب هذا الاختلاف هو تمسك المسلمين في موضوع استطلاع هلال الشهر بحديث “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته …”، وتضييق تفسير “الرؤية” على الرؤية البصرية التي لم يكن متاحا غيرها في بداية الإسلام.

هذا الإصرار على الأخذ بالـ”الحديث” وحده هنا، وعلى قصر دلالة الرؤية على البصرية فحسب يوضح موقفنا الفكري من مسألتين مهمتين.

أولا: موقفنا من العلم، فلماذا لا نريح أنفسنا، ونتفق على اتخاذ الحساب الفلكي في هذا الأمر، كما نتخذه في تحديد مواقيت الصلاة، لأيام وشهور وسنين قادمة؟ ولو فعلنا ذلك لكنا – من وجهة نظري – أقرب إلى النهج القرآني الذي ينبه في غير آية إلى (الشمس والقمر بحسبان)، أي بحساب دقيق، وفي هذا آية من آياته سبحانه.

ثانيا: موقفنا من القرآن الكريم، فقد تركنا تعاليمه هنا في هذه المسألة، ولا يتذرعن أحد بأنه لا يوجد في القرآن إشارة إلى هذا، فهو غافل إن فعل. فالقرآن يقول (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)، إضافة إلى الآية السابقة التي ذكرتها عن دقة الحساب في حركة الشمس والقمر. الطامة الكبرى أن الحديث أصبح هو المرجع والمعول عليه، هجرا للقرآن.

رمضان كريم

٢ رمضان

تفهيم القرآن

‫يشار كثيرا إلى رمضان بأنه شهر القرآن، وذلك لنزول القرآن الكريم فيه. يقول تعالى “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”. وفي شهر رمضان يهب المسلمون إلى صلاة التراويح التي يختتمون خلالها مع نهاية الشهر سور الكتاب الكريم. ومن الصائمين كثيرون يعتزمون ختم القرآن يقرؤون منه كل يوم جزءا. والمسلمون في ذلك مدفعون بآية الكتاب السابقة، وبأحاديث كثيرة منها “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”. وهكذا ينفر المسلمون لقراءة القرآن، ولختم القرآن، بعضهم يختمه في أسبوع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في سنة. ويتبارى بعض آخر لتعلم قواعد تجويده، ولحفظه. وهكذا نشأت لدينا أجيال وأجيال من قراء القرآن وحفظته.

ولكن هل تراهم يفهمون ما قرؤوا أو ما حفظوا؟

وإن كانوا قد فهموا فلماذا امتلأت ساحاتنا ومنابرنا وقنواتنا الفضائية بالمتشددين والمتعصبين، والقرآن لا يدعو إلى أي تعصب أو تشدد؟

إنهم لم يفهموا القرآن، لقد وقف جهدهم المحمود عند الشكل فحسب: القراءة، والحفظ، وقواعد التجويد، والختمة.

إنني أدعو إلى تعليم أبنائنا تفهيم القرآن، قبل تجويده وقبل حفظه.

ودعوني أحكي لكم ما قاله لي رجل باكستاني بسيط، لكنه مستنير، يعمل في محل لتنظيف الملابس، وكنا نتحدث عن أوضاعنا، وشيوخنا وعلمائنا، فقال لي هؤلاء – يقصد العلماء والشيوخ من المسلمين – يجب أن يقرؤوا العالم قبل أن يقرؤوا القرآن.

وصدق صاحبنا، فعلماء ديننا يعيشون داخل دفتي القرآن: قراءة وحفظا وتجويدا، وداخل صفحات كتب الحديث، وكتب التفسير القديمة، وداخل عصر قديم قد ولى، دون أن يلتفتوا لما يجري حولهم في العالم الخارجي.

اقرؤوا العالم يا مسلمين قبل أن تقرؤوا القرآن.

رمضان كريم

٣ رمضان

ما أشد الفقد

‫شعور الفقد في رمضان – خاصة في الغربة – جامح جاثم.

‫كم أفتقد جمعنا الصغير في بيتنا في مدينة الفيوم، عندما كنا نتحلق حول “الطبلية” (وهي تعريب table) المستديرة التي تركن إلى الأرض على أربع أرجل ولا تعلو على الأرض بأكثر من ٣٠ سنتيمترا، نجلس على الأرض: أمي وأخي وأخواتي الثلاثة. أما أبي فكان قد فارقنا، ولا أذكر جلساته معنا، فقد رحل وأنا لما أبلغ العاشرة.

‫وانفض الجمع، فقد توجهت إلى بريطانيا، ورحلت أمي، وغادرت أختاي الكبريان، ولم يعد لرمضان ذاك الطعم، أو الرائحة، أو اللون. ولكن بقيت منه أصداء وذكريات: صوت الشيخ محمد رفعت، وصوت المسحراتي، وصوت المصلين في المسجد الصغير في حارتنا وهم يتابعون صلاة التراويح ركعتين ثم يستريحون ليقوموا لركعتين أخريين، ونحن – أطفال الحارة – نجلس عند عتبة المسجد نتفرج.

كم أفتقد هذا كله: الزمان، والمكان، ومن كانوا يروحون ويجيئون فيه ويفعمونه بالحياة والصخب.

كم أفتقد المسحراتي، الذي عرفناه لسنوات، بجلبابه وطبلته، ومشيته العرجاء، إذ لم يعد يملك إلا رجلا وحيدة. وكنت وأنا طفل أظن أن جميع “المسحراتية”، هكذا مثله، برجل واحدة، رحمه الله. كنت حينما أسمع صوته، أندفع إلى شباك غرفتنا المطل على الحارة لألقي نظرة عليه، ثم أجري في أرجاء البيت أعلمهم بأن السحور قد حان أوانه.

وكلمة مسحراتي – وهنا تلح المهنة فاسمحوا لي – كلمة غريبة لغويا: فهي مشتقة من السحور، وكان ينبغي أن تكون النسبة إليها “مسحّر”، كما قال أحمد أمين في قاموس العادات والتقاليد المصرية، لكن هذه الصيغة المستخدمة في الإشارة إلى أصحاب بعض الحرف في النسب صيغة مصرية فيما أحسب، فنحن نقول: مسحراتي، و عجلاتي (من يؤجر العجل – أي الدراجة – ويصلحه)، وصرماتي (الإسكافي)، و جزماتي، وخردواتي.

وكم أفتقد صوت المدفع، ولست والله محبا للعنف، لكنني نشأت على تقليد يطلق فيه المصريون المدفع عند الغروب وقبيل الفجر إعلاما للصائمين بوقت الإفطار ووقت ما كانوا يسمونه الإمساك. وكنا عندما نسمع صوت مدفع الإمساك نمسك فعلا عن الطعام والشراب، وإن بقي على آذان الفجر دقائق.

وهنا في لندن خفت صوت المدفع، وتلاشت دقات طبلة المسحراتي، وانفرط عقد الماضي، ولم يبق منه إلا ذكرياته.

رمضان كريم

٤ رمضان

“الشعب يريد رمضان الأربعاء”

‫عودة مرة أخرى إلى موضوع استطلاع هلال رمضان، فما حدث للمسلمين في فرنسا، ومنهم، شيء عجاب ومخز.

‫فقد قرر المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في شهر مايو الماضي اتباع الحساب الفلكي في تحديد بداية شهر رمضان ونهايته، من أجل صالح المسلمين الذين يعملون في شركات غير إسلامية، ويريدون إبلاغ أصحاب الشركات بيوم إجازتهم في العيد.

‫وبعد النظر في الحساب الفلكي، قرر المجلس أن بداية رمضان هو يوم الثلاثاء ٩ يوليو، وأبلغ المساجد بذلك. وهذا في رأيي أمر طيب.

وجاء الثلاثاء وبدأ مسلمو فرنسا صوم يومهم الأول، لكن بعضهم علم بأن دولا عربية من بينها السعودية ومصر، لم تتمكن من رؤية الهلال بالطريقة التقليدية، ولذلك حددوا بداية الشهر بيوم الأربعاء ١٠ يوليو، فانتفض بعض مسلمي فرنسا رافضين استكمال صومهم، ومطالبين – متأثرين بفورات الربيع العربي – ببدء الشهر يوم الأربعاء. واضطر المجلس الفرنسي للرضوخ عقب تلك الانتفاضة، وأدى هذا إلى البلبلة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، فمنهم من أوقف صومه، ومنهم من واصل.

وهكذا هزم النهج العلمي المستنير المتبع للحساب الفلكي الدقيق، وهو – كما ذكرت في يومياتي تلك من قبل – ما يتفق ونهج القرآن الكريم، ورضخ للنهج التقليدي، ولانتفاضة أظنها غير “راشدة” طالبت بالصوم يوم الأربعاء.

لقد أسفت كثيرا لهذا الحدث، ولمشهد المسلمين في فرنسا وقد بدوا متفرقين، يجرون وراء التقليد.

لكن ليس المسلمون كلهم مثل هؤلاء، فمازال هناك مسلمون في أماكن أخرى، مثل تركيا، ومثل المسلمين في ألمانيا – ومعظمهم ينحدرون من أصول تركية – مستنيرين، قرروا منذ أمد تبني الحساب الفلكي، رافضين للفرقة وللتقليد، وأحسب أن الخير فيهم بإذن الله تعالى.

ورمضان كريم

٥ رمضان

ما جعل عليكم في الدين من حرج

‫كنا نتناقش، أنا وبعض الأصدقاء بشأن عدد ساعات الطويلة التي يجب على مسلمي بريطانيا صيامها، والتي تزيد على ثماني عشرة ساعة. وعرفت خلال النقاش بفتوى أصدرتها دار الإفتاء المصرية بهذا الصدد، وتبيح لهؤلاء الإفطار على توقيت مكة المكرمة. وسألني صديق عن رأيي فقلت له على من تضطره ظروف العمل، ولا يطيق تحمل صوم الساعات الطوال أن يأخذ بتلك الفتوى. أما من يطيق التحمل ويستطيع أداء واجبات عمله فيمكنه أن يواصل الصوم.

ونبهت أصدقائي، وأنا هنا لا أفتى، بل أقول ما فهمته من خلال قراءتي للقرآن الكريم، إلى أمرين مهمين: أولهما أن الله تعالى كرر غير مرة فكرة منع الحرج عن المسلمين في كتابه، عقب بعض الفروض، “وما جعل عليكم في الدين من حرج”، وذلك أصل مهم ينبغي تفهمه عند أعداء الشعائر. وأستأنس هنا أيضاً بآية سورة طه “طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى”. أما الأمر الآخر فهو أن قيمة الحياة الإنسانية عند الله تعالى والحفاظ عليها أكثر أهمية من أداء أي شعيرة. ولذلك مثلا أباح المولى عز وجل أكل المحرمات عند الاضطرار حفاظا على حياة الإنسان. وفي ضوء هذين الأصلين المهمين يمكن أن نسلك الطريق بلا تشدد أو تنطع.

ورمضان كريم

٦ رمضان

التحكم ثم التحكم

‫سألني صديق إنجليزي عما يمثله رمضان بالنسبة لي.

‫قلت: أنا لا أظن أن الهدف من الصوم هو الامتناع عن الطعام والشراب، لكي نحس بالجوع والعطش الذي يحس به من لا يملكون القوت أو القدرة على الحصول عليه.

‫لكني أحسب أن صوم رمضان فرصة يجب اغتنامها للسيطرة على النفس: على جموحها، وعلى سطوتها، وعلى شهواتها، وعلى نوازعها، وعلى أمرها بالسوء، وعلى وسوستها، وعلى طمعها، وعلى حبها للتملك.

والصوم لذلك فترة تدريب عظيمة على التحكم في النفس، تدريب قد نحتاج إليه في أوقات وأوقات. ولا أنسي القول المأثور الذي يقول “نفسك مطيتك”، فالأقوياء منا يركبونها ولجام التحكم في أيديهم، أما الضعفاء منا فتركبهم وتجمح بهم هنا وهناك فلا يملكون منها فكاكا. وفي ذلك مولد الشر لبني البشر من هذا الصنف، ولمن حولهم إذ تطالهم شراراته.

وفي ضوء هذا المعنى، لا أميل إلى موافقة جمال البنا رحمه الله في فتواه بالسماح للمدخنين بالتدخين في رمضان. صحيح أن الدخان ليس طعاما ولا شرابا، فنحن لا نأكله، ولا نشربه – وربما كان هذا هو عماد فتوى البنا – لكن في التدخين لدى المدخنين – وكنت واحدا منهم – إشباعا لرغبة عارمة، ولا يتفق إشباع الرغبات – إن لم أقل الشهوات – والتحكم في النفس، أو وصوم رمضان.

