لماذا يفشل خطابنا السياسي في نزع فتيل الأزمات؟

خطابنا السياسي وحل الأزمات

يهيمن على المشهد السياسي في مصر منذ فترة انقسام واضح. ويظهر هذا الانقسام في الخطاب السياسي المصري أيضا. بل لعل أهم ملامح هذا الخطاب، هو الدعوة الجلية للفرقة التي أخذت تميزه بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011. فلماذا لم يفلح الخطاب السياسي في مصر في لم شمل المصريين؟ ولماذا لم يستطع الخطاب الأخير للرئيس المصري المعزول ، محمد مرسي، احتواء الأزمة، وكان، بدلا من ذلك، مثار مزيد من الاحتجاجات عليه، وعلى جماعة الإخوان المسلمين؟ وكان هذا أيضا، ما لاقته خطابات الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، والرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي.

بيد أنا إذا توجهنا شطر الولايات المتحدة الأميركية، وتأملنا – مثلا – الخطاب السياسي للرئيس السابق جورج دبليو بوش، وجدنا أن بوش نجح في كسب أصوات الناخبين داخليا والفوز بالرئاسة مرتين، ثم نجح خارجيا في اكتساب تأييد دول كثيرة في العالم لحملته على أفغانستان، رغم أنها كانت دعوة لشن الحرب، عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام ٢٠٠١ ثم الحرب على العراق عام ٢٠٠٣.

بين خطابين

كان من الطبيعي أن تقسم الثورة المصرية المجتمع إلى طائفتين: طائفة النظام المتضعضع بعد نجاح الثورة، وفريق الثوريين الذين خططوا للثورة، وشاركوا فيها. وكان من المفترض أن يوحد بناء الدولة الجديدة، بعد الثورة، طوائف المجتمع. لكن خطة البناء التي اتفق عليها في أعقاب عدد من الإعلانات الدستورية، قسمت المجتمع أكثر. وهكذا، لم يعد في البلاد نظام قديم منهار وثوريون فقط، بل انقسم الثوريون أنفسهم – بعد أول استفتاء أجري عقب الثورة – إلى إسلاميين (يمثل الإخوان المسلمين غالبيتهم، بالإضافة إلى حزب النور السلفي، والأحزاب الإسلامية الأخرى)، وليبراليين يوصفون أحيانا بالعلمانيين، تنضوي تحت مظلتهم الأحزاب الأخرى غير الإسلامية.

ومنذ ذلك الحين، أخذ الخطاب السياسي يعمق الشرخ ويزيد الفرقة بين الإخوان المسلمين والإسلاميين من ناحية، ورجال النظام القديم وبقايا الحزب الوطني، والأحزاب الأخرى، خاصة المدنية منها والليبراليين من ناحية أخرى.

وازداد الخطاب السياسي المفرق حدة في أعقاب الانتخابات الرئاسية، ونجاح محمد مرسي في أواخر يونيو (حزيران) عام 2012، حتى وصلنا إلى المرحلة التي تلت احتجاجات 30 يونيو، وعزل الرئيس مرسي. فتمثل انقسام المجتمع في انقسام العاصمة ذاتها إلى بؤرتين: إسلامية في ميدان رابعة العدوية، وليبرالية مدنية في ميدان التحرير، عدا ميادين القاهرة الأخرى، وميادين المحافظات المختلفة.

ولكن، هل يمكن أن يكون للخطاب السياسي مثل هذا التأثير في المجتمع، أم أن اللغة مرآة لما يجري فيه من انقسام، وليس لها من دور سوى أنها تعكس الأحداث؟

اللغة والسياسة

إن «الخطاب السياسي» لا ينحصر فقط في الخطب السياسية التي يلقيها الزعماء والساسة، بل يتجاوز ذلك إلى ما يستخدمه السياسيون من وسائل التعبير: مثل الشعارات، واللافتات، والهتافات، والمناظرات، والصور التي يعلقونها أو ينشرونها، والزي الذي يلبسونه، والموسيقى والأناشيد التي تصاحب تجمعاتهم.

