ليس في القرآن الكريم “أديان”.

ليس في القرآن "أديان"

لم يستخدم الكتاب المبين صيغة الجمع “أديان”، ولكنه استخدم صيغة المفرد “دين”.

وهذا أمر منطقي، إذ لا يمكن أن يصدر عن نبع واحد ماء متعدد المذاق. وكذلك الفيض الإلهي هو “دين” واحد من إله واحد، لكنه نزل في هيئة شرائع متعددة بحسب البيئة والزمن والقضية المهيمنة التي سعى الوحي إلى إصلاحها أو توجيه أنظار الناس إلى الخطأ فيها.

فالشريعة التي نزلت على موسى عليه السلام من “دين” الله تعالى الواحد ناسبت اليهود وما عرفوا به من نظرة مادية وتنطع في الدين وجرأة على الله وأنبيائه. وكذلك الشريعة التي نزلت في الإنجيل من “دين” الله ناسبت قوم عيسى عليه السلام الذين غلبتهم القسوة والمغالاة. وما جاء به شعيب عليه السلام، أصحاب مدين، خاطب سوأتهم في الغش وعدم الوفاء بالكيل.

ثم جاء القرآن الكريم فواجه قضية الشرك وعدم الإيمان بالبعث بكتاب يمتاز من غيره بلغة راقية محكمة لأنه نزل على قوم عرفوا بالشعر والخطابة.

“الدين” في القرآن إذًا واحد، لكن الشرائع متعددة.

ثلاث صيغ للكلمة

واستخدم القرآن الكريم كلمة “الدين” في ثلاث صيغ:

أولاها: صيغة الإضافة، أي “دين” + اسم آخر (مضاف إليه)

وهذا الاسم المضاف إليه إما لفظ الجلالة، الله تعالى (دين الله) “أفغير دين الله يبغون …” (آل عمران:٨٣)، وإما الحق (دين الحق) “… ولا يدينون دين الحق …” (التوبة:٢٩)، وإما القيِّمة (دين القيِّمة) “… وذلك دين القيمة” (البينة:٥)، أي دين الملة المستقيمة.

وثانيتهما: صيغة النكرة “دين”

ولم يستخدم الكتاب الكريم كلمة “دين” في صيغة النكرة، بلا تعريف أو إضافة، إلا مرة واحدة في سورة الكافرون “… لكم دينكم ولي دين” (٦). وكانت هذه السورة من أوائل السور نزولا، إذ إنها جاءت في المرتبة ١٨ من حيث ترتيب النزول. وكانت دعوة النبي عليه السلام في أول عهدها، وكان يريد أن يؤكد لقومه أنه لا يسعى إلى الصدام معهم، فهم لهم دينهم وهو له دينه. ولذلك استخدمت هنا صيغة النكرة “دين”، إذ لم تكن معالم دعوته قد اتضحت بعد.

وثالثتهما: صيغة التعريف “الدين”

وتستخدم هذه الصيغة، “الدين”، في سياقات لغوية ذات دلالة مهمة في دعوة النبي الكريم عليه السلام. نذكر من ذلك:

  • الدين لله: وليس لمعبود آخر أبدا ” … ويكون الدين لله …” (البقرة:١٩٣)، و “… ويكون الدين كله لله …” (الأنفال:٣٩)
  • إخلاص الدين لله: وهذا جانب روحاني يحتاج إلى مجاهدة للنفس ومكابدة. “قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين” (الزمر:١١)، و”فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون” (غافر:١٤)
  • لا إكراه في الدين: إذ إن الحرية الدينية مكفولة في القرآن الكريم “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي …” (البقرة:٢٥٦)
  • التفقه في الدين: وفي هذا حث على السفر من أجل طلب العلم بعامة والتفقه في الدين بخاصة “وما كان المِمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” (التوبة:١٢٢)
  • يوم الدين: إشارة إلى يوم الحساب “مالك يوم الدين” (الفاتحة:٤)، و”وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين” (الصافات:٢٠)
  • الدين عند الله الإسلام: “إن الدين عند الله الإسلام …” (آل عمران:١٩) والإسلام هنا وفي القرآن بعامة من الكلمات التي يساء فهمها لدى بعضنا، وقد عرضت لهذه الكلمة كما وردت في القرآن في مقالة أخرى.

ويجدر هنا أن نشير إلى أن تعبير “يوم الدين” كان أكثر ورودا في معظمه في السور المكية التي نزلت في مراحل الدعوة الأولى. وكان التركيز في تلك المرحلة على ركائز العقيدة التي يقع في لبها الإيمان بيوم القيامة وبالبعث وبالحساب. أما تعبير “إخلاص الدين لله” فورد أكثر ما ورد في سور مدنية في مراحل الدعوة الأخيرة، وهي المرحلة التي استتبت فيها العقيدة، وأسست الدولة، وبات التركيز على العمل وإخلاص الوجه لله تعالى في ذلك كله.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.