يثير بعض الكتاب من وقت لآخر قضية “تكفل القرآن الكريم بحفظ اللغة العربية”. وأحسب أن المسألة بحاجة إلى وقفة موضوعية.
يستخدم من ينتصر لفكرة “حفظ العربية” آية سورة الحجر الكريمة “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (آية ٩). وهذا في رأيي استخدام خاطئ لأن الآية وردت في سياق يدور محوره جميعا على استهزاء المشركين ممن أنزل عليه “الذكر”، أي من النبي الكريم الذي أنزل عليه الذكر. وتعالوا نقرأ معا آيات ذلك السياق.
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمجْنُونٌ (٦) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْملَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْملَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَ وَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١)
فالذكر الذي يسخر المشركون ممن أنزل عليه ويصفونه بالجنون، هو آي القرآن. وهو المقصود بالحفظ في مواجهة محاولات المستهزئين. ولست أحسب أن ذلك الوعد بالحفظ يمتد إلى اللغة. وحفظ القرآن ذاته لا يعني أبدا حفظ العربية.
لكن لا شك في أن نزول القرآن بالعربية ساعد على إقبال المسلمين من غير العرب على تعلم اللغة، وساعد أيضاً على تمسك المسلمين عربا وغير عرب بالعربية كجزء من هويتهم الإسلامية.
بيد أن للموضوع جانبا آخر، وهو فهم بعضنا الخاطئ للغة وطبيعتها. ولا يردد فكرة حفظ القرآن للعربية، فيما أحسب، إلا أناس لا صلة لهم بعلم اللغة، ولا أظن أنهم قرأوا فيه.
فجميع لغات العالم – كما يقول علم اللغة (linguistics) بعد رصد الحقائق – في تغير دائم. ومن الأفضل هنا استخدام مصطلح “تغير”، وليس ‘تطور‘، كما يخطئ بعضنا. وهذا ينطبق أيضا على العربية التي تعرضت أصواتها وبناها الصرفية والنحوية والدلالية للتغير عبر تاريخها. وأنا أذكر هذه الحقيقة اللغوية لأن بعضنا يتوهم أن “حفظ” اللغة يعني “ثبات” حالها و”عدم تغيرها”.
والأمثلة على تلك التغييرات كثيرة، أذكر منها هنا التغير الذي تعرضت له أصوات ظاهرة القلقلة في تلاوة القرآن الكريم، وهي أصوات “ق، ط، ب، ج، د”. فليست القاف الحالية، وهي صوت مهموس (voiceless) هي القاف كما كانت تنطق قديما، وكانت صوتا مجهورا (voiced)، وليست الطاء هي الطاء، وليست الجيم هي الجيم. ولي في ذلك بحثان يعالجان تلك القضية بتفصيل أكثر. ومازال قراؤنا يطبقون القاعدة بالرغم من هذه التغيرات لأنهم ليسوا علماء أصوات وهم يتلقون القراءة فيكررون ما يتلقون، دون إدراك طبعا لما طرأ على الأصوات من تغيرات.
وثمة تغيرات أخرى طرأت على تراكيب العربية النحوية، وعلى دلالات الألفاظ فيها. ويكفي للمطلع أن يراجع لغة الإعلام وعناوين الصحف مثلا، ليتحقق من ذلك. وكم سيكون واقعنا اللغوي غريبا، بل صادما، إذا تخيلنا كاتبا مثل الجاحظ بعث من قبره، وسمع ما نسمع، أو شاهد ما نشاهد، أو قرأ ما نقرأ. فكيف سيكون وقع كلمات مثل “شعر حر”، و”أدب لا معقول”، و”قمر صناعي” وحوار “افتراضي” عليه؟
وإن أردنا فعلا إصلاح حال العربية توجب علينا قبل أي خطوة أخرى أن نفصلها في أذهاننا عن القرآن الكريم حتى نقدم على التعامل معها دون حرج أو وهم. وانظروا إلى اللغة العبرية – وهي أيضاً لغة سامية ارتبطت بكتاب مقدس – التي كادت أن تندثر، لكن أهليها تمكنوا من بعثها وتنميتها دون خوف أو حرج وأصبحت الآن تجاري جميع مستحدثات العلوم المختلفة.
مشكلة اللغة العربية الآن أنها أصبحت ساحة رحبة لكثير من غير المؤهلين يفتون فيها بلا حرج، مثلها في ذلك مثل الدين والسياسة. ولعل سبب هذا – بالنسبة إلى اللغة العربية – إما انصراف المتخصصين في علم اللغة إلى أبحاث تقليدية عقيمة، وإما عدم فهم بعضهم لمفاهيم العلم الذي تخصصوا فيه. وقد لمست هذا بنفسي عندما كنت أدرس علم اللغة في كلية البنات بجامعة عين شمس، إذ سمعت من أحد مدرسي علم اللغة كلاما عن أن العربية “لم تتغير منذ نزول القرآن الكريم“. فماذا ننتظر من طلاب هذا المعلم؟