وتهدف دراسات تحليل الخطاب السياسي، في أغلبها، إلى تفسير العلاقة بين الخطاب وعدد من العوامل المهمة في المجتمع، أهمها السلطة. ويحاول العلماء كشف الأفكار الآيديولوجية التي يهدف السياسي من خلال خطابه، وعبر سلاح اللغة وأدواته المختلفة، إلى إقناع مخاطبيه بها.

كما يسعى اللغويون، من وراء تحليل الخطاب، إلى مراقبة سلوك الجماعة (بالمعنى الاجتماعي للكلمة)، أو الصفوة، وكيفية سيطرتها على اللغة في الخطاب السياسي، أو تعمد استغلالها من أجل الحفاظ على وضع الجماعة في المجتمع، ومراقبة محاولات السياسيين، من خلال المواقف السياسية، إسباغ الشرعية على أنشطتهم، أو مقترحاتهم عن طريق اللغة. وبهذه السيطرة، بواسطة استخدام اللغة، يمكن أن يقود الخطيب جمهوره بطريقة إيجابية، أو أن يضلله، حتى يعتقد بأن مصالح حزب الخطيب الضيقة هي مصالح الشعب بصفة عامة.

وفي تاريخ البشرية نماذج لخطباء مشهورين من الصنفين، نذكر منهم جمال عبد الناصر في مصر، وتشرشل في بريطانيا، وروزفلت في الولايات المتحدة، وهتلر في ألمانيا.

العلاقة بين اللغة والسياسة علاقة قديمة أدركها أرسطو. فقد عرف الفيلسوف اليوناني الإنسان بأنه «كائن ناطق»، إذ إنه الوحيد بين الكائنات الذي يستخدم اللغة في قضاء حوائجه، والتعبير عن أفكاره وعواطفه ومشاعره، والحديث عن تجاربه الماضية وخططه للمستقبل. وأرسطو أيضا هو الذي وصف الإنسان بأنه «كائن سياسي».

ولا غرابة في ذلك، فالسياسة في مجملها، كما يقول بول تشيلتون، الباحث في تحليل الخطاب السياسي: «هي كيفية استخدام اللغة». ويرى تشيلتون أننا يمكن عن طريق اللغة، من خلال المؤسسات السياسية والاجتماعية، أن نعلن الحرب، وأن نحكم على شخص بأنه «مذنب» أو «بريء»، وأن نزيد الضرائب أو نخفضها. ويرى بعض اللغويين الآخرين، أن اللغة مرتبطة بالسياسة ارتباطا وثيقا، وأن أي منطوق لغوي يكشف وراءه دوما انحيازا سياسيا معينا.

Frame – نظرية الإطار الذهني

سنركز بحثنا هنا على جانبين مهمين من جوانب الخطاب السياسي، هما جانب «الإطار الذهني»، أو الصور الذهنية، أو المفاهيم التي يطرحها السياسيون لكسب الجماهير، ثم الخطب السياسية التي يلقونها.

وحتى نفهم نظرية الأطر الذهنية، يجب أن ندرك أن الدور الذي تؤديه الكلمات التي نستخدمها كل يوم في حياتنا، لا يقتصر على إرضاء المخاطبين أو إغضابهم، بل إن تلك الكلمات كثيرا ما تثير – إلى جانب ذلك، وربما نتيجة لذلك – في أذهان السامعين عند نطقها، أطرا (أو صورا) ذهنية معينة، وتفرض على المتلقين فهما خاصا ومحددا إزاء الموقف الذي تلفظ فيه، يسعى المتكلم إلى فرضه. ومن هنا فإن أهمية اللغة (أو الكلام)، تكمن فيما تثيره في أذهان المتلقين من أطر وصور ذهنية محددة، وكذلك فيما لا تثيره، أيضا، من أطر وصور ذهنية. ولا يقف الأمر عند حد التصور الذهني، إذ إن الإنسان عادة ما ينتقل من مرحلة الإدراك الذهني إلى مرحلة السلوك النابع من هذا الإدراك، فيسلك سلوكا معينا.