ورمضان كريم

٧ رمضان

معركة “بدر” الثانية

‫هذه بشرى للمتظاهرين في ميدان رابعة العدوية، والميادين الأخرى بالقاهرة: يجوز لكم الإفطار، لأنكم في “جهاد”.

‫هذه فتوى بعث بها مرشد الإخوان المسلمين محمد بديع في تغريدة من تغريداته على موقع التواصل الاجتماعي تويتر أمس الأحد 15 يوليه. وقال في التغريدة “يجوز للأخوة المتظاهرين لاستعادة الشرعية الإفطار في رمضان، لأنهم في حالة جهاد”.

‫عفوا فقد ضللتكم، فالإفطار مباح فقط لمن يجاهدون لاستعادة “الشرعية”! فلا يجوز لـ”مجاهدي التحرير”، لله دركم يا معتصمي التحرير.

الأمر المثير هو أن المرشد يهيئ الأجواء لمعركة. فقد قال في واحدة من تغريدتين سابقتين أرسلهما يوم السبت 14 يوليه: “اقترب 17 رمضان ذكرى معركة بدر الأولى، شدو العزم والهمة أيها المؤمنون المدافعون عن الشرعية، سنحيي ذكرى بدر الأولى بمعركة ستكون بدر الثانية”.

وأضاف في أخرى “اجتمعت اليوم بمجموعة من قيادات التنظيم ودرسنا الموقف ووضعنا أكثر من خطة استعداداً لمعركة بدر الثانية في 17 رمضان الحالي، والله الموفق”.

وحذر المرشد من الفرار من أرض المعركة فقال: “حكم مغادرة ساحة رابعة العدوية كحكم من يفر من المعركة والجهاد ضد الكفار. اثبتوا يا أنصار الشرعية، ولا تتركوا أماكنكم، النصر بإذن الله قادم”.

هذا الخطاب السياسي ياسادة بحاجة إلى وقفة.

فالرجل يؤلب أنصاره على المصريين الآخرين، وهو يستخدم في ذلك “إطار المعركة الذهني – Frame”.

فاستخدام كلمات “معركة بدر”، و”جهاد”، و”الجهاد ضد الكفار”، و”ساحة رابعة العدوية”، و”النصر بإذن الله قادم” كلها تستحضر في أذهان متلقيه “صورة” معركة وساحة قتال يتم فيها جهاد ضد كفار، ويكتب فيها النصر.

للكلام خطورة قد لا يقدرها بعضنا، واستخدام الكلمات يستحضر بالضرورة صورا ذهنية، أو أطرا ذهنية – بحسب نظرية الإطار الذهني “Frame” التي يعد جورج لاكوف، أستاذ علم اللغة الإدراكي الأمريكي أحد أعلامها – فعندما ننطق بتعبير “معركة بدر”، فإن هذا يجلب في ذهن المتلقي صورة ذهنية عن بدر ومعركتها كانت قد تراكمت لديه عبر خبرات من الدراسة ومن وسائل الإعلام.

هذه هي المرحلة الإدراكية التي تتمثل فيها صورة “معركة بدر”، يتبعها نزوع نحو سلوك تحدده عوامل عديدة منها طبيعة الشخص، ومدى شحنه العاطفي وحماسته، وتأثير الصورة الذهنية فيه.

ويتعقد الموقف حينما تتعدد الصور الذهنية، عندما تتابع على مسمعه أو أمام بصره كلمات ذات تاريخ في تراثه الديني: “معركة بدر”، و”جهاد”، و”الجهاد ضد الكفار”، و”ساحة رابعة العدوية”، و”النصر بإذن الله قادم”.

هذا شحن عسكري للشباب الذين يعتصمون في رابعة العدوية باستحضار غزوة بدر، أي بتوظيف الدين، وذلك لقتال من؟ هل سيقاتلون كفارا؟ هل هذا جهاد بالفعل بحيث يباح للمعتصمين الإفطار؟ وأي نصر هذا الذي سيقتل في ساحة معركته المصري مصريا شقيقا له؟

هل من رشيد يضع مصر وحمايتها ومصلحتها نصب عينيه؟ اللهم ارحم مصرنا التي ابتليت في أبنائها.

ورمضان كريم

٨ رمضان

القليل يكفي

 

تعلمت وما زلت أتعلم في رمضان دروسا كثيرة أذكر منها هنا واحدة: القليل يكفي.

‫في حياتنا العادية اليومية تجتذب أنظارنا ألوان الطعام والشراب، وقد أتقن العارضون وتفننوا في تلوينها وزخرفتها وعرضها، فيسيل لعاب الغريزة، فنندفع إلى إشباع الرغبة، فليس هناك ما يمنع من الإشباع إن تيسر المال.

‫أما في رمضان فالمعروض من الطعوم والمشارب هو هو، والتفنن هو هو، بيد أن الرغبة ليست هي هي، إذ إنها مكبوحة، ليس بسبب ضيق في ذات اليد، ولكن لأن القلب والفؤاد والعقل يتطلع إلى ما هو أسمى من اللون والزخرف، إلى السمو في التحكم في النفس ورغباتها.

وتحين ساعة الإفطار فلا تهفو النفس إلا إلى القدر الذي تحتاجه، وما أدركته في رمضان أنه قليل قليل. غير أن بعضنا، ولا أريد أن أقول معظمنا، يتكالب على صنوف الأكل والشراب وقد أصبح مباحا ليشبع الشهوة ناسيا أو متغافلا عن الهدف الأسمى من وراء الصوم.

وهكذا يعاني المسلمون في رمضان وبعد رحيله من زيادة الوزن، بعد أن اشتكوا في أيامه من التخمة كل يوم. وكان من المفروض أن ينهي الصائمون شهرهم وقد تخلصوا من أدران الجسد وشحومه، بعد أن اكتفوا خلال أيامه بالقليل الذي يسد رمق الرغبة والقليل القليل الذي يحكم إغلاق منافذ الشهوة.

وليس في هذا دعوة للزهد والتصوف، لكنها الحقيقة التي نغفلها وسط لهونا بحشو المعدة، وإشباع الرغبة بإسراف يقل نظيره في أيامنا العادية، بسبب فقدان عنصر الحرمان الموجود في رمضان.

ولكن ما أحوجنا إلى الزهد والتصوف في هذا العصر الذي طغت فيه شهوات الغلو والتطرف والتشدد، ونسينا أن للإسلام جانبا روحانيا تمهله وسائل الإعلام، عن قصد أو تجاهل.

ولنتذكر القول المأثور “صوموا تصحوا”.

ورمضان كريم

٩ رمضان

تدبر آي الصيام

‫عرف الصيام في الشرائع السابقة على الإسلام: في اليهودية والمسيحية والبوذية، كما عرف أيضاً في بعض أنواع اليوجا. ولذلك فلا غرابة أن يفرض على المسلمين.

‫ومن يقرأ آيات الصيام في سورة البقرة يواجه في أولها لفظ “كُتب”، وهو يعني هنا فيما أحسب “فُرض”. وهذا اللفظ خاصة يسبق الفروض الشاقة، مثل القصاص، والقتل، والصيام. وحتى يخفف الله تعالى العبء على الصائمين نبه إلى أن الصيام “أيام معدودات”، فهو ليس دهرا، ولا شهورا. ومن باب التخفيف أيضاً جواز الإفطار عند السفر أو المرض. ثم يختم المولى سلسلة التخفيف بقاعدة عامة “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”.

والصيام – كما قلت في يومية سابقة – هو تدريب شاق على السمو على نوازع النفس وغرئزها وشهواتها، ومن ثم يكون الصائم بعده أكثر روحانية وتحكما في النفس. ولا غرابة أن تختتم آي الصيام في السورة بآية “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان”.

والصيام إحدى الكفارات عند القتل الخطأ، والحنث في الحلف. لكن الصيام في حال كفارة القتل الخطأ لن يفيد منه أهل القتيل، لكنه – مرة أخرى – من باب التيسير والتخفيف، حتى على القاتل الذي لا يملك المال لدفع الدية، فعليه أن يؤدب النفس بالصيام، لأن النتيجة رقي في التحكم في النوازع.

ولهذا جاء ترتيب الصيام بعد الإسلام والإيمان والقنوات والصدق والصبر والخشوع والتصدق، ثم الصيام، كما وردت تلك الصفات في آية سورة الأحزاب “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا”.

لمحة لغوية أخيرة: فقد استخدم القرآن في الحديث عن هذا الفرض العظيم كلمة “صيام”، ولم يستخدم كلمة “صوم” إلا مرة واحدة في قول مريم عليها السلام “فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا”، وقيل إن الصوم هنا هو الامتناع عن الكلام، وليس الصيام عن الطعام والشراب، وكيف يأمرها بالصيام وهي ترضع، ولذلك افتتح الآية الكريمة بنصحها بالأكل والشرب، حتى تطفئ شهوة الجوع و”تقر عينا”.

ورمضان كريم

١٠ رمضان

بين عصرين

‫في هذا اليوم من رمضان، لا أستطيع إغفال الذكرى.

‫في العاشر من رمضان – قبل أربعين عاما – عبرت القوات المصرية مسلموها ومسيحيوها قناة السويس، واندفع الجنود إلى أرض سيناء، وكسروا حاجز الهزيمة، ورفعوا العلم المصري، وهتفت قلوبهم قبل حناجرهم الله أكبر، في ملحمة رائعة.

‫وفي العاشر من رمضان – بعد أربعين عاما من ذلك التاريخ – عبر أفراد الشعب المصري شوارع القاهرة الحزينة واندفعوا إلى ميدانين: ميدان التحرير، وميدان رابعة العدوية، وقد مزقتهم الفرقة، وهشموا سياج وحدتهم، ورفع بعضهم علم تنظيم أسود بغيض، وهتفت حناجر بعضهم لـ”الشرعية”، ولـ”الصناديق” التي يعبدونها من دون الله، في ملحمة مؤلمة.

وكتب أحدهم على موقع تويتر “إن لم تكن قد نلت شرف الاعتصام في رابعة، هيا اذهب إلى جزء من جنة النعيم”.

في العاشر من رمضان عام ١٩٧٣ كنا نقاتل عدوا بغيضا هو إسرائيل.

وفي العاشر من رمضان عام ٢٠١٣ يقاتل بعضنا بعضا.

ويحلو لبعضنا تصوير الحال على أنها “معركة”، والأرض على أنها “جزء من الجنة”، والدماء على أنها “أغلى من دمائهم”.

أنا أومن بالديمقراطية، كما يدعون أنهم يفعلون، بيد أني أومن بمصر أكثر، وبحرصي على مصر أكثر، وحماية مصر أكثر، وبمصلحة مصر أكثر.

فلو تمزقت مصر يا سادة وتضعضعت، ما نفع الديمقراطية، وعلى من ستمارسونها؟

ولدى سؤال يؤرقني: هل سلك أنصار الشرعية والصناديق – عندما خرجت حشود من الشعب تعلن عن غضبها من سوء الحال، ولها مطلب واحد، انتخابات مبكرة، وهو مطلب ديمقراطي – أي مسلك ديمقراطي يهونون به من غضب بعض أبناء الشعب؟

لا، بل خروا على أصنامهم هاتفين “الشرعية، الشرعية”، و”الصناديق، الصناديق”.

ارحموا مصر، وثوبوا إلى رشدكم، وكفوا عن عبادة الأيدولوجية، وطاعة الأمير، وعودوا إلي الإسلام الحقيقي الذي نسيتموه.

لست متشائما، بل أحسب أن هناك أملا، في شباب رفع شعارا “…. بلا عنف”.

ورمضان كريم

١١ رمضان

“القرآن” وأسلمة اللغة

‫يومية اليوم فيها مسحة لغوية فاعذروني!

‫لفظ القرآن في العربية يفيد القراءة، وكان أول التنزيل أمرا بالقراءة. والمسلمون مأمورون بقراءة ما تيسر منه، وتلاوته على مهل، خاصة في رمضان. والقراءة التي أفهمها ليست مرور عينيك على الكلمات والسطور والصفحات، لتفرغ من حزب أو جزء أو أكثر، وإنما هدفها التمعن، ولذلك أُردف الأمر بها بصفات مثل “على مكث”، و”على مهل”، و”ترتيلا” التي تعني – ضمن ما تعني – بتمهل.

ولفظ القرآن من الكلمات القلائل التي يخالف المصريون فيها قواعد لهجتهم الصوتية. فصوت “القاف” في العربية الفصيحة يتحول إلى “همزة” في العامية المصرية، فنقول في “قال = آل” وفي “قدم = أدم”. لكنا لا نقول في “قرآن = أرآن”. وإنما نستبدل بها كلمة “مصحف”. وإذا أردنا استخدام “القرآن” في حديث بالعامية، فإننا نبقي “القاف” سليمة صحيحة، كما نسلك المسلك ذاته مع كلمة “القاهرة”.

