السجين

السجين

الصداع يؤلمني، وأحس أن رأسي سينفجر، لقد تفتت دماغي .. أظلمت الرؤية في عيني، اختلطت الأصوات في سمعي فلم أعد أميز منها إلا أصواتا صاخبة كأصوات الطبول، وصرخات عالية تنادي بشيء أذكر أنه اسمي .. أحسست أني فقدت الذاكرة ونسيت كل الأشياء.. شريط حياتي ليس فيه معالم. انطمست كل الصور فيه ومسخت.

قال لي الطبيب:

– إنه ارتفاع شديد في ضغط الدم.

الضغط !! .. الضغط !! .. وأنا لست مثقلا بالسنين فعمري لا يتجاوز الخامسة والعشرين ..

–  هذا الدواء عليك أن تأخذ منه حبتين فقط في اليوم، لأنه شديد المفعول.

حبتان!.. رغبتي في النوم شديدة، أشعر أنني لا أستطيع جر جسمي من فوق السرير وإن قمت فالإعياء يقعدني مرة أخرى.

–  هذه الحبوب جعلتني أكثر خمولا يا دكتور

جاء الأتوبيس فاستجمعت قواي وانتفضت وطلعت، رميت بجسدي على الكرسي العالي في مؤخرة الأتوبيس الموحد الدرجة بعد أن دفعني الزحام إليه .. أخرجت علبة سجائري أشعلت واحدة وكتمت دخانها في صدري. أعضائي تتفكك .. الأشياء تدور داخل رأسي، هل في هذه السيجارة مخدر؟!!

صرخ المحصل:

–  التحرير

عدلت عن النزول ورأيت أنني في حاجة إلى الجلوس والراحة. والمقعد الوثير يغري وهزات الأتوبيس تدغدغ خيالي .. نظرت إلى المحصل وقد أخرج من جيب سترته أوراقا مالية راح يحسبها، وأخذت أعدها معه: عشرة، عشرون، ثلاثون أربعون، خمسون، .. جنيهان، ورقة بخمسة وعشرين قرشا،.. قطعتان كل منهما بخمسة قروش. سرت في أوصالي رعشة فأغلقت زجاج النافذة على يميني. تعلقت عيناي بأضواء الطريق المتلاحقة.

ورأيتني أتأهب للقفز بسرعة .. الباب أمامي .. ومقعد المحصل على يساري. لعابي يسيل، قلبي دقاته تغطي كل الأصوات، فُتح الباب، وقف الأتوبيس ثم شرع يغادر المحطة، لف المحصل النقود وأراد أن يدسها في جيبه .. وضع قلمه خلف أذنه كعادته بعد عد النقود .. انسلت يدي إلى اللفة الورقية في يده واختطفتها ورميت بنفسي من الباب الذي كاد أن يقبض على ذراعي بين مصراعيه. أخذت أجري بقوة عجيبة والرجل يصرخ في السائق بالوقوف ولكن صوته ضاع وسط الزحام. ..

أحاطتني نظرات الأستاذ شحاته .. قبل أن أصل إلى مكتبي .. حاصرتني، .. أطبقت على عنقي كأنها إبر .. وجلست إلى مقعدي وطلبت فنجان قهوة .. رأس الأستاذ شحاته مطرق فوق دفتره ولكنه ينقّل النظر بيني وبين هذه الدفاتر خلال نظارته السميكة .. قلت له في صوت واضح واثق:

–  أستاذ شحاته موعدنا بعد الظهر .. لأعطيك الأمانة.

ولا بد أن يكون الرجل قد فهم طبعا

–  كيف دبرت المبلغ وأنت في ضائقة؟!! وأنا والله لولا حاجتي ما طالبتك!

الأتوبيس ورائي .. يلاحقني حاولت أن أدخل في أحد الشوارع الجانبية ولكني تعثرت. .. حلقة الناس كلها عيون جاحظة فيّ. بدا المحصل ممسكا بخناقي .. أمين الشرطة يفسح له الناس المكان حتى يصل إلي .. المسدس في جنبه يتحرك، يشهر نفسه .. يتجه إلى رأسي، ودوّى صوت رهيب وهزة عنيفة خلطت الأجساد في موجة واحدة ورمت بها إلى ناحية السائق، وكدت أنقلب رأساً على عقب لولا أنني تشبثت بالذراع الحديدية للكرسي واستطعت أن أحفظ توازني وإن كانت السيجارة قد تطايرت رغما عني وأفلتت من يدي.

