عندما يقتل التبشير والسياسة الفن!

عندما يقتل التبشير والسياسة الفن
نعيش هذه الأيام وكأننا قشة تتقاذفها أمواج الدعايات في مواقع التواصل الاجتماعي. وما نفلت من إحدى الدعايات حتى تلفنا أخرى بين طياتها.
قبل عدة أشهر واجهني إعلان حفلة لفرقة موسيقية “صينية”، وأنا عاشق للحضارة الصينية وتراثها وفنونها، فلم أستطع مقاومة الإغراء. وحجزت تذكرتين لزوجتي ولي للاستمتاع بشيء من عبق الصين، خاصة بعد زيارتنا لها طوفنا فيها في ثلاث من مدنها في شهر سبتمبر الماضي.
وظللنا نعد الأيام حتى حل يوم الحفلة، يوم الجمعة الماضي.
ذهبنا إلى المسرح في غرب لندن يدفعنا التطلع إلى المتعة. وكان المسرح ممتلئا بالحضور، من صينيين وإنجليز وبعض المسلمين. وكان يفصل بيننا وبين خشبة المسرح صف واحد من المتفرجين، ثم الفرقة الموسيقية، التي تصاحب رقصات العرض في أداء حي ممتع. وغلب على الفرقة الطابع الصيني، لكن كان من بين العازفين أفراد من جنسيات أخرى، وكان قائد الفرقة (المايسترو)، دميتري روسو، من مولدوڤا.
انقسم العرض الذي قدمته الفرقة إلى فصلين، بينهما استراحة قصيرة، وكان في كل فصل عدد من اللوحات الراقصة، التي سبق كلا منها شرح لكل لوحة واسمها، والحكاية التي ترويها، قدمته شابة صينية تتمتع بجمال هادئ، وتلبس زيا تقليديا، وصاحبها أمريكي يلبس بذلة سوداء عادية.
لم تكن خشبة المسرح كبيرة كما توقعنا، ولم يكن عدد الراقصين والراقصات ضخما كما تخيلنا. لكن عوض صغرَ خشبة العرض العمق الذي وفرته شاشة سينمائية كبيرة في الخلف كانت بمثابة البعد الثالث الفعّال للخشبة، تتغير فيها المناظر الثابتة أو المتحركة بين كل لوحة وأخرى، بحسب كل منها.
واستغل المخرج، دي إف، هذه الشاشة أحسن استغلال لاستكمال ما يعجز المسرح عن أدائه. وكان تفاعل الشاشة مع الراقصات والراقصين مبهرا حقا، خاصة في اللوحات التي فيها بعض جوانب السحر والإعجاز، مثل لوحة لاعب الناي الذي كان يستطيع بإشارة من نايه جلب الأشياء واستحضارها لمن يحبه، أو هبوط ملك من السماوات العلا – في لوحة أخرى – على الأرض في سرعة كبيرة على الشاشة، يتبعها ظهوره في لمح البصر من أسفلها متقدما نحونا على خشبة المسرح.
كان للعرض بطلان حقيقيان، في رأيي، هما الألوان الزاهية والموسيقى المعبرة.
أداء الراقصات والراقصين، الذين برزت لياقتهم البدنية الفائقة في القفز وحركات الأرجل البارعة، جمّله وزينته ألوان الملابس الصينية التي كانوا يرتدونها: زاهية، براقة، متناغمة، ومتناسقة. لقد رأيت فيها تناسقا بين ألوان لم أكن أحسب من قبل أنه يخطر على بال أحد، فما بالك بمشاهدته على المسرح لافتا لأنظار المتفرجين.
وتمكنت الراقصات والراقصين من استخدام الملابس وألوانها لرسم لوحات أخّاذة للبصر مبنية على دقة الحركة وإتقان الأداء.
أما الموسيقى فكانت هي ملكة العرض: صينية قديمة آلاتٍ وأنغامًا، لكنها معاصرةً تجذب قلوب السامعين، قبل آذانهم بعذوبتها ورقتها وحلاوتها الآسرة.
ولكن دورها الجذاب الذي أثر فينا حقا كان استخدامها باعتبارها عنصرا تعبيريا عن موضوعات اللوحات الراقصة، خاصة التعبير الدرامي، الذي أدت فيه آلة الـ”إيرو” الصينية القديمة ذات الوترين، التي تشبه “الربابة” المصرية، أو “الجوزة” العراقية، والصوت الباكي الحزين دورا خلابا ببراعة كادت أن تبكيني فعلا.
ولذلك أتاح العرض لعازفتها البارعة، ليندا وانج، فرصة العزف منفردة مع البيانو، فأبدعت حقا.
كما ضم العرض إلى جانب اللوحات الراقصة أغنيتين لمغنية ومغن أوبراليين، اتسمتا بمسحة دينية، تشبهان إلى حد كبير أغاني الكنائس في أمريكا خاصة.
وأحسست أن تلك الفقرتين الغنائيتين كانتا مقحمتين على العرض، بل إنهما أفسدتاه، في رأيي.
ولكن الحكاية وما فيها هي أن الفرقة التي قدمت العرض، وتطوف به مدنا في بريطانيا، الآن وهي فرقة “شين يون – Shen Yun”، هي فرقة صينية أسست في نيويورك بالولايات المتحدة. ومن هنا جاء إقحام الدين على عروضها، إذ يبدو أن أفرادها من الصينيين المقيمين في الخارج المعارضين لحكومة بيجين الشيوعية، وكان أيضا إقحام السياسة بفجاجة أفسدت جمال الرقص، وبريق الألوان والملابس، وتعبيرية الموسيقى الصينية وعذوبتها.
ولم يتوارَ تدخل الطابع الأمريكي في لوحتين من لوحات العرض، صممتا خصيصا لإظهار “قمع” الحكومة الشيوعية لأي شخص يظهر تدينا ما. وظهرت أيضا مسحة كنسية تبشيرية في أغنيتي المغنيين الأوبراليين، اللتين تنبأتا بانهزام “النظام الشيوعي” وهزيمته.
كنت أتمنى أن تحافظ الفرقة على تراثها الفني، كما أبرزته الرقصات، والموسيقى، والملابس، والألوان كما هو، بلا إقحام كنسي تبشيري، أو سياسي رأسمالي، ولو فعلت ذلك لنالت منا إعجابا وحفاوة كانت تستحقهما فعلا.
(كتبت في ١٩ يناير ٢٠٢٠)

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.