عندما قررت أوروبا الإجهاز على الدولة العثمانية، عقب خسارتها في أكثر من حرب، وتضعضعها المالي وتحكم القوى الأوروبية الكبرى فيها، رفعت شعارا بسيطا تصف به تلك الدولة، بأنها «رجل أوروبا المريض، وكأنها تدعو بطريقة غير مباشرة إلى المساهمة في القضاء على هذا المريض الذي ليس من أمل في شفائه.

وحديث الدول الغربية والولايات المتحدة عن الأسلحة النووية، يتم في إطارين ذهنيين مختلفين تماما بحسب المخاطب. فتلك الأسلحة هي «سلاح ردع » إن كانت في حيازة دولة غربية، لكنها، أي الأسلحة نفسها، تصبح «سلاح دمار شامل إن سعت إلى حيازتها دولة أخرى قد تخالف الغرب في سياساته.

وعندما احتلت إسرائيل فلسطين حرصت في خطابها السياسي على طمس الهوية الفلسطينية. ولما سئلت رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير عن الفلسطينيين قالت: «ليس هناك شيء اسمه فلسطينيون»، وأطلقت إسرائيل على الفلسطينيين الذين حصلوا على الجنسية الإسرائيلية تعبير «عرب إسرائيل» لمحو هويتهم الفلسطينية والتركيز على أنهم عرب، وأخذت وسائل الإعلام الإسرائيلية تردد هذا التعبير، وتناقلته وسائل الإعلام الغربية وحتى العربية، بل أصبح يتردد الآن على ألسنة بعض الفلسطينيين أنفسهم.

«الحرب على الإرهاب»

عندما أراد جورج بوش الابن – عقب أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ – شن الحرب على أفغانستان، لم يقل سنحارب أفغانستان، أو طالبان، أو «القاعدة»، لكنه رفع شعارا ذكيا يخدم مصالحه، ويكسب به تأييد الجميع حتى المعارضين لفكرة الحرب، هو «الحرب على الإرهاب»

War on Terror

. فالحرب في الشعار على شيء مجرد هو «الإرهاب»، وبذلك يمكن أن تمتد إلى أي مكان، وأن تطول لأي فترة، بحسب ما تريده الإدارة الأميركية، ولا يستطيع أحد أن يعترض على حرب يواجه الإرهاب فيها.

ولم يختر الشعار «الحرب على الإرهابيين»، لأن الإرهابيين محدودون، ولا يمكن شن الحرب هنا وهناك بذريعة مقاتلة الإرهابيين. وبناء على هذا الشعار شن بوش حربه على العراق أيضا، باعتبارها حربا مشروعة ردا على ما حدث لأميركا في ١١ سبتمبر.

لم يكن هذا الشعار من بنات أفكار الرئيس الأميركي نفسه، ولا الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه، ولكنه صيغ، فيما أظن، بعد استشارة فرانك لونتز خبير الحزب في اللغة والتواصل والتحليل السياسي.

وكان بوش قد مهد لحملته على أفغانستان في خطاب له أمام الكونغرس الأميركي بمجلسيه في ٢٠ سبتمبر ٢٠٠١. بعبارته المأثورة التي قسم فيها العالم إلى قسمين قائلا: «إما أن تكون معنا، وإما أن تكون مع الإرهابيين.

وحتى يمهد بوش لحملته على العراق، بدأ في خطاب الاتحاد في يناير ٢٠٠٢. في الإشارة إلى ما سماه «محور الشر» الذي يضم العراق وإيران وكوريا الشمالية. وساند الرئيس الأميركي إطاره الذهني الجديد بالزعم بأن تلك الدول تدعم الإرهاب، مركزا الهجوم على العراق في ذلك الخطاب الذي ألقاه في ٢٩ يناير ٢٠٠٢ ويعود فضل صياغة هذا التعبير إلى ديفيد فرم، الذي كان يكتب خطابات الرئيس آنذاك. وقد نجح الرئيس الأميركي من خلال هاتين العبارتين، في الحالتين، في إقناع الأميركيين وكسب تأييد أكبر عدد منهم للحرب على أفغانستان والعراق. ورغم أن بوش – من ناحية أخرى – قسم العالم إلى معسكرين، بيد أنه وحد الأميركيين وراءه.