–  الحمد لله .. ربنا ستر. طفل كان يجري أمام الأتوبيس

واختلطت أصوات الراكبين بين الحمد والسب وإدانة تهور السائق إلا أنا فقد تمتمت: اللهم اخزك يا شيطان

بالأمس كنت أسير في الطريق وفي نفسي أمنية غريبة دفعتني إليها همومي .. وحاولت اختراق الشارع إلى الجانب الآخر. رأيت سيارة قادمة .. تغافلت عنها رغم أنني أرى المسافة بيني وبينها أمتارا. توقف قلبي عن الدق .. تسمرت قدماي، أغمضت عيني، وصورة الأستاذ شحاته تخبو وتضيء في رأسي وطنين كلماته يرن في قاع رأسي.

–  الظروف وحدها هي التي دفعتني إلى مطالبتك بالمبلغ .. الأولاد، ودخول المدارس، ورمضان، والعيد ..  كل سنة وأنت طيب.

لم يعد للأستاذ شحاته رأس واحد بل عدة رؤوس، كأنها بلا أجساد فوق سطح بحر تطفو ثم تغوص، ثم تطفو وتغوص، وجميعها تنظر إلي وتصرخ في ولكل منها يد طويلة تنتهي بأصابع كثيرة ذات مخالب من حديد مصوبة إلى صدري .. أحسست بانحباس أنفاسي، بهرني نور السيارة المحرق فجأة أمامي، وهز أركاني صوت فرملة صارخة.

–  سكران! .. الله يخرب بيوتكم

نزلت من الأتوبيس، استترت في مشيي إلى جانب الطريق الأيمن بعيدا عن هذا الضوء الفاضح الذي يغمر وسط طريق صلاح سالم الواسع.. وسرت فوق الرصيف محاذيا للأسوار وأيقنت أن هذا الطريق ليس مألوفا لقدمي الأستاذ شحاته.. وكيف يصل إليه وهو يسكن في السيدة زينب ودائرة تجواله دائما تنحصر بين مسجد السيدة ومنزله في شارع بركة الفيل.

فتحت باب شقتي ودخلت. كانت زوجتي جالسة في الصالة وبجانبها الراديو تنبعث منه أنغام أغنية لأم كلثوم وفي يدها جريدة.

–  لماذا تأخرت؟

–  تعبان .. الصداع ما زال يدق رأسي

خلعت ملابسي وأنا مجهد .. دخلت الحمام لأتوضأ ولم أنصت لحديثها المتقطع، فرشت سجادة الصلاة ولم أستطع أن أصلي واقفا فقعدت. دماغي سيتحطم .. سيتحطم .. أحسست أنني أحمل جبلا موجعا فوق عنقي علي أن أرفعه وأضعه في ركوعي وسجودي.

– مالك. ليس من عادتك أن تصلي وأنت جالس؟

ولم أجد طاقة للكلام معها بل إني أشعر بالضيق من الكلام حتى مع زوجتي.

ذهبت اليوم إلى المراقب العام ووقع لي الإجازة، أسبوع أقضيه فوق سريري. مالي أشعر كأنني لم أنم منذ شهور .. بلعت الحبتين ورميت بجسمي فوق السرير لمحت زوجتي في مقعدها، .. ملامح وجهها تختلط في عيني ولكني ما زلت أميز هذه الابتسامة الدائمة المرسومة على فمها. أحسست أنها منتشية بالأغنية.

حقا إنك أنت الإنسان الوحيد الذي يمنحني طاقة احتمال هذه الحياة .. هذه الهموم .. وهذه المعيشة المنهكة التي يعيشها الناس هنا في القاهرة.

تعرفت على زوجتي وأنا في الجامعة رأيت فيها الفتاة الوادعة الحيية الجميلة التي أقنعتني ورأت هي فيّ شابا يمتاز من أترابه بالرجولة والنجابة، كما قالت. جمعنا حب عنيف ضحيت في سبيله بأشياء كثيرة وأثقل كاهلي بأعباء أكثر .. آه .. دماغي. وزوجتي رغم حبها لي لا ترفق بحالي .. أرادت أن يكون بيتنا مجهزا بما يجهز به المنزل الحديث قبل أن نتزوج.

 –  لكن يا حبيبتي الناس عادة تبدأ بخطوة ثم خطوة وأنت تعرفين الموظف المبتدئ مرتبه صغير .. وكيف تكثر أعباؤه لأنه فكر في الزواج المبكر مثلي.