وكلمة قرآن، كما يلفظها العرب والمصريون في أيامنا كلمة مفخمة في النطق، فصوت “القاف” صوت مفخم – عكس صوت “الكاف”، نظيره المرقق – ولذلك أثر في الأصوات المجاورة له في الكلمة حتى شاع التفخيم فيها جميعا، فأصبحنا ننطق “قرآن” مفخمة كما ننطق كلمة “غلطان”.

لكن انقساما لغويا بدأ يدب في أوساط المصريين، ونطق كلمة “قرآن” مظهر بارز من مظاهره. فقد أخذت تجري على ألسنة بعض دارسي التجويد وقواعده في مصر من الشباب – من الإسلاميين خاصة – صيغة نطق أخرى للكلمة (هي الصيغة القرآنية) فينطقونها كما ننطق كلمة “حرمان”، فيبقون صفة التفخيم في “القاف” فقط، لكنهم يرققون الأصوات الأخرى المجاورة لها، لأن الكلمة تنطق هكذا في قراءة القرآن الكريم.

وهذا اتجاه نحو أسلمة اللغة بدأ يغزو العامية المصرية، وأصبح وسيلة تستطيع عن طريقها تحديد هوية المتكلم الدينية، وخلفيته الثقافته. وهؤلاء أيضا يقولون “صحابه”، كما نقول نحن “سحابة”، مع الإبقاء على تفخيم “الصاد” فقط، ويقولون “طعام”، كما نقول نحن “نعام”، مع الإبقاء على تفخيم “الطاء” فقط. وأصحاب هذا الاتجاه أيضا إذا رزقوا بولد وسموه عليا، فلا ينادونه – كما اعتدنا، علي، كما ننطق الياء في كلمة “ذكي” – بل يصرون على تشديد الياء، فينطقونه “عليّ”.

وهذا منحى جديد بعض الشيء في اللغة، فالذي تعلمناه بالنسبة للفروق اللهجية بين الناس، هو أن أهل اللغة تختلف لهجاتهم بحسب البيئة الجغرافية (مثل لهجة الصعيد، ولهجة الوجه البحري)، أو بحسب الثقافة ونسبة التعليم (مثل لهجة المثقفين، والأميين)، أو حتى بحسب المهنة أو الحرفة أحيانا. أما أن ينقسموا بحسب التوجه الديني، فهذا مظهر جديد وطريف.

ورمضان كريم

١٢ رمضان

“الله” في لغات العالم

‫من بين أفضل ترجمات القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية ترجمة العالم الباكستاني عبدالله يوسف علي، التي صدرت طبعتها الأولى في عام ١٩٣٤ في لاهور.

‫ولي مع هذه الترجمة حكاية. فقد نبهني صديق (باكستاني هو الآخر) إلى فرق ملحوظ في الترجمة في طبعاتها الأولى، وطبعاتها التالية، بعد وفاة المترجم وتولي دولة عربية كبيرة نشر ترجمته.

كان يوسف على يستخدم في ترجمته كلمة (God) مقابلا للفظ الجلالة (الله) في العربية. ولكن ذلك تغير في الطبعات التي صدرت عقب وفاته، فأصبحت الترجمة تضع كلمة (Allah) مقابلا للفظ الجلالة.

وأحسب أن تغيير ما اعتمده المترجم، واللجوء إلى استخدام كلمة (Allah)، لم يكن قرارا صائبا. فهو يعطي انطباعا أن “إله” المسلمين يختلف عن “الإله” في الشرائع الأخرى. وأنا هنا لا أعني مفهوم “الإله” وتصوره وصفاته في الشرائع الأخرى، فهذا أمر قد يكون مختلفا عما يوجد في الشريعة الإسلامية، لكننى أقصد أن عقيدتنا الإسلامية تدين بوجود إله واحد لهذا الكون، يُعرف في العربية بلفظ “الله” – وهذا اللفظ عُرف في العربية قبل نزول القرآن الكريم – ويعرف في اللغات الأخري بألفاظ أخري، مثل “God” في الإنجليزية، و”إلوهيم” في العبرية. فاستبعاد لفظ “God”، واستخدام لفظ (Allah) في سياق إنجليزي قد يُفهم خطأ من قراء الترجمة من أبناء الثقافات الأخرى.

الصورة المنعكسة لما أقول هنا سبب مشكلة كبيرة في ماليزيا، لاتزال آثارها موجودة حتى الآن. فقد رغب المسيحيون من أبناء الجالية الصينية في ماليزيا في استخدام كلمة (Allah) في طقوسهم، وأداء صلواتهم. فهاج المسلمون وثاروا، رافضين هذه الرغبة. ورفع الأمر إلى القضاء، فقضت المحكمة بالسماح للمسيحيين باستخدام الكلمة، لأنها ليست حكرا على المسلمين. لكن رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق رد على حكم المحكمة بتصريح غريب قال فيه “إن حكومته ستواصل التمسك بالإسلام وحماية قدسيته، بما في ذلك استخدام كلمة “الله”، بما للحكومة من تفويض من الشعب”.

وقبل أيام طلبت السلطات الماليزية من سفير الفاتيكان التراجع عن مساندته المسيحيين في ماليزيا في استخدام كلمة “الله” فيما بينهم.

وهكذا يؤكد بعض المسلمين مرة أخرى – بالرغم من الاعتدال الذي تعرف به ماليزيا والذي راقني جدا عندما زرتها قبل عامين – نوعا من ضيق الأفق، الذي لا أظنه في صالحهم.

ويبدو أننا في الوطن العربي أفضل حالا، فقد راجعت ترجمات الكتاب المقدس (الذي أصبح ينشر الآن تحت اسم “الكتاب الشريف”) إلى العربية، ووجدت فيها كلمة “الله”، في أول سفر التكوين “في البدء خلق الله السموات والأرض”.

وهذا شيء مبشر، أحييه فأقول “الله .. الله”.

ورمضان كريم

١٣ رمضان

حكاية أول “مصحف” في حياتي

‫نشأت في بيت كان يرتاده كل صباح، في نحو العاشرة أو ما بعدها، شيخ “راتب”، أي شيخ كُلف بالحضور كل يوم ليرتل بعض الآيات في البيت ثم ينصرف. وما زلت أذكر أن اسمه كان الشيخ رمضان، رحمه الله. كان الشيخ مكفوف البصر، يصطحبه أحد أولاده إلى بيتنا، وربما إلى بيوت أخرى. وما لفت انتباهي وأنا طفل أن قارئنا الشيخ رمضان كان أعمى، وأن إمام مسجدنا الصغير في الحارة كان أعمى، وأن مقيم الشعائر في المسجد ذاته كان أعمى. لقد فقدوا نعمة البصر، لكن الله حباهم استنارة البصيرة.

وكان أهل البيت يدعون الشيخ وشأنه يؤدي وظيفته، فيتردد صوت كلام الله في أرجاء البيت، وأحسب أن أهلي كانوا يعتقدون أن في رنين أصداء التلاوة في أجواء البيت بركة، فالبيت الذي لا يتلى فيه كلام الله تعالى – كما تعلمنا – بيت خرب.

وما زلت أذكر صورة لأبي وهو جالس يقرأ في مصحفه وردا يوميا يداوم عليه يتضمن سورتي ياسين والواقعة. وكان أبي قد أتيحت له فرصة التعلم، فأنهى المرحلة الأولية. أما أمي، فلم تتلق تعليما نظاميا في مدرسة، لكن أباها – كما حكت لنا – أحضر لها شيخا علمها مبادئ القراءة والكتابة في البيت، وقسطا من القرآن الكريم، ولذلك كانت رحمها الله تحسن القراءة في المصحف.

وقد أهديتها مصحفا كانت له معي حكاية. ففي السنة الأولى من المرحلة الثانوية، كنت مولعا بالقراءة في كتب الأدب والتاريخ والفلسفة، وكان في مدرستنا دفتر خاص كنا نسميه “ثمرة القراءة”، يلخص فيه الطلاب الكتب التي يقرؤونها على مدار السنة، ويسلمونه في نهاية العام إلى مدير مكتبة المدرسة. وفي تلك السنة فزت بجائزة أحسن قارئ في المدرسة، وكانت الجائزة مصحفا متوسط الحجم، بغلاف بني اللون من الجلد، وجنيها مصريا جديدا لامعا. احتفظت بالجنيه لنفسي، لكني أعطيت المصحف لأمي. وظلت تقرأ فيه حتى وفاتها.

كنا في الماضي نصحو على صوت القرآن الكريم ينساب من الإذاعة المصرية، محطة البرنامج العام، وهي المحطة الرئيسية آنذاك. ونستمع في المساء قبل نشرة أخبار الثامنة والنصف إلى تلاوة من آي الذكر الحكيم، وكان لكل قارئ من قرائنا المشهورين يوم محدد. ومازلت أذكر أن يوم الاثنين كان يوم الشيخ محمد رفعت.

وعرفنا في مصر قراء عظماء، بل كانت المدرسة المصرية في تلاوة القرآن اتجاها تعلم منه كثيرون. وكان القراء المشاهير لا يكتفون بحفظ القرآن وتعلم قواعد تجويده فقط، بل كانوا أيضا يدرسون الموسيقى العربية ومقاماتها، وعلى قدر تعلمهم كانت كفاءتهم في الأداء.

وما يحزنني اليوم هو خفوت صوت المدرسة المصرية في تلاوة القرآن الكريم، وابتعاد قرائها عن صدارة ساحة التلاوة، بعد ظهور قراء آخرين جلبهم معهم المصريون الذين كانوا يعملون في دول الخليج العربي، وكتب لهم الانتشار ومزاحمة قراء مصر العظماء، لأن هؤلاء القادمين الجدد على الساحة – كما يروج بعض غير العارفين – يقرؤون القرآن بحسب “الطريقة الشرعية”، وفي هذا مغالطة قد أعرض لها في يومية أخرى.

ورمضان كريم

١٤ رمضان

تلاوة القرآن والموسيقى

‫ارتباط تلاوة الكتب المقدسة بالموسيقى ومقاماتها ليس أمرا غير مألوف في معظم الثقافات. فالنفس تنزع بفطرتها إلى الموسيقى، ولها تطرب، وبها تلين. وبحور الشعر وإيقاعاته مبنية على الموسيقى، ولذلك يسهل تلحين القصائد والتغني بها.

‫وموسيقى القرآن الداخلية النابعة من صوغ كلماته، ورصفها في تراكيب متناسقة من حيث الإيقاع والطول – أحيانا، خاصة في السور المكية – والفواصل، أمر تدركه الأذن. ولذلك يطرب له السامعون والمستمعون.

ولعل هذه الموسيقى الداخلية هي التي دفعت قراء القرآن – منذ أزمان – إلى تلوين قراءته بالمقامات الموسيقية. وأنا أزعم أن جميع قراء القرآن الكريم المجيدين يقرؤون بالمقامات الموسيقية، وأن الفرق بين مدرسة وأخرى هو فرق في قدر استخدام المقامات الموسيقية ومدى تنوعها، وليس في وجودها أو غيابها.

فقراء المدرسة المصرية، وقراء المدرسة التركية، وقراء المدرسة السودانية يقرؤون بالمقامات. لكن هناك خلافا جوهريا ينبغي الالتفات إليه، وهو أن كل قارئ من هؤلاء يتأثر دون أن يشعر بإيقاعات موسيقى بلده. إذ يشعر المستمع الذي ينصت لقارئ سوداني مثلا وكأنه يستمع إلى أغنية سودانية بسلمها الموسيقي المتميز. وكذلك الحال مع القارئ التركي أو المصري.

وقد يخالفني الرأي قوم يرون أن القراءة “بالألحان” حرام، ومخالفة “للشرع”، معتمدين في ذلك على ثلة من الأحاديث التي توافق هواهم. وأنا لن أخوض هنا نقاشا دينيا بشأن موقف الأحاديث من تلك القضية، فليس هذا هو المقام المناسب. لكنني أقول إنني استمعت إلى قراء مشهورين من تلك البلدان، وأدركت أذني مقامات موسيقية، وإن لم تكن متعددة ومتنوعة، في قراءتهم سواء سماها علماؤهم “خشوعا” أو أطلقوا عليها أي وصف آخر.

وموقف الفريقين هنا – المؤيد والمعارض – مبني على هوى كل منهم، أو عقليته (mentality)، فنحن نرى الأشياء، ونقرأ ما نقرأ، ونسمع ما نسمع، من داخلنا، بحسب هوى كل منا، أو عقليته. ودعوني أطرح عليكم مثالا واحدا، وهو حديث يقول “ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن”. هذا الحديث يسمعه مؤيدو القراءة بالمقامات فيسرون به ويرون فيه سندا لمذهبهم، ويفهمون كلمة “يتغنّى” بمعنى يترنم.

