“أشهر” و”شهور”: هل هناك فرق أيها العقلاء؟

هل هناك فرق بين أشهر وشهور؟

مازال يحلو لجمهرة لغويينا ودارسي اللغة العربية المسارعة إلى تخطئة الكتاب – ناهيك عن المتحدثين – حين يبعد أولئك وهؤلاء عما درج العرب في سالف الأزمان على استعماله في كتاباتهم وأحاديثهم. وما يرومه فقهاء العربية هؤلاء هو أن تكون ”لغتنا“ اليوم في هذا القرن الحادي والعشرين هي هي ”لغة“ أجدادهم، متوهمين أن اللغة – رغم أن بعضهم يصفها بأنها ”كائن حي“ – كيان متحجر جامد لا يعتوره تغير أو تبدل من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى أخرى.

والأمثلة في هذا الباب كثيرة، لكني أذكر هنا مثالا واحدا فقط هو: الجمع في العربية.

لهذا الجمع لدى فقهاء العربية نوعان: جمع ”قلة“ وجمع ”كثرة“. فالأول منهما يستخدم لما بين الثلاثة والعشرة، أما الثاني فيستعمل (ببساطة ودون الخوض في الاختلافات بين النحويين) فيما زاد على ذلك.

هل هناك فرق بين أشهر وشهور

فهل هذا التقسيم (بالرغم من الخلط الموجود فيه والذي يضعف الاحتجاج به) تقسيم نحوي من لم يلتزم به يكون مخطئا نحويا، كمن يخطئ في نصب الفاعل بدلا من رفعه مثلا؟

هل من يقول: ”ثلاثة شهور“ يكون قد ارتكب خطئا نحويا لأن الصواب (!) ”ثلاثة أشهر“؟

هل ثمة فرق بين الصيغتين ”أشهر“ و “شهور“؟

الحكاية وما فيها – وهذا ما يتناساه فقهاء اللغة وتابعوهم – أن العربية الفصيحة جماع لغات عدد من القبائل العربية التي كانت كل منها تستخدم صيغا بعينها ومفردات بعينها. وعندما جمع اللغويون الأوائل لغات القبائل تلك في المعاجم اختلطت الصيغ واختلطت المفردات. وأخذ اللغويون وفقهاء اللغة ينظرون في هذا الخليط علهم يجدوا تصنيفا يريحهم، وسندهم في ذلك الفرز والتصنيف في غالب الأمر شاهد شعري من هنا أو هناك يفرحون بالعثور عليه دون الوقوف على صحته أو إمكانية استخدامه حجة لما يريدون الاستشهاد عليه.

وهكذا ظهرت قواعد جديدة استقرت في كتب النحو وظن الخلف الذين يقدسون هذا السلف أن تلك القواعد قواعد نحوية لغوية تمليها وتقتضيها خصائص اللغة العربية النحوية واللغوية في أبنية الكلام وتراكيب الجملة.

وما يدفعني إلى ذلك معرفتي أن لغات العالم – بحسب علمي – لم تعرف من أنواع المفردات إلا ”المفرد“، و”المثنى“، و”الجمع“. فلماذا تشذ العربية في هذا الباب؟

وحتى لو صح القول بوجود جمع ”قلة“ وجمع ”كثرة“ في الماضي لدى بعض القبائل، فقد تغيرت العربية اليوم ولم يعد هناك فرق بين الصيغتين في الاستخدامات المعاصرة.

وإذا كان الوضع كذلك فماذا نفعل؟

هل نصر على فرض نصوص كتب النحو القديمة على الكتاب والمتحدثين بالعربية الفصيحة مع أدراكنا بأن كتب النحو – كما قلت ذات مرة – تحوي كثيرا من الملاحظات التي ليست قواعد وليست نحوا، بل مجرد ملاحظات عن الاستخدامات اللغوية عندما ألفت كتب النحو؟

أو نقبل بقوانين اللغة التي لا يمكن أن تعاند، ونقر الواقع اللغوي الذي أصبح مستخدمو العربية فيه اليوم لا يفرقون بين جمع للقلة وآخر للكثرة، بل يدركون فقط أن في العربية جمعا له عشرات الصيغ الصرفية؟

إن فقهاءنا يريدون أن يحجروا اللغة على ما كانت عليه أصواتها وصيغها ومفرداتها في سحيق الزمن، وكأن أصوات زمان وصيغه ومفرداته مقدسات ينبغي التمسك بها والحفاظ عليها. لكن هل من الممكن أن يتحقق لهم ذلك؟

لقد نسي هؤلاء الفقهاء، أو جهلوا، أن من قوانين اللغة – أي لغة في العالم – التغير، فلا توجد لغة ظلت أصواتها وصيغها ومفرداتها ثابتة منذ أن نطق بها أبناؤها الأوائل إلى أن توارثها أحفادهم في العصر الحديث. تخضع لهذا القانون العربية، مثلها في ذلك مثل غيرها من اللغات، ولا يحميها (أو يقيها إن رأى بعضهم في التغير داء) من هذا القانون أو التغير المطرد أي شيء وإلا ما كانت لغة طبيعية.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.