“قطع يد” السارق: فهم جديد

"قطع يد" السارق فهم جديد

أريد أن أقف هنا عند جزء من سورة يوسف عليه السلام وحكاية “صواع” الملك.

والصواع هو القدح الذي كان يشرب به الملك، وهو أيضا قدح الكيل الذي يكال به. وكنا في بعض مدن مصر نستخدم هذا المكيال حتى وقت غير بعيد، وربما لا يزال مستخدما في بعض القرى.

وتبين حكاية “صواع الملك” رغبة يوسف عليه السلام في الإبقاء على أخيه بنيامين الذي جاء مع أخوته في رحلتهم الثانية إلى مصر. ولذلك افتعل واقعة الصواع، فوضع قدح الملك، الذي كان من فضة بحسب رواية التوراة، في وعاء بنيامين بعدما كال لهم ما جاءوا يبتاعون من غلال وحبوب. وبعد أن تركوا مجلس يوسف عليه السلام أعلن القصر عن السرقة، ووجه الاتهام إلى القافلة التي كانت تضم أبناء يعقوب عليه السلام.

“فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ. قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ. قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ” (يوسف:٧٠-٧٢)

ودافع إخوة يوسف عن أنفسهم، نافين تهمة السرقة:

“قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَاكُنَّا سَارِقِينَ” (يوسف:٧٣)

لكن رجال القصر أرادوا استدراجهم لأنهم يعلمون أن “الصواع” في وعاء بنيامين، وأرادوا أن يكونوا منصفين معهم ويعاملوهم بحسب شريعتهم هم، في معاملة السارق:

“قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ. قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ” (يوسف:٧٤-٧٥)

كانت شريعة يعقوب عليه السلام، وهو نبي من أنبياء الله تعالى، أن من يسرق يستعبد. وكان يوسف عليه السلام على علم بها، وسعى إلى تطبيقها مع أخيه بنيامين حتى يبقيه إلى جانبه. يقول سفر التكوين في هذا:

“فقال: نعم، الآن بحسب كلامكم هكذا يكون الذي يوجد معه يكون لي عبدا، وأما أنتم فتكونون أبرياء” (١٠)

“… الرجل الذي وجد الطاس في يده يكون لي عبدا، وأما أنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم” (١٧)

أما شريعة ملك مصر فكانت – بحسب المرويات – ضرب السارق وتغريمه ضعف ما سرق (صفوة التفاسير)

ولما سمح أخوة يوسف بتفتيش أوعيتهم، جيء بهم إلى يوسف ليتم تطبيق الحكم. وبدأ يوسف عليه السلام في تفتيش أوعيتهم بدءا بأكبرهم حتى وصل إلى أصغرهم، وأراهم أن “الصواع” به:

“فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” (يوسف:٧٦)

لم ترو حكاية “صواع” الملك، ضمن قصة يوسف عليه السلام، وكغيرها من قصص القرآن الكريم، اعتباطا. بل كان وراءها، في رأيي، درس مهم لنا في باب العقوبات، واختلاف العقوبة باختلاف الشريعة.

فقد كانت عقوبة السارق في مصر القديمة – بحسب ما روي – هي أن يجازى بدفع ضعف ما سرق وقد يتعرض للضرب أيضا. أما عقوبة السارق في شريعة يعقوب عليه السلام، فكانت الاسترقاق، بيد أنا لا نعلم مدة استرقاق السارق وهل هي مؤقتة ومحدودة أو مدى الحياة.

مفهوم آخر لحد السرقة – ”فاقطعوا أيديهما“

عرفنا مما سبق كيف أن يوسف كان مخيرا بين شريعتين يطبق إحداهما على ”سارق“ الصواع.

وآثر يوسف عليه السلام أن يحاكم الجاني بحسب شريعة أبيه. وكان حد السرقة في شريعة يعقوب عليه السلام هو استرقاق السارق. وهذا ما كفل ليوسف عليه السلام الحفاظ على أخيه.

ولم يطبق يوسف ما كان معروفا لدى المصريين آنذاك بالنسبة إلى السارق، وهو أن يجازى بدفع ضعف ما سرق وقد يضرب أيضا.

وفي كلتا الشريعتين لا تستمر العقوبة إلا إلى مدة محدودة. فقد كانت شريعة بني إسرائيل هي الاسترقاق بحد أقصى سبع سنوات، أو حتى يسدد السارق قيمة ما سرق، بحسب ما أورده الباحث البريطاني ستيڤ رود في دراسته بالإنجليزية عن (القانون الجنائي في إسرائيل القديمة).

والآن نأتي إلى حد السرقة في القرآن الكريم.

وردت الآيات الخاصة بهذا الحد في سورة المائدة. في قوله تعالى:

“وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (المائدة:38)

وفهم معظم المفسرين أن “فاقطعوا أيديهما” تعني بتر يد السارق أو السارقة اليمنى. يقول ابن كثير:

”يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يدالسارق والسارقة، وروى الثوري عن… أن ابن مسعود كان يقرؤها: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما) وهذه قراءة شاذة، وإن كان الحكم عندجميع العلماء موافقاً لها… وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية، فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أخر …“

ولا أحسب أن هذه هي القراءة الوحيدة للآية الكريمة، إذ يمكن أن تُقرأ وتُفهم بطريقة أخرى – كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين – في ضوء اللغة، والسياقات القرآنية ونظام العقوبات التي جاء بها الكتاب الكريم.