أما معارضو القراءة بالمقامات فيفسرون – من داخلهم، وبناء على هواهم وعقليتهم – كلمة “يتغنى” بمعنى يستغني، حتى وإن جافى هذا التفسير اللغة العربية.

ورمضان كريم

١٥ رمضان

طريقة التفكير

عَود مرة أخرى إلى فكرة الـ(Mentality)، أو ما يمكن أن نسميه بالعربية طريقة التفكير، أو الاتجاه العقلي، فهي فكرة جوهرية في تفسير التفكير والسلوك، وأنا هنا أتكلم من تجربة.

‫والتجربة بدأت مع حكايتي مع الإخوان المسلمين.

‫لقد عرفت فكر الإخوان المسلمين منذ أكثر من ثلاثين عاما، عندما تعرفت خلال دراستي الجامعية في جامعة الأسكندرية بزميل من جمهورية مالي، وربطت بيننا صداقة وطيدة. وكان هذا الصديق يرسل لي – خلال عطلة الصيف – بعض الكتب التي في حوزته لقراءتها، وكان من بينها كتب لسيد قطب. وكانت كتب سيد قطب آنذاك ممنوعا تداولها بعد سجنه ثم تنفيذ حكم الإعدام عليه، هو وعدد آخر من قيادات الإخوان المسلمين في نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي.

كان صديقي الماليّ يرسل لي تلك الكتب بالبريد من الأسكندرية حيث كان يقيم هو وأسرته الصغيرة، إلى الفيوم حيث كنت أعيش وأقيم خلال فترة العطلة الصيفية. وسلم الله فلم يُكشف أمري أو أمره.

وجذبني في مؤلفات سيد قطب جمال أسلوبه ورقي لغته، فقد كان رحمه الله أديبا بارعا، وشاعرا، وناقدا، ضيعته أيدولوجية. ولم أكتف بما كان يرسله لي صديقي خلال الصيف، فرغبت في قراءة المزيد من كتبه، ومن كتب أخيه محمد، وكتب عبدالقادر عودة وغيرهم، وإن كنت أفضل سيد على غيره لما ذكرت.

وكيف أحصل على تلك الكتب؟

كان في مدينتنا – الفيوم – مكتبة كبيرة تسمى “مكتبة البلدية”، لأنها كانت تابعة للمجلس البلدي. ويعود الفضل في تكوين تلك المكتبة إلى أحد أعمدة أسرة عريقة في الفيوم هي أسرة “الباسل”، تلك الأسرة التي آوت إدريس السنوسي ملك ليبيا السابق خلال فترة الاحتلال الإيطالي عندما هرب من بلاده إلى مدينة الفيوم، إلى حمد باشا الباسل، إذ تبرع بمكتبته لمجلس المدينة لتكوين مكتبة يفيد منها الباحثون والطلاب والجمهور.

وكنت أحد مرتادي تلك المكتبة منذ مرحلة الدراسة الإعدادية، أديم زيارتها والاستعارة منها، إذ كانت تحوي نفائس من الكتب والمجلات القديمة بأعدادها الأولى مثل مجلة الرسالة التي كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات، ومجلة الثقافة، وغيرهما. وكان أمين المكتبة يسمح لي بالدخول إلى المكتبة من الداخل حيث أرفف الكتب لأجلب ما أشاء لاستعارته.

وكانت تلك ميزة دفعتني – فيما بعد حينما تعرفت على سيد قطب – إلى البحث بين أرفف الكتب عنه وعن مؤلفاته. وكم كانت سعادتي غامرة عندما عثرت على كثير من مؤلفاته دفينة المكتبة. ولكن سعادتي لم تدم، لأني واجهت مشكلة كبيرة، ألا وهي كيف أخرج بكتاب من تلك الكتب من بين الأرفف، وأجاهر به علانية، وأعطيه لأمين المكتبة قائلا: أريد استعارة هذا الكتاب من فضلك، واسم سيد قطب كان يشين – بعد أن كان يزين – صفحته الأولى، فجميع كتبه ممنوعة؟

ولكن خطرت لي فكرة أحكيها لكم غدا لاستكمل موضوع طريقة التفكير أو الاتجاه العقلي، وحكايتي مع الإخوان المسلمين، أو بالأحرى مع مفكريهم ومؤلفيهم.

ورمضان كريم

١٦ رمضان

“الشفرة السحرية”

‫قبل أن أترك المكتبة في ذلك اليوم، بعد أن راودتني فكرة أتغلب بها على حظر كتب سيد قطب، عمدت إلى ترك الكتب في مكان بعيد عن عين عامل المكتبة الذي يكلف دوما بإحضار الكتب للقراء والمستعيرين، ثم غادرت المكان وأنا تغمرني بهجة داخلية عميقة.

‫في اليوم التالي عدت إلى المكتبة، وأنا مسلح بـ”بشفرة” من شفرات الحلاقة، تقبع في قعر جيبي. وتعمدت ألا أغامر، فتناولت كتابا واحدا، أظنه كان “خصائص التصور الإسلامي”، وقررت أن أخرجه من محبسه.

أخذت الكتاب ووقفت في ركن قصي، وفتحت غلافه في هدوء، وفتشت عيناي عن مكان اسم المؤلف على الصفحة، وبدأت، ويداي ترتعشان، أول عملية ذبح لمؤلف في حياتي، فأنا أعشق الكتاب، بل أحترمه، فلا أطوي له غلافا، أو زاوية صفحة لأحدد مكان توقفي في القراءة.

لكنني كنت في تلك المرة مضطرا من أجل هدف – حدثتني نفسي، وربما إبليس – أنه أسمى، وأخذت أكشط اسم سيد قطب، حرفا حرفا في تؤدة وحرص، حتى محوته. وأخذت الكتاب واستجمعت قواي، وتوجهت إلي أمين المكتبة، ووقع الرجل لي على طلب الاستعارة. ونجحت الخطة.

كان حظي سعيدا لأن أمين المكتبة لم يكن ملما بأسماء مؤلفات سيد قطب، وكان هذا عاملا مهما من عوامل نجاح خطتي الخبيثة. وزاد تردادي على المكتبة، لأنهل من هذا النبع الذي عثرت عليه. لكن أمري فُضح وضبطت متلبسا بالرغبة في استعارة كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب.

كان حظي عاثرا، فقد كان الكتاب معروفا، بعد أن كتب عنه محمد حسنين هيكل في بابه الأسبوعي “بصراحه”. وأنا أزعم أن مقالة هيكل عن الكتاب، وكان مقربا من عبد الناصر – والكتاب ذاته خطير بالنسبة لأهل السلطان – كانت أحد أهم عوامل في إدانة سيد قطب، وربما في إعدامه بعد ذلك.

كانت شهرة الكتاب سببا في كشف خطتي، وانتهت قصة “اختلاس” الكتب الممنوعة لقراءتها سرا، وهذا ملمح مما كان يحدث في عصر عبد الناصر.

عرفت عن طريق كتب سيد قطب التي قرأتها، أحد أساتذته الذين أثروا فيه كثيرا، وهو المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي. ومن أبو الأعلى أخذ سيد قطب أهم أفكار نظريته. وفي صدارة تلك الأفكار التي كانت مهيمنة على فكر سيد قطب فكرة “الحاكمية”، التي استقاها من أستاذه أبو الأعلى.

لكن سيد أضاف إلى ما استقاه أفكارا أخرى، سأعرض لها في يومية الغد بإذن الله تعالى.

ورمضان كريم

١٧ رمضان

“غزوة بريطانيا”

‫المقصود بفكرة “الحاكمية” لدى المودودي وسيد قطب، ببساطة، أن الحكم لله وحده، وهي فكرة تعتمد في أساسها على تفسير ثلاث آيات من القرآن الكريم تفسيرا قد يختلف فيه المسلمون، وهذه الآيات هي ٤٤ و٤٥ و٤٦ من سورة المائدة، التي تنتهي جميعها بـ”ومن لم يحكم بما أنزل الله”، ثم تختتم بـ”فأولئك هم الكافرون”، و”فأولئك هم الظلمون”، و”فأولئك هم الفاسقون”. وسياق الآيات يبين أنها نزلت حينما طلب بعض اليهود من النبي أن يحكم بينهم في نزاع. فالخطاب موجه لليهود، وهذا رأي لا ينبغي إغفاله.

وهذه نقطة مهمة جدا، إذ إن الخطاب الإسلامي كثيرا ما يقتطع آيات من سياقها القرآني، أو سياقها التاريخي، ويبني عليها أحكاما بحجة أن “العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب”.

وتستتبع فكرة “الحاكمية” فكرة أن “القرآن دستورنا”، فهو الدستور الذي ينبغي تطبيقه حتى يكون الحكم لله وحده، وليس للطاغوت.

وإلى جانب “الحاكمية”، استقى قطب من المودودي فكرة “الجهاد”.

لكن الجهاد عند المودودي كان يدفعه ظرف تاريخي كانت تمر به بلاه – باكستان – التي كانت تعاني من الاحتلال البريطاني، وكانت فكرة استخدام الدين – بالدعوة إلى الجهاد – في مقاومة الاحتلال وإجباره على الخروج، فكرة مناسبة للظروف التي كتب فيها المودودي ما كتب. أما سيد قطب، فكانت ظروف بلاده مختلفة تماما، إذ لم يكن هناك احتلال، فمن يجاهد؟

ومن هنا أضيفت فكرة “الجاهلية”، التي صاغها محمد قطب في كتاب مستقل سماه “جاهلية القرن العشرين”. ووجود الجاهلية يستدعي “جهاد الكفار”، لإعادة نشر مبادئ الإسلام من جديد، واستعادة الحكم لله، بعد أن كان للطاغوت. والطاغوت هو الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، والطاغوت أيضا هو”القوانين الوضعية”، وكل ما يحول دون تطبيق الحاكمية، فهو طاغوت، ينبغي محاربته.

وكان من نتائج “الجاهلية” تكفير المجتمع الذي لا “يحكم بما أنزل الله”.

وأحد المسوغات التي ساقها سيد قطب لتكفير المجتمع، وكرره كثيرا، هو ما سماه بـ”الفصام النكد” بين الدين والدولة الذي حدث في الغرب، ورأى أثاره في دول إسلامية وعربية. وهو ما ينبغي محاربته، إذ لا فصل – من وجهة نظره – بين الدين والدولة، ولا بين الدين والسياسة، ولا بين الدين والاقتصاد، أو الاجتماع.

وانتقل سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق” من مرحلة الدعوة – التي ميزت فترة حسن البنا – إلى مرحلة الجهاد والقتال، والحث عليهما، ومن هنا كانت خطورة الكتاب، الذي أودى بحياة مؤلفه، والذي غير – في رأيي – مسار جماعة الإخوان المسلمين.

تشبعت بهذه الأفكار بعد قراءة تلك المؤلفات، لكنني لم أنضم لا إلى الإخوان، ولا إلى أي جماعة أخرى.

ومما زاد تلك الأفكار التهابا في نفسي كذلك خطب الجمعة التي كنت أواظب على حضورها، وكان خطيبنا هو الشيخ صلاح أبو إسماعيل – والد حازم أبو إسماعيل – الذي كان يخطب في مسجد – أحسب أن اسمه أسد بن الفرات – في شارع شهاب في المهندسين.

كان كثير من مرتادي المسجد من أعضاء جماعة التبليغ والدعوة. وكنا – نحن المصلين – نُدعَى كل جمعة إلى الجهاد والغزو، وكان الشيخ يذكرنا دوما بحديث يروى عن النبي يقول “من مات ولم يغزُ، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق”.

وكنت أرى الشباب – في ثوب قصير يشبه قمصان الباكستانيين الطويلة، وبعضهم يلبس بنطالا تحت القميص، وبعضهم لا يلبس – وهم يندفعون لتسجيل أسمائهم، لخوض رحلة الجهاد أو الغزو. وكان بعض هؤلاء يتجهون إلى أفغانستان، وكان أضعف الإيمان هو جهاد الدعوة في الداخل، فتخرج مع شباب التبليغ والدعوة لتمر في الشوارع والطرقات على أصحاب الدكاكين والمحال لتحثهم على الصلاة.

أما أنا فلم تكن رحلتي إلى أفغانستان، ولم يكن جهادي في الداخل، لكن غزوتي كانت إلى بريطانيا.