تخفيف ألم الضرائب

وكان للونتز الفضل أيضا في الصياغة اللغوية المعبرة عن رغبة الحزب الجمهوري في تخفيض الضرائب، من أجل كسب التأييد الداخلي في حملة بوش الأولى للرئاسة الأميركية. فمن بين مبادئ الحزب تخفيض الضرائب عن رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال والشركات، وهذا يناقض سياسة الحزب الديمقراطي الذي يريد زيادة الضرائب على الرأسماليين ورجال الأعمال لتمويل برنامج الرعاية الاجتماعية الذي يؤمن به.

ولو رفعت حملة بوش شعارا يقول هدفنا «تخفيض الضرائب، لفقدت أصوات الديمقراطيين ومعارضي التخفيض. لكن فرانك لونتز نصحهم باستخدام شعار آخر هو، أي تخفيف ألم الضرائب. والصورة الذهنية التي يجلبها هذا الشعار إلى الذهن، هي صورة شخص متألم وأن بوش يريد خلاصه وتخفيف ألمه، فكيف يمكن للمعترضين على سياسة تخفيض الضرائب أن يرفضوا تخليص الناس من الألم.

والمشكلة التي ينبهنا إليها جورج لاكوف أحد أبرز علماء نظرية الإطار الذهني، أن من يرفض إطارا ما فهو يدعمه في ذهن المخاطب من دون أن يدري. ويضرب لاكوف مثلا بما اعتاد أن يقوله لطلابه في بداية محاضراته عند شرح النظرية «لا تستحضروا إلى أذهانكم صورة فيل»، وينتهي الأمر بجميع الطلاب وقد استحضروا من دون إرادة منهم صورة فيل إلى أذهانهم. ويقول لاكوف إنك إن أردت رفض إطار ما عليك أن تطرح إطارا آخر يحل محله، لا أن تنفي الإطار الذهني الذي لا توافق عليه.

إذا انتقلنا من الولايات المتحدة إلى الساحة السياسية في مصر، وجدنا انقساما شديدا مثله، إلى حين فض اعتصام رابعة العدوية، ميدانان: ميدان التحرير، حيث كان يحتشد ممثلو حركة تمرد و30 يونيو، وغيرهما من القوى المدنية التي عارضت استمرار الرئيس السابق محمد مرسي في الحكم، وطالبته بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، فرفض ثم انتهى الأمر بعزل الجيش له بعد خروج حشود المحتجين ضده. وميدان رابعة العدوية، حيث اعتصم أنصار مرسي، وأصروا على البقاء حتى عودة الرئيس «الشرعي»، كما كانوا يقولون إلى منصبه.

وقد رفع كل من الميدانين شعاراته الخاصة به. فماذا قال محتشدو ميدان التحرير؟ وأنا هنا أنقل فقط الشعارات التي تمثل جزءا من خطابهم السياسي: «الشعب يريد إسقاط الإخوان»، و«يسقط حكم الإخوان، يسقط حكم المرشد»، و«لا لدولة الإخوان»، و«الجيش لن يكون جناحا عسكريا للإخوان»، و«فين السولار؟ زيادة في الأسعار، النور مقطوع.. هنموت م الجوع، الأمن ما فيش.. ولا لقمة عيش»، و«الشعب يريد تطهير الإعلام»، و«الدين لله والوطن للجميع».

وهنا نلحظ التركيز على:

١ – فصل الإخوان عن المجتمع، وكأنهم ليسوا مصريين، أو ليسوا جزءا من الشعب المصري.

٢ – معاناة الشعب في الحصول على حاجاته الضرورية.

٣ – فكرة المواطنة.

فخطاب ميدان التحرير إذن خطاب – وإن كان يدعو للفرقة بين أبناء الشعب وفصيل سياسي له أفكار آيديولوجية مختلفة، فهو أيضا ينادي بالمواطنة التي تساوي بين الجميع.

وإذا ذهبنا إلى ميدان رابعة العدوية، سنجد شعارات مختلفة هناك، مثل: «نعم للشرعية رغم أنف العلمانية»، و«الشرعية خط أحمر»، و«لا للعنف نعم للشرعية»، و«مع الشرعية ضد الهمجية»، و«لا للبلطجة السياسية»، و«ارحل يا سيسي مرسي هو رئيسي».