–  وماذا يقول الناس عنا، لو جاؤوا لزيارتنا؟ هل يرون البيت أقرع هكذا! .. بلا نجف ولا ستائر ولا ديكورات أنا لست أقل منهم.

–  لا يهم، كل شيء يهون من أجلك.

وهان كل شيء بالديون .. الصداع .. دفقات الدم في رأسي كأنها ضربات مطرقة حديدية تهشمه .. وشعرت بسريري يتحرك .. يلف .. يعلو .. ويهبط، وتاهت معالم الحجرة واختلطت الزوايا. وشل الإعياء أعضائي. حبات العرق البارد تجمعت فوق جبيني .. ساد السكون فجأة أرجاء المكان ورأيت زوجتي تقف بجانبي وفي يدها الجريدة وعلى وجهها علامات حزن بادية.

–  انظر .. سعيد أبو الفتوح .. زميلنا في الجامعة .. في صفحة الوفيات! ..

– سعيد .. سعيد أبو الفتوح! ..

أربعة وعشرون عاما، ستة عشر منها كد وتعب في التعليم .. لم يذق طعما لحلاوة الدنيا بعد هذا العناء .. لم يمهله الزمن .. لم .. لم .. أهكذا يقف الموت قريبا منا كأنه الظل. وبكيت رغما عني .. سعيد لم يعد من الأحياء .. لن تراه بعدا ليوم. آخر مرة كانت منذ أسبوع.

كان يقول لي وكله أمل إنه يفكر في الزواج بعد أن ينتهي أخوه الأصغر من التعليم ويستطيع أن يتحمل عبء البيت من بعده. غادر يا دهر!

امتدت يدي تبحث عن علبة السجائر وطويت الوسادة ووضعت رأسي فوق طيتيها وأشعلت سيجارة .. زوجتي بجانبي غطى قسماتها الوجوم .. لم يعد في الحجرة إلا الدخان والصمت والحزن .. تعلقت عيناي بحلقات الدخان الصاعدة إلى السقف حول المصباح .. قلبي ينقبض .. مر بي خاطر غريب .. بالأمس زرت خالتي ورأيت أحد أصدقائي الذين لم أقابلهم منذ التخرج وجلسنا معاً على مقهى بميدان التحرير نسترجع شريط الماضي، وخالتي لم أرها منذ ستة أشهر إلا بالأمس، ساقتني رجلاي إليها بلا إدراك .. لم أدر لماذا وجدتني أحن إلى رؤيتها .. أهي زيارة الوداع؟ أحقا مات سعيد أبو الفتوح؟!

ضقت بالسيجارة فأطفأتها ودفنت رأسي بين طيتي الوسادة.

في الصباح حاولت زوجتي أن توقظني كالعادة فوجدتني متصلبا، برودة شديدة تثلج أطرافي التي علتها صفرة غريبة .. صرخت .. جاءت أمي وإخوتي مشدوهين وبكت أمي في صمت وصرخت أخواتي .. رن جرس المنبه فانتفضت مذعوراً وأنا أتلفت غير مدرك للمكان ولا يعلق بلساني سوى كلمة لا لا، أقولها بفزع ولما تزل علامات دموع جافة حول عيني. هبت زوجتي منزعجة من نومها:

– مالك؟

– اللهم اجعله خير

وشددت غطائي القصير على رجلي فقد أحسست بلسعات البرد تسري في جسدي

مضت أيام إجازتي لم أغادر فيها المنزل وأحسست بضيق زوجتي يرسم على وجهها التقطيب الدائم.. كلماتها معي قليلة متذمرة.

– هل سنظل هكذا حبيسين لا نخرج حتى لشم الهواء؟

لقد أصبحت أضيق بلقاء الناس، بل أخافهم، أحس أنهم عيون تجمعت نظراتها في بؤرة واحدة .. هي أنا، وأيد طويلة تحوط عنقي .. أين الطريق الآمن الذي أسير فيه فلا أجد واحدا من البشر يحاصرني بنظراته .. الأستاذ شحاتة وإن لم يطالبني في مرة، فإن كل خلجة فيه ناطقة صارخة، حركاته وكلماته التي يرمي بها هنا وهناك تلتف حول رقبتي كأنها حلقات حديدية.

في المساء وقبل أن يطلع النهار الذي سأعود imفيه إلى عملي مرة أخرى كان موعد الدواء .. ليس بالعلبة سوى شريط واحد به عشر حبات .. وقبل أن أنام كان الشريط على الأرض فارغا تماماً.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.