ورمضان كريم

١٨ رمضان

“سوق للأفكار”

‫ساورني اليوم شيء من الخجل، بسبب ما يجري في مصر من أحداث، وما أكتبه هنا في يومياتي. إن ما يحدث مؤسف ومثير للحزن. وأحسست أن بلادي وأبناءها في واد، وكأني أنا في واد آخر. وفكرت: هل أواصل حديثي أو أتوقف.

‫لكني فكرت أننا إذا أردنا التوصل إلى حل، فلا بد أن يسبق ذلك بحث في الجذور. وما أفعله في يومياتي هذه منذ أيام هو بحث هادئ في الجذور، يرتبط بطريقة غير مباشرة بما يجري.

في حديث الأمس لخصت أهم أفكار سيد قطب في: الحاكمية، واعتبار القرآن دستورا للمسلمين، والجهاد، وتكفير المجتمع، ودمغ الفصل بين الدين والدولة بالفصام النكد، ثم الدعوة إلى الانتقال إلى مرحلة الفعل. وهنا أود أن أشير إلى فكرة أخرى محورية في فكر سيد قطب وجماعة الإخوان بصفة عامة، وهي فكرة أن العقيدة هي الجنسية أو القومية.

فالمسلم – طبقا لهذه الفكرة – لا يرتبط بالوطن قدر ارتباطه بالعقيدة، ولا يرتبط بقومية قدر ارتباطه بالعقيدة الإسلامية. ولهذا يرفض الإخوان “القومية العربية”، لأن فيها – كما يرون – عنصرية يرفضها الإسلام، والقومية الحقة – من وجهة نظرهم – هي القومية الإسلامية، وقد تكون عودة الخلافة الإسلامية، أو الوحدة الإسلامية، هي السبيل لتحقيق القومية الإسلامية.

ولعل هذا ما دفع مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف ذات مرة إلى قولته المشهورة “طظ في مصر”، وعدم ممانعته في أن يحكم مصر ماليزي مسلم.

على هذه الأفكار الأساسية يتربى المنضوون إلى الجماعة، وهم ينشؤون على ارتباط تلك الأفكار بالدين، بل هي الدين الصحيح، وما عداها فهو باطل. وهي لذلك تصطبغ بقداسة الدين. ومن هنا تتربى في نفوسهم كبرياء، ويحسون باستعلاء على الآخرين، الذين يعدون في نظر الجماعة “ضالين !” أو “علمانيين !”، وأحيانا “كفارا !”.

وهكذا تصبح تلك الأفكار لدى المؤمنين بها هي “الحق الذي لا يقبل الجدل”، ولا يقبل فيه نقاش، وتتكون “Dogma” سياسية، تصبح هوسا لدى معتنقيها الذين أضحوا مشغولين بها أيما شغل ليل نهار، وتدعمها في عقولهم، محاضرات، وكتب، وأنشطة يومية، ويغدون بحق “One track-minded”.

ومن هنا تنشأ طريقة في التفكير، أو اتجاه عقلي، ينظر الشخص من خلاله إلى الأمور جميعا، ويقرأ من خلاله ما يقرأ، ويرى من خلاله ما يرى. فلو قرأ القرآن – مثلا – فهو يقرؤه من خلال ذلك الإطار الفكري، فيرى فيه ما قد لا يراه شخص آخر ذو اتجاه عقلي مختلف.

لقد كدت أن أقع فريسة ذلك الإطار الفكري، بعد قراءات وقراءات في فكر سيد قطب وغيره من مفكري الجماعة. ومررت بفترة في حياتي اهتممت فيها بالشكل، فأطلقت لحيتي، وعزفت عن اللباس المدني، ولبست جلبابا، وأقلعت عن مشاهدة التليفزيون.

وعانيت في علاقاتي مع بعض من أهلي وأقاربي، وعانوا هم أيضا مني، بسبب ذلك النهج الذي اتخذته.

لكن رحلة أو “غزوة” بريطانيا كانت نقطة تحول كبيرة في حياتي. فهناك التقيت بأشخاص لهم نهج فكري مختلف، وطريقة في التفكير متباينة. وكنت حريصا على الاستماع، فلم أرفض فكرا آخر، بل استمعت، وفكرت، وفكرت.

وأدركت حقيقة المزلق الذي كدت أن أهوي إليه. وعدت فقرأت في فكر الآخرين، وانفتحت – في معهد لندن للدراسات الشرقية والإفريقية – على سوق كبير للأفكار، نهلت منه. وأصبحت أرى العالم من منظور مختلف، وأقرأ ما أقرأ من خلال نهج أكثر انفتاحا، وأبعد عن الهوس باتجاه فكري واحد.

ورمضان كريم

١٩ رمضان

“مسحراتي عكا”

‫في مدينة عكا بفلسطين، يتولى شاب في السابعة والثلاثين مهمة إيقاظ المسلمين لتناول السحور كل يوم في رمضان، منذ أن أوصته أمه بأداء تلك المهمة. وهو لا يتقاضى أجرا نظير ذلك. الشاب الذي أحبه أهل عكا، والذي أخلص في أداء دوره، فكلف خياطا بحياكة زي فلسطيني تراثي خاص بالمسحراتي، ليس مسلما، بل مسيحي، واسمه ميشيل أيوب. وهو يعمل في تلك المهمة – إلى جانب عمله في الصباح – منذ ثماني سنوات.

وظاهرة ميشيل المسحراتي، ليست بغريبة على الشعب الفلسطيني الذي عرف عنه التسامح والتعايش بين طوائفه.

ونحن في مصر عشنا مثل هذا التسامح والتعايش.

ففي حارتنا – التي تضم بيوتها مسلمين ومسيحيين – كان الجيران – مسيحيوهم ومسلموهم – يهدون بعضهم بعضا ما يخبزون من كعك و”قُرص” في العيد لدى كل منهم. ومازلت أذكر جارة لنا صامت معنا في رمضان – ربما يوما أو عدة أيام – ليتقبل الله دعاءها في أن يحفظ لها ابنها، بعد أن مات لها أطفال كثيرون.

وأنا أزعم أن تلك الروح مازالت باقية بين المصريين، فالأواصر بينهم وثيقة: آصرة اللغة، وآصرة التاريخ، وآصرة العادات والتقاليد، وهي كلها تنضوي تحت الثقافة. فالمصريون، أقباطا و مسلمين، يلبسون ويأكلون ويشربون ويلعبون ويمزحون وينكتون ويحزنون ويفرحون بالطريقة نفسها، لأنهم نشؤوا في ثقافة واحدة. ولا يفرق بينهم – وهذه وجهة نظري – سوى عنصر ثقافي واحد، هو الدين.

وأنا دوما أقول: لو كنت في طائرة وكان هناك مقعدان خاليان، إما أن أجلس إلى جوار باكستاني، أو هندي أو ماليزي مسلم، وإما أن أجلس إلى جانب مسيحي مصري، وخيرت بينهما، فإنني سأختار الجلوس إلى جانب ابن بلدي وابن ثقافتي: المصري المسيحي، وإن كره بعض أبناء جلدتي وملتي ذلك.

ولا يزال في بلادي – من أسف – أناس يقسمون الناس بحسب دينهم، بل يوزعون حبهم وصداقاتهم، بحسب دين الشخص وعقيدته، ناسين أننا جميعا إخوة في الإنسانية، فالمسيحي إنسان أولا قبل أن يكون مسيحيا، والمسلم إنسان أولا قبل أن يكون مسلما، واليهودي إنسان أولا قبل أن يكون يهوديا. وهذه الإخوة في الإنسانية يجب أن تكون مبعث ود واحترام بيننا جميعا.

أعلم أن من بين المسيحيين متعصبين، ومن بين المسلمين متعصبين، ومن بين اليهود وغيرهم متعصبين. بيد أن إشاعة الحب أكثر تأثيرا من التعصب والتحارب والتقاتل.

أما العقيدة فأمرها متروك إلى الله تعالى، – وهذه تعاليم القرآن الكريم ذاته – يحكم فيها وفيما نختلف فيه يوم القيامة. ولا يمكن أن ننصب نحن أنفسنا حكاما على ما في صدور الناس. بل علينا أن نتعايش ونتحاب حتى يسود بيننا الود، فنعمر الكون.

وقد ضرب لنا ميشيل أيوب مثالا طيبا، فاصحوا آيها النائمون.

ورمضان كريم

٢٠ رمضان

“المفاهيم أيضا تموت”

‫المتابع ليومياتي هذه ربما يتبادر إلى ذهنه سؤال، وأظنه مبررا، وهو أن ما أكتبه فيها قد يبعد في أحايين كثيرة عن “الصيام” و”الصائمين”، وما يفعلون خلال نهارهم وليلهم. وهذا صحيح. لكن دفاعي هو أني رجل عادي قبل أن أكون صائما. فأنا أذهب إلى عملي، وأمارس حياتي اليومية، كما أمارسها في غير رمضان، وأشاهد التليفزيون، وأتصفح الإنترنت، وأتحدث مع الأصدقاء وزملائي في العمل، ثم إني بعد ذلك صائم. وهذه الممارسات اليومية تنعكس هنا في يومياتي. وما توقعت أن تكون تلك اليوميات ألبتة منبرا للوعظ. وإنما هي نافذة لتبادل الأفكار.

وهاكم ما أريد الحديث عنه اليوم.

لفت انتباهي في قناة الميادين، التي طلعت علينا قبل عام، إذاعتها هذه الأيام لأغان ما عدنا نسمعها، منها أغنية لمجموعة من المطربين العرب لحنها محمد عبد الوهاب، هي “وطني حبيبي الوطن الأكبر”. كانت تذيعها بمناسبة مرور ٦١ عاما على ثورة ١٩٥٢. ويتردد في الأغنية مفهوم “الوطن العربي”، ذلك المفهوم الذي لم يعد موجودا في أيامنا هذه.

كان ذكر مفهوم “الوطن العربي” في الأغنية حينما كُتبت ولحنت أمرا فرضه الخطاب السياسي آنذاك، عندما كانت دعوات الوحدة العربية، تتردد في كل مناسبة، بل كان ثمة سعي إلى تحقيقها، وإن تم على مراحل، وانتهى بالفشل، للأسف. ومن هنا بزغ مفهوم “الوطن العربي” في الخطاب السياسي حينذاك، والأغاني والموسيقى جزء من ذلك الخطاب انعكس فيه أيضا ذلك المفهوم.

وكانت خطب جمال عبد الناصر نموذجا حيا، تشخص فيه مفهوم “الوطن العربي” جنبا إلى جنب “الوحدة العربية”، وكان مفهوم المواطنة أصلا أحد المفاهيم الواضحة في خطابه السياسي، فقد كان مفتتح خطبه دوما “أيها المواطنون”.

ومات عبد الناصر، ومات في عقبه مفهوم “الوطن العربي” و “الوحدة العربية”.

لكن حياة المفاهيم غريبة حقا. إذ لا يموت مفهوم فجأة بالسكتة – مثلا – بين يوم وليلة. لا، لكنه يبدأ رحلة انزواء ثم ضمور واضمحلال حتى يموت. وهو يدخل تلك المرحلة، لأن وليدا جديدا بزغ إلى ساحة الخطاب السياسي، وأخذ يحل محله، هكذا تعلمنا من دروس “علم اللغة الإدراكي” ونظرية “الأطر الذهنية”.

لم يكن مفهوم “الوطن العربي” – الذي لا يقتصر ما يثيره من تصور في أذهان العرب على الرقعة الجغرافية التي يقع فيها العالم العربي، بل يثير أيضا في الذهن الكثير والكثير عن تاريخ العرب الواحد، وعاداتهم وتقاليدهم الواحدة – مفهوما مستساغا لدى الغرب، الذي ظل يسعى جاهدا لسنوات وسنوات إلى “حشر” إسرائيل، ليس فقط جغرافيا في تلك الرقعة، بل ذهنيا أيضا، في أذهان العرب وتصوراتهم، وكان لا بد من أمرين: القضاء على مفهوم “الوطن العربي”، باستبدال مفهوم جديد آخر به.

ومن هنا بُعث مفهوم “الشرق الأوسط”، الذي ولد من قبل خلال الحقبة الاستعمارية. وهو مفهوم مناسب لأنه يفتقد إلى عنصر وحدة “العروبة”، و عنصر وحدة “التاريخ”، و عنصر وحدة “العادات والتقاليد”، ولذلك يمكن – بسهولة – حشر إسرائيل فيه.

ووقعنا نحن في ذلك الشرك الذهني، فأصبحنا نستخدم، ونردد، ونكرر ذلك المفهوم الجديد، وجارت وسائل إعلامنا – بغباء وعدم إدراك – وسائل الإعلام الغربية التي تترجم عنها في استخدام مفهوم “الشرق الأوسط”.