وقد رافق تلك الشعارات، رفع علم تنظيم القاعدة المعروف. كما أدت الصورة التي صاحبت شعار «الشرعية خط أحمر» دورا مهما في الترهيب، فقد رسمت وسط الصورة التي تحمل الشعار كف مضرجة بالدماء عند نهاية طريق، وكأنها تقول قف، وإلا… وتضافرت الخطب الملقاة مع الشعارات المكتوبة في حمل رسالة تهديد.

قال صفوت حجازي: «أقول لهم دماؤنا غالية»، و«نحن أشرف من على هذه الأرض»، و«نقول لولي أمرنا: إن لم تضرب بيد من حديد، فسيكون لنا كلام آخر»، و«الرئيس محمد مرسي اللي يرشه بالميه هنرشه بالدم».

وقال أحد الشيوخ في رابعة العدوية، موجها كلامه لوزير الدفاع عبد الفتاح السيسي: «إنت اللي بتعمل حرب أهلية بين المسلمين وغير المسلمين، والعلمانيين، والشيعة، أنت اللي كتبت شهادة وفاة كل واحد عارض الرئيس مرسي، وعارض شرعية الصندوق».

وهنا نلاحظ أن تركيز الخطاب في ميدان رابعة العدوية كان على:

١ – فكرة الشرعية والتشبث بها، مهما كان الثمن، والتهديد بالدم في سبيلها.

٢ – فصل الجماعة عن بقية المصريين، والشعور بالاستعلاء بين قادة المحتشدين على من يخالفونهم، ووصم المخالفين بأنهم «علمانيون»، وهذا يعني في أوساط الإسلاميين، بصفة عامة: «ملحدين».

٣ – الهجوم على وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، باعتباره ممثلا للجيش المصري.

وأود هنا أن أقول إن ملمح الفرقة في الخطاب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، يرجع إلى فترة نشأة الجماعة، فاسم الجماعة ذاته: «الإخوان المسلمون»، فيه إيحاء بأنهم هم الفصيل الوحيد المسلم. كما أن شعارهم الذي رفعوه غير مرة خلال الانتخابات، وهو «الإسلام هو الحل» شعار فيه مصادرة على أفكار الآخرين من غير المسلمين، ويتسم بالتعميم، ولا يهدف إلا إلى كسب تأييد عامة الناس الميالين للدين بطبيعتهم.

وكان حزب الحرية والعدالة، قد أعلن في أواخر ٢٠١١، عن تخليه عن رفع هذا الشعار في الانتخابات البرلمانية التي جرت بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، واستبدل به شعار «نحمل الخير لمصر»، لكنه لم يف بالوعد، وأعاد رفع شعار «الإسلام هو الحل» لما له من تأثير شعبي ديماغوغي.

الرئيس الواعظ

اختيار اسم للجماعة فيه استخدام لكلمة الإسلام، ورفعها شعارات دينية، ليس غريبا على جماعة دينية عرفت في أول عهدها باعتبارها جماعة دعوية. أما أن يستخدم الجناح السياسي للجماعة، حزب الحرية والعدالة، الدين وشعارات دينية إسلامية في حملة انتخابية، فهذا أمر قد يفضي إلى مصادرة آراء الآخرين من غير المسلمين، وحتى من المسلمين الذين لا ينتمون إلى جماعة الإخوان أو إلى حزبهم، وقد يؤدي إلى إقصاء الآخر.

وقريب من هذا النهج، جاء الخطاب السياسي للرئيس السابق محمد مرسي، الذي قدمه في شخصية واعظ ديني، ربما لكسب مشاعر المسلمين البسطاء. ظهر ذلك في أول خطاب ألقاه في يونيو 2012، وآخر خطاب ألقاه في يونيو 2013. إذ يبدأ دوما كما يبدأ شيوخ الواعظين خطبهم بالبسملة، والصلاة والتسليم على الرسول الكريم، ثم يتبع ذلك آية قرآنية.