أولا اللغة:

  • استخدمت الآية الكريمة فعل “اقطعوا”، وليس المقصود بالقطع “البتر”، لأن من بين معانيها المنع، كما نقول عن ”قطع الطريق وقطع السبيل“.
  • واستخدمت أيضا صيغة الجمع لـ”يد” وهي “أيدي”، فقالت “فاقطعوا أيديهما”. وليس المقصود – بحسب المعني الحرفي – بتر يدي السارق وبتر يدي السارقة فيكون المجموع أربع أيدٍ. ولذلك أقول إن هذا يرجح أن المقصود من تعبير “اقطعوا أيديهما” ليس هو المعنى الحرفي، بل المعنى المجازي، وهو كفهم ومنعهم من السرقة وممارستها إما بالسجن، مثلا، وإما بتكليفهم بأعمال تدر دخلا عليهم يستطيعون من خلالها رد قيمة المسروق.
  • اختيار الآية الكريمة لصيغة “سارق” و “سارقة”، أي صيغة اسم الفاعل، ذو دلالة كبيرة. فصيغة اسم الفاعل تدل على دوام الصفة. إذ إننا ننعت من شغله الشاغل الكتابة بـ”كاتب”، حتى أن نحاة الكوفة كان يطلقون على اسم الفاعل مصطلح “الفعل الدائم” منتبهين إلى صفة الديمومة فيه. ومن هنا فإن “السارق” و”السارقة” أي من فعلوا هذا الفعل غير مرة، وليس من سرق مرة واحدة.
  • ثم إن في استخدام الآية لتعبير “جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ”، إيحاء بأن الجزاء من جنس العمل، وهذا هو عقاب الله تعالى، أي تسديد ما سرق.

ثانيا السياقات القرآنية:

  • مما يعزز هذا المعنى المجازي أيضا في فهم الآية الكريمة، ما تلاها في الآية التالية لها مباشرة من كلام الله تعالى الذي يفسح المجال أمام السارقين للتوبة. والتوبة تعني الإياب والندم على ما فعل، أي قبل تنفيذ العقوبة فيه. يقول الله سبحانه:

“فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (المائدة:39)

  • وردت إشارة في موضع آخر من القرآن الكريم لتقطيع اليد، قد تلقي ضوءا على معنى “فاقطعوا أيديهما”. يقول الله تعالى:

“فَلَمَّاسَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ” (يوسف:٣١)

في إشارة إلى قصة امرأة العزيز ودعوتها لنسوة المدينة اللاتي لُمنها في شغفها بيوسف. وهنا يجمع المفسرون أنفسهم على أن معنى “قطّعن أيديهن” أي جرحنها.

  • وكذلك ورد استخدام الأيدي بمعناها المجازي في مواضع أخرى من الكتاب الكريم. نذكر منها هنا “يد الله فوق أيديهم” التي جاءت في سورة الفتح عند الحديث عن مبايعة المسلمين للرسول عليه السلام. وعن معناها يقول ابن كثير نفسه مبتعدا عن المعنى الحرفي لليد، ومُؤْثرا المعنى المجازي “أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم”

ثالثا نظام العقوبات القرآني:

  • من يتدبر القرآن الكريم يدرك أن نظام العقوبات فيه ينبني على عدة أسس، منها:

– القِصاص، وهو أن يوقع على الجاني مثل ما جنى، “وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ” (النحل:١٢٦). وهذا يرجح تبني المعنى المجازي لقطع اليد

– ألا يتحمل شخص آخر وزر الجاني “ولا تزرُ وازرة وزر أخرى” (فاطر:١٨). وهذا أيضا يرجح الأخذ بالمعنى المجازي، لأن الأخذ بالمعنى الحرفي فيه جناية على أبناء السارق ومن يعول

– ليس في نظام العقوبات عقوبة يستمر أثرها مدى الحياة، إلا في القتل بطبيعة الحال. أما الزنا مثلا فعقوبته محدودة المدة، وهي الجلد. وهذا أيضا يرجح الأخذ بالمعنى المجازي. إذ إن بتر اليد – بغض النظر عن موضع البتر، وبغض النظر عن قيمة المسروق التي يجب معها تطبيق الحد، وهما أمران اختلف فيهما الفقهاء والمفسرون بالرغم من أن هذا حد من حدود الله تعالى – عقوبة تظل مستمرة طيلة حياة من طُبق عليه الحد. ويدل هذا على أن الأخذ بالمعنى الحرفي فيه مخالفة لروح نظام العقوبات في القرآن الكريم.

– وهذا هو ما ورد في شريعة يعقوب عليه السلام التي تبناها يوسف وطبقها على أخيه بنيامين، كما بينت في فقرات سابقة.

– وأخيرا فإن المبدأ الأساسي في القرآن الكريم هو العدل. كما أن من صفات الله التي نكررها كل يوم في صلواتنا عند قراءة فاتحة الكتاب الرحمة. وهذان الأمران يرجحان أيضا الأخذ بالمعنى المجازي لعبارة “فاقطعوا أيديهما”، والابتعاد عن المعنى الحرفي.

وهذه وجهة نظر، فليقبلها من أراد، وينأى عنها بنفسه من رغب.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.