واستخدام أي مفهوم – كما يقول العلماء – يدعم صورته الذهنية ويؤكدها. وبدأ مفهوم الوطن العربي ينزوي عن أحاديثنا وأغانينا ولافتاتنا، ووسائل إعلامنا، ثم ضمر واضمحل، حتى مات. وانتعش ونما مفهوم “الشرق الأوسط”، فحل محله.

ومنذ سنوات قليلة، أحيي ذلك المفهوم وبعث في ثوب جديد هو “الشرق الأوسط الجديد” الذي رفعته إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس. ولم ننتبه – كالعادة – ورحنا نتحدث عنه ونكرر الحديث ونردده مرات ومرات، لندعمه أكثر فأكثر في أذهاننا، وندوس أكثر على “الوطن العربي”.

وأصدقكم القول إنني دوما – حينما يطلب مني استيفاء طلب من الطلبات هنا في بريطانيا، وأسأل إلى أي “جنس” أنتمي، فأنا لا أضع علامة “صح” أبدا إلى جانب “Middle-Eastern”، بل أتعمد أن أضيف “Arab World” الوطن العربي، وهذا أضعف الإيمان.

ورمضان كريم

 

٢١ رمضان

“مسجد لكل المسلمين”

‫في إسلام أباد بباكستان أنشئ مسجد جديد، لا يختلف عن غيره من المساجد في باكستان من حيث المعمار وأسلوب البناء. لكنه يخالف المساجد الأخرى هناك في تلك اللافتة الصغيرة التي كتبت عند مدخله. تقول اللافتة “هذا المسجد لكل المسلمين بغض النظر عن طوائفهم”.

‫وفي باكستان مئات الآلاف من المساجد، لأن باكستان تغص بطوائف كثيرة، ولكل أتباع طائفة مسجد لهم. فهناك مساجد تمثل السنة: البريلوية والديبوندية، و مساجد للشيعة: الاثنى عشرية، والاسماعيلية النزارية، ومساجد للذِكْرية المهدية، ومساجد للصوفية: النقشبندية والقادرية والسهروردية، ومساجد للأحمدية، أتباع غلام أحمد الذي يعتبر نفسه “مسيح المسلمين”، ولأهل القرآن (القرآنيون)، ولأهل الحديث.

وفي الاسم المختار للمسجد الجديد رسالة لافتة. فهو يشير إشارة واضحة إلى الأندلس التي شهدت عصرا بديعا من التسامح، ليس بين طوائف المسلمين بعضهم بعضا فحسب، بل بين المسلمين، والمسيحيين واليهود أيضا، بشهادة غير المسلمين أنفسهم.

لقد مزقت المذهبية الدينية أوصال باكستان، ولم يكن فيها مسجد واحد يمثل المسلمين قاطبة، وليس مذاهبهم الدينية، حتى بنى زاهد إقبال، رجل الأعمال الذي يقف وراء فكرة مسجد قرطبة.

وانعكس هذا التمزق الديني بين المسلمين في باكستان على مهاجريهم في بريطانيا، فتري الانقسام نفسه فيما بينهم في أبسط الأمور، مثل بداية شهر رمضان، والاحتفال بأول أيام العيد. وقد ضربت مثلا من قبل – في يومية سابقة – لهذا بمدينة برمنجهام البريطانية التي تضم جالية مسلمة كبيرة تعود أصولها إلى دول شبه القارة الهندية، إذ احتفل المسلمون فيها في إحدى السنوات بأول أيام عيد الفطر في ثلاثة أيام مختلفة.

وما زال هذا الانقسام بين أبناء تلك الجالية ماثلا بجلاء لدى جيل الشباب.

فعندما كنت أدرس في جامعة برمنجهام، كان من بين مسؤولياتي، الإشراف على مساق الدراسات الإسلامية، ومقابلة الطلاب الراغبين في الدراسة فيه لمعرفة استعدادهم ومدى كفاءتهم. وجاءني طالب يوما، من أبناء تلك الجالية، وعقب المقابلة سألني:

– أستاذ، ما هو مذهبك؟

فاندهشت لوهلة، ثم سألته:

– ماذا تقصد؟

– مذهبك، مذهبك؟

– تقصد، حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي … ؟

– نعم

فقلت له أنا مسلم وحسب، وكفانا انقساما، فنحن لا نحتاج إلى مزيد من الفرقة. ونصحته ألا يطرح هذا السؤال مرة أخرى على أي أستاذ، أو أي شخص.

وحكى لي طالب ماليزي، كان يدرس معي للدكتوراه أن المذهب الشافعي هو المذهب السائد في ماليزيا، وأن الماليزيين العاديين يحسبون أن هذا هو الإسلام، وأن المسلمين جميعا على هذا المذهب. لكنهم – كما قال لي – يفاجؤون عندما يذهبون لأداء فريضة الحج، ويرون مسلمين آخرين يقفون إلى جانبهم في الصلوات، ويؤدون الشعيرة بمسلك مختلف. فيسكتون ويظنون أن إسلامهم غير صحيح!

رحم الله د. مصطفى الشكعة الذي قال في كتابه (إسلام بلا مذاهب) “هذه الفُرقة القاتلة، وتلك الدماء المهراقة على مر القرون لم تفد الإسلام في شيء، بل نخرت عظامه وأضعفت مقاومته لتيارات الغدر والإستعمار “.

متى يكون إسلامنا بلا مذاهب؟

ورمضان كريم

٢٢ رمضان

“صوموا تصحوا”

‫تُرى ما هي الصورة التي تأتي إلى أذهانكم فور قراءة، أو سماع، كلمة “شهر رمضان”؟

‫أصدقكم القول، الصورة التي تبادرت إلى ذهني هي خليط من الزينة والأضواء المتلألئة ليلا، وصوت المدفع، وجلسة الإفطار، وألوان الأكل والحلويات، و”الخشاف”، والفوانيس، وصلاة التراويح، ولعب الأطفال في الحارة.

وأنا أزعم أن الصورة لدى معظمنا لا تخلو من الأكل والأطعمة المتعددة المختلفة التي تملأ “الطبلية”، أو “السفرة”، أو الطاولة.

وهذه هي أيضا الصورة الراكزة حتى في أذهان غير المؤمنين بالدين ولا بالصيام. فتراهم يقولون لك: “لماذا تجوع نفسك وتتعب نفسك؟ هذا أمر من الماضي”، فما زال حديثهم يدور على الطعام والأكل والجوع والعطش.

وهذا فعلا ما تصوره أغنيات رمضان، التي كنت أستمع إلى بعضها اليوم، حنينا إلى الماضي، ولأرى كيف صورت تلك الأغاني رمضان.

وهناك أغنيات كثيرة لصباح وفؤاد المهندس، وشويكار وفؤاد المهندس، وهشام عباس، ومحمد منير، وتامر حسني، ومحمد قنديل، والثلاثي المرح، وفاطمة عيد.

معظم الأغاني “الرمضانية” – في إخراجها القديم، أو الحديث – تتتابع فيها صور إعداد الطعام، وصور الطاولة وقد اصطفت الأطباق عليها طولا وعرضا، وصور الصائمين وهم يلتهمون الطعام.

ويغرق المخرجون أحيانا – وأنا أتحدث هنا عن الأغاني التليفزيونية – في هذا الجانب، إلى درجة أنهم ينسون العلاقة بين “كلمات” الأغنية، والصور التي من المفترض تليفزيونيا أن تعبر عنها. فتسمع كلمات تتحدث عن الصلاة وقراءة القرآن، لكن ما تراه على الشاشة هو صورة طبق شهي من القطايف أو الكنافة أو ديك رومي منتفخ محمّر.

ولست ألومهم، فهذه هي الصورة الراسخة في أذهانهم. وقد تكون هذه الصورة هي التي تدفع الكثير منا في رمضان إلى الإقبال على الأكل بنهم، ودون وعي، إلى حد التخمة.

الأغنية الوحيدة التي ربما خرجت عن المألوف، هي أغنية المطرب الرائع محمد عبدالمطلب – وأنا هنا أتحدث عن نسختها التليفزيونية الأصلية الأولى التي ظهر فيها عبدالمطلب وهو يلبس جلبابا وطاقية. فقد خلت من ذكر الطعام والأكل، ولم تظهر فيها الصور المألوفة للأطباق الرمضانية.

وقد أدرك العلماء والأطباء أهمية الصيام باعتباره أحد سبل الحمية. فقبل عام تقريبا شاهدت حلقة من برنامج (Horizon) الذي تقدمه بي بي سي، وكان بعنوان (Eat, Fast and live longer). البرنامج يتحدث – من وجهة نظر علمية وطبية بحتة – عن أساليب الحمية المختلفة، وانتهى بعد مناقشتها جميعا إلى أن أفضلها هو صوم يومين أسبوعيا. نسخة البرنامج متاحة على “يوتيوب” وآمل أن تشاهدوه.

وآثار التخمة خطيرة، فقد حكى لي أحد أصدقائي – بعد عودته من رحلة إلى الجزائر قضى خلالها بدايات شهر رمضان هناك – أن عدد الوفيات في الجزائر يزداد بنسب ملحوظة خلال رمضان، وأن العمل في المقابر خلال هذا الشهر يظل دائبا.

فمهلا أيها الصائمون ورويدا رويدا على أنفسكم، ورفقا بمعداتكم، فالمعدة بيت الداء.

ورمضان كريم

٢٣ رمضان

“ولا حتى بالسواك”

‫تعرضت صحيفة (FrontPage Magazine)، الكندية، وصحيفة (India Today) اليوم لرد أحد الشيوخ المصريين، وأحسبه من الأزهر، في برنامج أذيع على قناة إقرأ الإسلامية على سؤال عن “ضرب المرأة”، ورد من سيدة مسلمة تعيش في النرويج.

‫وكان فحوى رد الشيخ أن الناس يفهمون هذا الموضوع خطئا، فالضرب في الآية المذكورة في سورة النساء هو آخر ملاذ، بعد الوعظ، والهجر في المضجع. ثم إن الضرب المراد في الآية هو الضرب الخفيف دون قسوة، ودون رفع اليد، وبشيء مثل السواك أو القلم. والنقطة الثالثة – التي جعلت منها الصحيفة الكندية عنوانها – ألا يكون الضرب على وجه المرأة، لأن الوجه “مِلك لله”.

لقد لاحظت أن الشيخ في رده – وكان يرد باللغة الإنجليزية – يحاول التجمل، لأنه يوجه حديثه إلى الغرب، أو المقيمين في الغرب. لكن نقطة انطلاقه – من أسف – لا تزال مبنية على مقدمة تخالف القرآن الكريم – من وجهة نظري – لسببين: أنها تجعل للرجل حقا ما أظن أبدا أن الله تعالى أعطاه للرجل على المرأة، وهو الضرب، بل لم يعطه أبدا لبشر على بشر من خلقه كنوع من العقاب في مجال التأديب.

ثم إن الشيخ يؤمن في قرارة نفسه بالضرب عقابا، ويحاول أن يجمّله في أعين سامعيه بالتخفيف منه.

ولابد هنا أن نتدبر آيتي “النشوز”، وهما الآية ٣٤ و ٣٥ من سورة النساء:

“الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا”.

أولا: حالة النشوز المذكورة في الآية الكريمة، والذي نعنيه بالنشوز هنا هو النفور أو الكراهية أو الإعراض وفقدان الود وفقدان الثقة، ليست مقصورة على النساء وحدهن، بل تعرض للرجال أيضا، وقد وردت في السورة ذاتها، في آية ١٢٨:

“وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”

ثانيا: العلاقة الزوجية – كما يصورها القرآن الكريم – مبنية على المودة والرحمة.

ثالثا: يسيء كثير من المسلمين فهم التوجيه القرآني الخاص بنشوز المرأة، ونتيجة لذلك يسيئون لروح النص القرآني. ففي التوجيه القرآني للزوج لعلاج نشوز الزوجة تدرج:

١- النصح (فعظوهن)

٢- هجر مكان الفراش أو النوم (واهجروهن في المضاجع)

٣- المرحلة الثالثة هي التي عبرت عنها الآية بـ(واضربوهن)

ولكن ما المقصود بالضرب هنا؟

الفهم الشائع بين المسلمين هو الضرب الجسدي وإن قال بعض المفسرين إنه بلا عصا وإن المقصود به الضرب الخفيف.

ولكن هل يتماشى هذا الفهم مع روح النص القرآني الكريم الذي أكد على السكينة والمودة والرحمة بين الزوجين كآية من آيات الله تعالى؟

لا والله.

تعالوا ننظر في آيات أخرى تتعرض لمعاملة المرأة وردت في السورة نفسها سورة النساء. يقول تعالى:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا”

التوجيه هنا: عاشروهن بالمعروف والتصبر حتى في حالة نشوء الكراهية، فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا .

فهل يتماشي الضرب الجسدي مع روح هذه الآية؟

وتعالوا الآن ننظر إلى ما هو أكبر من النشوز ونرى ماذا قال القرآن فيه:

يقول تعالى أيضا في سورة النساء:

“وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ” (النساء 15)

ففي حالة وقوع المرأة في خطيئة الزنا وثبوت ذلك بشهادة شهود أربعة، فماذا يأمرنا القرآن الكريم أن نفعل؟ هل يأمرنا بقتل المرأة تحت اسم جريمة الشرف؟ لا والله.

إن القرآن الذي يسعى إلى الحفاظ على العلاقات الاجتماعية يأمرنا هنا بإمساك المرأة المذنبة في البيت إلى أن يتوفاها الله تعالى أو يحدث سبحانه أمرا آخر.

أرأيتم إلى أرقى من ذلك في التعامل!

وإذا كان هذا هو توجيه القرآن في حالة ارتكاب الفاحشة التي تفوق بكثير حالة النشوز فهل يعقل أن يدعونا سبحانه وتعالى إلى ضرب النساء؟

إن الفهم الذي يتماشى وروح التعاليم القرآنية الكريمة لتعبير (واضربوهن) هو الضرب بمعنى الابتعاد أو الإعراض عن المرأة في تلك الحال، ليس فقط ترك مكان الفراش، بل ربما أيضا ترك الغرفة لبعض الوقت حتى تعود المرأة إلى الرشد.

ومفهوم الضرب هذا هو المفهوم ذاته الذي نستخدمه في تعبير مثل (الإضراب عن العمل)، وهو واحد من المعاني التي يستخدم فيها لفظ الضرب في اللغة العربية.

والضرب بهذا المفهوم لا يتماشى فقط مع روح النص القرآني بصفة عامة، بل يبين أيضا التدرج المقصود الموجود في الآية (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) الذي يبدأ بالنصح ثم بترك فراش النوم ثم بترك الغرفة لبعض الوقت.

كفانا ظلما للنساء باسم فهم خاطئ لروح الدين.

ورمضان كريم

٢٤ رمضان

“ميدانان وأغنية”

‫المشهد في مصر يفرض نفسه على الصائمين وغير الصائمين، بل على المصريين جميعا.

‫انقسمت مصر منذ ٣٠ يونيه بين ميدانين: ميدان التحرير في جنوب العاصمة وميدان رابعة العدوية في شمالها. وفي الميدانين كليهما تسمع هتافات وأناشيد تعبر عن وجهة كل فريق.

وأنا هنا سأقف عند الأغاني التي كانت ومازالت تتردد في أرجاء الميدانين.

استخدام الغناء ليس غريبا على ميدان التحرير منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير. أما التوسل بالموسيقى والأغنيات وحتى أغاني “الراب”، فنهج جديد على معتصمي ميدان رابعة. ربما يكون الدافع إليه طرد الملل والسأم، وإثارة حماسة المعتصمين، لكنه تغير ينبغي رصده.

تتردد في التحرير الأغنيات المصرية القديمة التي ملأت الأرجاء في الفترة الناصرية، والتي تتغنى بمصر وحب مصر: من قبيل “يا أحلى اسم ف الوجود يا مصر”، و “قم يا مصري مصر دايما بتناديك”، وأغنيات جديدة صاغها أبناء ٢٥ يناير وعلا صوتهم بها.

وقد بُعثت أغاني الفترة الناصرية، لأن فترة مبارك لم تثمر إلا أغنيات تمجده، فتوارت بعد إذاعتها في مناسبتها، ثم ماتت بعد الإطاحة به.

أما أرجاء رابعة فيرن فيها نوع آخر من الغناء، فيه أيضا تغن بمصر، لكنها “مصر إسلامية: قولوا للعالم مصر إسلامية، لا علمانية …”، وفيه تغن بالميدان “رابعة ميدان حرية، رابعة ميدان أحرار”، وفيه كذلك تثبيت لمرسي، وهجوم على من أطاح به، ومن ناصره، حتى حزب النور.

الموسيقى في التحرير مصرية يهتز لها وجدان المواطن المصري البسيط، أما الموسيقى في رابعة، فموسيقى الأناشيد الدينية التي يترنم بها أعضاء الجماعات الإسلامية أينما وجدوا، فلا تجد فيها الطابع المصري الذي يهتز له وجدان المصري. كما أن اللهجة التي تؤدى بها بعض تلك الأغنيات ليست لهجة عموم بر مصر.

هناك أغنية واحدة سمعتها في الميدانين، لكنها مختلفة فيهما اختلاف التحرير عن رابعة.

الأغنية هي نشيد “الله أكبر” الذي كان يرج شوارع مصر وحاراتها وأزقتها خلال حرب السويس سنة ١٩٥٦، وهو من كلمات الشاعر عبد الله شمس الدين، ولحن محمود الشريف.

في رابعة تسمع النشيد القديم ذاته، بمفرداته: كيد المعتدي، وبالسلاح سأفتدي، وجيش الأعادي، أرده بمدفعي، الويل للمستعمر، يا بلادي خدي بناصية المغير ودمري. وهذا كله يرسم في أذهان المعتصمين جو “اعتداء، وحرب، ومعدات وسلاح، وجيوش وأعاد”. ثم ماذا يحدث أو ماذا تتوقع بعد أن أثرت حماستهم؟

أما في التحرير فتسمع نشيد “الله أكبر” في صياغة جديدة تماما، لكن اللحن القديم باق. وهذا النشيد جعلته حركة تمرد نشيدها الرسمي.

فيه تسمع “مصر فكي القيد، ثورة صنع يدي، سرقوني أمس، أنا أنا سأتمرد، يا مصر ثوري واستفيقي واغضبي، بالذل لا لن أرتضي”، ثم تسمع كلاما عن جماعة الإخوان المسلمين ومرشدهم يحط من قدرهم، وتحفيز لمن يسمون “حزب الكنبة” ليهبوا ويشاركوا في الاحتجاجات.

اللغة في النشيد الجديد خليط من الفصيحة والعامية ببعض مفرداتها المصرية القحة.

وفي هذا كله استنفار للمصريين لينتفضوا على مرسي، لكنه استنفار ليس فيه سلاح، ولا فداء، ولا مغير يجب تدميره.

رحم الله مصر من أبنائها في الميدانين.

ورمضان كريم

٢٥ رمضان

“رسالة إليكِ”

‫كلما حل رمضان أتذكركِ، وفي كل يوم منه يلوح طيفك حين تميل شمسه إلى الغياب عنا، كما غِبتِ. كم أحنّ إلى أن أرى بهاء وجهك، وإنْ في منامي، لكن مساعيّ خابت.

‫قبل الغروب كنت أراك دوما تروحين وتجيئين في هدوء في أرجاء البيت، وأنتِ تعدين طعام الإفطار لنا. وقبيل الفجر تجاهدين لإيقاظنا لتناول السحور والاستعداد لصلاة الفجر.

وكانت مسيرة نهارك تبدأ برحلة إلى المسجد بصحبة رفيقة دربك – صديقتك التي كانت تلازمك – للاستماع إلى الدرس الديني عقب صلاة الظهر. وما كنا نغيب عن بالك، فكنت تعودين من تلك الرحلة الروحية محملة بألوان شتى من الأكل.

أو تدرين يا أمي؟ لقد رأيت صديقتك تلك في رحلتي الأخيرة إلى مصر. وكم كنت سعيدا لرؤيتها. ولا أخفي عليك أنني أحسست أنني أراك فيها: في وجهها، وفي حديثها، وفي تجارب السنين المرتسمة على ملامحها.

وكانت رحلة المسجد تلك عادة لم تقطعيها منذ أن تركنا أبي – وأنت لما تزالين في عقدك الثالث. وكنتِ كلما هاجمتك نوبة حنين إليه، وغصة لفقده، تتركيننا وتصعدين إلى سطح منزلنا فتبكين، أيضا في هدوء، حتى لا تخدشين نسيج سعادة يومنا بحزن، ولا تعكرين صفو مزاحنا بذكرى قد تفقدنا لذة ما نحن فيه.

كم تعلمنا منك: كنا نراك النهار مصلية، والليل قائمة، وللأرحام واصلة، ولكتاب الله تعالى قارئة. حتى في غير رمضان كنت دائما تحرصين على مواظبتنا على الصلوات.

ولا أنسى نصيحتك لي حينما بلغت الحلم، وأنت تدركين فورة الشباب، أن أربط على خصري فوطة وأجعل عقدتها عند ظهري، حتى إذا تقلّبتُ خلال النوم، لا أستمرئ النوم على ظهري فيسخن، ويأتيني طائف من هنا أو هناك من أحلام الشباب، فيفسد على تهيؤي لإقامة صلاة الفجر. كم كانت حكمتك!

وكلما تذكرتك أمي، أدرك أننا نحن الأبناء، الذين أصبحنا آباء، كم كنا نغفل عن بر والدينا، وسط زحمة الحياة وملاهيها. ولا ندرك هذا الإغفال إلا عند فقدنا لهم.

لقد فقدتك أمي مرتين: مرة عندما سافرت في بعثتي الدراسية إلى بريطانيا وتركتك، ثم لما عدت فُجعتُ بأنك لم تعرفيني، بعد مرض ألم بك. وكم كان حزني الذي محا ما كنت أتطلع إليه من فرح – بعد عودتي وقد أنهيت رحلة الدكتوراه – لأجد أمّاً غير من كنتُ أتوق سنوات إلى رؤيتها. وأحسست وقتها بأنني فقدت أمي التي أعددت عشرات الحكايات لأحكيها لها، حتى أسمع رنات ضحكتها التي كانت ذات رنة خاصة بها، لم ترثها أخت من أخواتي.

وفقدتك أمي مرة أخرى حينما رحلت.

لا أريد أن أختم رسالتي إليك أمي – التي لا أدري إن كانت ستصلك أفكارها أم لا – قبل أن أنصح أصدقائي بأن يحسنوا بر والديهم، إن كانوا لا يزالون على قيد الحياة، فلحظات البر بهم لا تعوضها ذكريات الندم بعد رحيلهم. وأمّا من ألمَ به ألمُ الفقد، فليدعو لهم، ويخلص الدعاء، خاصة في رمضان.

حديثي إليك أمي كان نافذة فضفضة، هدأت من مرارة إحساسي بفقدك، وأنا أعلم أنك في جوار رب كريم. رحمك الله.

ورمضان كريم

٢٦ رمضان

“قرآني حتى النخاع”

‫في شهر القرآن الكريم دعوني أحكي لكم تلك الحكاية.

‫في زيارتي الأخيرة لمصر، وخلال اجتماع مع بعض الأهل، تطرق الحديث بيننا إلى بعض المسائل الدينية. وكان منها مسألة تتعلق بي شخصيا، ألا وهي إصراري على لبس خاتم من الذهب.

وكان السؤال الأكبر الذي وُجه لي: لماذا، وهناك حديث للرسول فحواه “حُرم على رجال أمتي لبس الحرير والذهب”؟

وأدليت بدلوي في النقاش، بطريقتي المعتادة التي تحترم العقل، وتنتهج المنطق، ولا تسبغ قداسة على أقوال السلف وتأويلاتهم. فقلت أولا إن هذا التحريم ليس له وجود في القرآن الكريم. ثم هل يفسد لبس الرجال للذهب عقيدتهم؟

ثم ثنيت بأننا ينبغي – في مثل هذه المسائل – أن ننظر إلى “مقاصد الشريعة”. فإذا كان ما نُسب إلى الرسول صحيحا، فقد قيل في وقت كان الذهب فيه عملة تتداول، ولا يجب حبسها عن التداول بالتزين بها. وكان المجتمع طبقيا، يتباهى فيه الأغنياء بلبس الحرير والذهب يختالون فيهما في خيلاء.

أما الآن فلم يعد الذهب هو العملة المتداولة، وأنا لا ألبس ذلك الخاتم الصغير – الذي هو “دبلة” وحسب – من أجل الخيلاء، ولا أتباهى عندما ألبس رباطة عنق من الحرير، مهما كان صانعها.

فما كان من محدثيّ إلا أن انبروا في صوت واحد: إذن أنت من “القرآنيين”.

فتساءلت متخابثا: ماذا تقصدون؟ فقالوا إنك تنكر السنة.

عجبا والله !، لقد أصبح الانتساب إلى القرآن الكريم – قرآني – سُبّة، بدل أن يكون مثار افتخار.

أنا “قرآني” حتى النخاع، وأدع لكم أنتم تلك “الأحاديث” الظنية، التي كانت السبب في فرقة المسلمين وانقسامهم. وكفى!

