لكنة “إسلامية” في لهجة المصريين

القرآن وأسلمة اللغة

لفظ القرآن في العربية يفيد القراءة، وكان أول التنزيل أمرا بالقراءة. والمسلمون مأمورون بقراءة ما تيسر منه، وتلاوته على مهل، خاصة في رمضان. والقراءة التي أفهمها ليست مرور عينيك على الكلمات والسطور والصفحات، لتفرغ من حزب أو جزء أو أكثر، وإنما هدفها التمعن، ولذلك أُردف الأمر بها بصفات مثل “على مكث”، و”على مهل”، و”ترتيلا” التي تعني – ضمن ما تعني – بتمهل.

ولفظ القرآن من الكلمات القلائل التي يخالف المصريون فيها قواعد لهجتهم الصوتية. فصوت “القاف” في العربية الفصيحة يتحول إلى “همزة” في العامية المصرية، فنقول في “قال = آل” وفي “قدم = أدم”. لكنا لا نقول في “قرآن = أرآن”. وإنما نستبدل بها كلمة “مصحف”. وإذا أردنا استخدام “القرآن” في حديث بالعامية، فإننا نبقي “القاف” سليمة صحيحة، كما نسلك المسلك ذاته مع كلمة “القاهرة”.

وكلمة قرآن، كما يلفظها العرب والمصريون في أيامنا كلمة مفخمة في النطق، فصوت “القاف” صوت مفخم – عكس صوت “الكاف”، نظيره المرقق – ولذلك أثر في الأصوات المجاورة له في الكلمة حتى شاع التفخيم فيها جميعا، فأصبحنا ننطق “قرآن” مفخمة كما ننطق كلمة “غلطان”.

لكن انقساما لغويا بدأ يدب في أوساط المصريين، ونطق كلمة “قرآن” مظهر بارز من مظاهره. فقد أخذت تجري على ألسنة بعض دارسي التجويد وقواعده في مصر من الشباب – من الإسلاميين خاصة – صيغة نطق أخرى للكلمة (هي الصيغة القرآنية) فينطقونها كما ننطق كلمة “حرمان”، فيبقون صفة التفخيم في “القاف” فقط، لكنهم يرققون الأصوات الأخرى المجاورة لها، لأن الكلمة تنطق هكذا في قراءة القرآن الكريم.

وهذا اتجاه نحو أسلمة اللغة بدأ يغزو العامية المصرية، وأصبح وسيلة تستطيع عن طريقها تحديد هوية المتكلم الدينية، وخلفيته الثقافته. وهؤلاء أيضا يقولون “صحابه”، كما نقول نحن “سحابة”، مع الإبقاء على تفخيم “الصاد” فقط، ويقولون “طعام”، كما نقول نحن “نعام”، مع الإبقاء على تفخيم “الطاء” فقط. وأصحاب هذا الاتجاه أيضا إذا رزقوا بولد وسموه عليا، فلا ينادونه – كما اعتدنا، علي، كما ننطق الياء في كلمة “ذكي” – بل يصرون على تشديد الياء، فينطقونه “عليّ”.

وهذا منحى جديد بعض الشيء في اللغة، فالذي تعلمناه بالنسبة للفروق اللهجية بين الناس، هو أن أهل اللغة تختلف لهجاتهم بحسب البيئة الجغرافية (مثل لهجة الصعيد، ولهجة الوجه البحري)، أو بحسب الثقافة ونسبة التعليم (مثل لهجة المثقفين، والأميين)، أو حتى بحسب المهنة أو الحرفة أحيانا. أما أن ينقسموا بحسب التوجه الديني، فهذا مظهر جديد وطريف.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.