ورمضان كريم

٢٧ رمضان

“الحنش الأقرع!”

‫ثمة كتب تغير حياة قارئيها، وسأحدثكم هنا عن واحد من تلك الكتب التي هدمت أسطورة كانت تعشش في ذهني، مثل غيري من معظم المسلمين، بل كانت تلك الأسطورة جزءا من عقيدتي، لكني – والحمد لله تعالى – برئت منها بفضل ذلك الكتاب.

‫الكتاب الذي أتحدث عنه هو “حقيقة عذاب القبر”، وهو من تأليف جواد موسى محمد عفانة.

وقد وقعت على هذا الكتاب في رحلة من رحلاتي إلى الأردن، حيث تكون لي دوما جولة على المكتبات فيها لأرى وأتعرف على ما لا يتوفر في مكتبات لندن من كتب عربية.

موضوع الكتاب ذو صلة بحديث يومية الأمس. فأنا أزعم أن أكثر من تسعين في المئة من المسلمين ورثوا الإيمان بفكرة “عذاب القبر”، ضمن ما ورثوه عن آبائهم، دون أن يعملوا العقل فيها. ولا أبرئ نفسي، فهكذا كنتُ.

وموضوع “عذاب القبر” من الموضوعات الأثيرة لدى كثير من خطبائنا على المنابر، وفي الفضائيات. بل يحزنني كثيرا أنه أخذ يهيمن على عقول شباب “الدعاة” أيضا. فقد شاهدت ذات مرة في قناة “إقرأ” الفضائية أحدهم وقد اصطحب الكاميرا ونزل في أحد القبور، خلال حديث عن القبر وعذابه.

ويغرق الدعاة في هذا النوع من الحديث فيطعّمونه بأساطير أخرى تصلح سيناريو جيدا لفيلم مرعب، ترى فيه “حنشا (أي ثعبان كبير) أقرع”، لكنك لا ترى “حنشا كث الشعر”، وترى “حُفرا من النار” … وهكذا.

وتكمن جاذبية الموضوع في أن فيه وسيلة سهلة لترهيب الجمهور – دينيا – وإذا خضع جمهورك بالخوف، فقد أصبحت تملك قياده.

لكن ما هي حقيقة “عذاب القبر”؟ الفكرة برمتها – لو فكرنا فيها بروية وتعقل – مخالفة للقرآن الكريم، ولفكرة البعث والحساب التي هي ركيزة ذات خطر عظيم من ركائز عقيدة المسلم.

القرآن من أوله إلى آخره مبني على عدة عقائد من بينها عقيدة البعث يوم القيامة، ثم وضع الميزان، والحساب: حساب أعمالنا في الدنيا، ثم الجزاء عليها أو الثواب، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فهل ساءلنا أنفسنا: كيف يكون ثمة عذاب قبل الحساب؟ أليس في ذلك افتئات على الله جل وعلا، واتهامه – حاشاه – بالظلم؟ وإلا ما تظنون بحاكم يذيق الناس العذاب صنوفا وألوانا قبل التحقيق معهم، وقبل معرفة الحقيقة، ومعرفة إن كانوا جناة أو أبرياء!

إن فكرة “عذاب القبر” تهدم فكرة الحساب يوم القيامة من أساسها، التي هي عماد العقيدة الإسلامية.

وهذه الفكرة – وهنا النقطة المهمة – لا سند لها ألبتة في القرآن الكريم وآيه الكريمة. وسندها الوحيد لدى مروجيها عدد من “أحاديث” ما أنزل الله بها من سلطان، أو ربما على أكثر تقدير أسيء فهمها.

وتعالوا نسأل هؤلاء المروجين: إن كان في القبر حساب، فلماذا تروون عشرات الأحاديث عن “عذابه”، ولا تروون نصف ذلك عن “نعيم القبر”؟!

وهكذا بلبلت عقيدتنا بـ”أحاديث” مخالفة لصريح القرآن الكريم ومبادئ العقيدة. وإن جأرت بذلك انبروا باتهامك بإنكار السنة.

أفيقوا آيها المسلمون وحاذروا، فعقيدتكم على شفا جرف هار.

ورمضان كريم

٢٨ رمضان

“مجرد أسئلة”

حصلت صحيفة لوموند الفرنسية على تقرير للمجلس الأعلى للاندماج الوطني في فرنسا، أعرب فيه عن القلق من التجاوزات التي تطال العلمانية في الجامعات الفرنسية، وأوصى بمنع الحجاب في قاعات التدريس.

‫وهذا الخبر يثير تساؤلا مهما، وهو: لماذا يعد “الحجاب” وحده من بين التجاوزات على العلمانية؟ أليس في لباس “الراهبات” تعدٍ أيضا على العلمانية؟ أوليس في عمامة “السيخ”، وطاقية اليهود، تعدٍ على العلمانية؟

ثم لندع فرنسا وننتقل إلى عالمنا العربي والإسلامي، وموضوع “الحجاب” لدينا. وأنا أود هنا أن أطرح تساؤلات، فقط تساؤلات، أبحث لها عن إجابات في هذا الموضوع الذي شُغلنا به، ومازلنا، رغم أنه – في رأيي، ولا يغضب أحد من كلامي – أمر شكلي، اختصرنا فيه – في غير حكمة – الإسلام كله.

١- يبني المجادلون في الموضوع جدالهم على تفسير آيتين في سورة النور، هما ٣٠ و٣١. وتتحدث الآيتان عن غض البصر، وحفظ الفروج، وإبداء المرأة لزينتها، وأمام مَن.

لكن القرآن الكريم مهد لهاتين الآيتين بآية ٢٩ التي تقول “ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون”. والمقصود هنا – بحسب ما فهمت – هو ارتياد المحال العامة والدكاكين. ثم أعقب ذلك ببعض الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها الرجال والنساء على السواء في مثل تلك الأماكن، ومنها غض البصر.

ويدخل في مجال الجدل أيضا آية ٥٩ من سورة الأحزاب، التي يأمر الله فيها نبيه بأن يبلغ زوجاته وبناته ونساء المؤمنين – في عصره – بأن “يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين”.

وهذه الآية تأتي في سياق تعرض الرسول الكريم والمؤمنين للأذى من قبل المنافقين والمشركين، فيما سبق الآية وما تبعها. وإرخاء الأردية أو الملاحف كان لسبب، هو أن يُعرف أنهن حرائر فلا يتعرضن لأذي خلال خروجهن لقضاء الحاجة في الخلاء، كما يحدث عادة للإماء.

٢- سوى القرآن في خطاب غض البصر بين الرجال والنساء. أفلا يعني غض البصر أن هناك شيئا موجودا، نسمه “زينة”، أو حُليا، أو جمالا جذابا، علينا – نساء ورجالا – أن نغض البصر عنه، لأن فيه فتنة قد تقود إلى عدم القدرة على حفظ الفروج؟

٣- ثم لماذا يدور دائما الحديث ويتكرر عن “الحجاب” المتعلق بغض البصر، ويُنسى أو يُغفل الشق الثاني من الآية وهو “حفظ الفروج”؟

٤- وأذا كان القرآن الكريم قد خاطب الرجل والمرأة كليهما بآية “غض البصر”، فلماذا يتركز حديث قضية الحجاب دوما على المرأة وحدها، وكأنها هي فقط مبعث “الفتنة”، لكنها لا تُفتتن بالرجل؟

٥- وفي آية إدناء الجلابيب، ألا ترون معي أن سياقها يظهر أن المقصود بالخطاب هن زوجات الرسول وبناته ونساء المؤمنين اللائي كن يذهبن لقضاء الحاجة في الخلاء في عصره، في ذلك الوقت؟

٦- وإن لم يكن الأمر كذلك، وكان الخطاب عاما للنساء بصورة عامة – كما يحلو دوما لمن يأخذون بعموم اللفظ، ويدعون خصوص السبب – فلماذا يفرق الفقهاء في “الحجاب” بين الحرائر والإماء، وكأن الإماء غير مفروض عليهن “حجاب”، وكأنهن لسن نساء يُفتتن بهن؟

٧- وأخيرا، نحن نعلم أن القرآن سوى بين المرأة والرجل في الفرائض جميعا، فكيف – بالله عليكم – خص النساء وحدهن بـ”فرض” الحجاب، دون الرجال؟

أحسب أن علينا أن نتدبر القرآن، ونُدبر سريعا عن أقاويل الفقهاء الذين عكسوا في كتبهم ثقافة عصورهم وبيئاتهم، وهي غير ملزمة لنا.

ورمضان كريم

٢٩ رمضان

“خمسة قروش”

‫كل عام أنتم بخير، فقد اتفق المستطلعون على أن غدا الخميس هو أول أيام عيد الفطر.

‫ودنت ساعة المغيب يا رمضان، لكنك ترحل وقد أفعمت الروح منا بنسائم ربانية، وزكيت النفس بعادات طيبة، تملكنا فيها القياد. وما أنت ببخيل إذ ترحل وقد خلفت فينا عيدا، للنفوس قبل أن يكون للأبدان.

أتذكر يا رمضان حينما كنا صغارا أنت وأنا؟

كنا ننتظر العيد قبل ميلاده، نجلس لنتسمع أي خبر من أخباره، وحينما يهل علينا هلاله، ونعرف قدومه عادة عند سماع أغنية أم كلثوم “الليلة عيد”، ونرفض النوم حتى لا تضيع منا لحظة من لحظات الفرح. هل لأن لحظات الفرح قليلة؟

في الصباح الباكر – أتذكر – كنا نستيقظ على تهليل وتكبير المصلين في مساجد المحروسة وجوامعها، تتهادى من المذياع ومكبرات الصوت في الحي. فنسارع إلى لبس ما جد على خزانة الملابس، ثم نتوجه إلى المسجد الجامع. وعقب الصلاة نعود إلى البيت، فيدعونا عمي – بعد أن رحل أبي – فيعطينا العيدية.

أوتذكر يا رمضان كم كانت “عيديتي” وأنا ابن عشر سنين؟ لم تكن مساوية لما أحمله على عاتقي من سنوات، بل كانت تنقص عنها. لقد كانت – صدقني – خمسة قروش. كان عمي رجلا ذا أسرة كبيرة، وعليه أن يعطي أولاده أولا ثم أولاد أخيه.

وأنا دوما في العيد أتذكر تلك الحادثة التي وخزت وجداني، وتركت في نفسي جرحا لا يلتئم.

فقد توفي أبي قبيل العيد بأيام قلائل، وكنت طفلا صغيرا يملأ عالمه أشياء صغيرة لا يعرفها الكبار. وجاء العيد، وكنت قد استعددت له مثل كل مرة، فاشتريت “البمب”، من بين ما اشتريت.

وكنت خارج البيت ودخلت وأنا فرح مثل أي طفل في مثل تلك المناسبة، وكان عمي يجلس في مجلسه العادي على أريكته في بهو البيت يشرب الشاي الذي اعتاد عليه.

ودفعتني فرحة العيد – يا رمضان – فأطلقت يدي الصغيرة ببعض “البمب” عند مدخل البيت.

وفرقع “البمب”، لكني لم أسمع فرقعته، بل سمعت صوت عمي وهو يزجرني بنبرة طغت على فرقعة “البمب” صارخا: “ياولد! إنت مش عارف إن أبوك ميت”.

وانكسر كل شيء داخلي، وانخرطت في بكاء صامت ثم غادرت تلك البقعة الكريهة من البيت راكضا إلى شقتنا في الدور العلوي، أبحث عن صدر أمي.

وموتانا – يا رمضان – يعيشون معنا في أيامنا العادية، وفي أيام أعيادنا. ففي ثاني أيام العيد، نخرج في موكب كبير – كبارا وصغارا – لزيارة المقابر، وقد اصطحبنا معنا بعض الفواكه، و”القرص” التي نوزعها على الفقراء والمحتاجين الذين يفدون على زوار المقابر. كما كان يطعم منها أيضا قراء القرآن الذين يحسنون فن التسول، أكثر مما يتقنون قواعد قراءة القرآن الكريم.

وعلى الرغم من هدف تلك الرحلة فقد كانت بالنسبة لنا في طفولتنا رحلة ممتعة، لأنا كنا نلهو طوال الطريق، ونرى أشياء لا نراها إلا في العيد، ونشتري بما حصلنا من “عيدية” ما يحلو لنا، دون نزاع طويل من الأهل.

شكرا لك يا رمضان أن تركت لنا عيدا يأتي من بعدك. ونحن في انتظار زيارتك في العام القادم إن شاء الله، وقد التأمت جراح البلد، وجراح بنيها.

ورمضان كريم.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.