ويعد تقمص شخصيات دينية أو تاريخية، واستخدام اقتباسات من الكتب الدينية، أو من أقوال شخصيات تاريخية مشهورة، وسيلة معروفة في الخطاب السياسي. فقد كان الرئيس المصري السابق أنور السادات، يستخدم أيضا تلك الوسيلة، حتى أطلق عليه وصف «الرئيس المؤمن».

لكن خطاب مرسي السياسي غرق في ذلك أكثر من غيره. ففي خطابه الأول عندما أعلنت نتائج الانتخابات، استحضر شخصية أبو بكر الصديق، ونقل عنه «وأما عن نفسي فإنني ليس لي حقوق، وإنما علي واجبات، فأعينوني أهلي وعشيرتي ما أقمت العدل والحق فيكم، أعينوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته ولم ألتزم بما تعهدت لكم به، فلا طاعة لي عليكم».

وفي نهاية الخطاب، تعهد مرسي للمصريين مستخدما فكرة خيانة الله ومعصيته، وليس الوطن، فقال: «وأردد مؤكدا.. ما أعلنته من قبل، أنني لن أخون الله فيكم ولن أعصيه في وطني، وأضع نصب عيني قول الله سبحانه وتعالى (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)».

العاطفة وإطار الأبوة

الملمح الثاني في خطاب مرسي السياسي هو «العاطفة»، إذ تتكرر لديه كلمات الحب «كل التحية لشعب مصر العظيم وجيش مصر.. والقوات المسلحة بكل أبنائها أينما وجدوا تحية خالصة من قلبي لهم، وحب لا يعلمه في قلبي إلا الله سبحانه وتعالى، وأنا أحب هؤلاء وأقدر دورهم وأحرص على تقويتهم والحفاظ عليهم وعلى المؤسسة العريقة التي نحبها ونقدرها جميعا».. و«الأحباب»: «ولكنني متأكد أننا بتوفيق الله ثم بتعاوننا وبدعمكم أيها الأحباب سنتمكن من عبور هذه المرحلة».

ومن هذا الباب تكراره لتعبيرات «أهلي وعشيرتي»، و«الأهل والعشيرة والأحبة» التي رددها غير مرة في خطابه الأول، ثم استخدام تعبير «أولادي» في خطابيه الأول والأخير في إشارة إلى الشباب.

استحضار إطار الأب الذهني وصورة الوالد – تصويرا للرئيس – وصورة الأبناء أو الأولاد أو حتى الإخوة – تصويرا للشباب أو بعض أفراد الشعب – يستدعي بالضرورة بقية مقتضيات الصورة الذهنية، من وجوب احترام الوالد وطاعته، وإطلاق يده في القرار باعتباره رب العائلة. فالعلاقة بين رئيس الدولة والشباب هنا هي علاقة الأب بالأبناء، وليست علاقة رئيس منتخب كلف بمسؤولية القيادة، وعليه واجبات وله حقوق، بمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات أيضا.

غياب المواطنة

يفضي بنا هذا، إلى ملمح ثالث في الخطاب السياسي لمرسي هو غياب فكرة المواطنة. فمرسي لا يبدأ خطابه بمخاطبة المواطنين، كما كان يفعل الرئيس السابق جمال عبد الناصر، لكنه يوجه خطابه لـ«شعب مصر العظيم». وغاب عن خطابه ذكر من لم يؤيدوه. ففي خطابه الأول توجه بالحديث إلى «شعب مصر العظيم»، ثم شكر «الأهل والعشيرة» في محافظات مصر جلها تقريبا، وعدد أبناء المهن والحرف على اختلافها، وقال: «أتوجه إليكم جميعا في هذا اليوم المشهود الذي أصبحت فيه بعد فضل الله بإرادتكم رئيسا لكل المصريين وسأكون لكل المصريين على مسافة واحدة»، من دون أن يذكر من لم ينتخبوه، وكان عددهم كبيرا. وهو يخالف في ذلك خطاب السادات حينما قال عقب استفتاء شعبي: «سأكون مع الذين قالوا نعم والذين قالوا لا».

وغاب عن الخطاب السياسي لمرسي أيضا، الحديث المفصل عن المشاكل التي يواجهها الشعب فعلا، مثل شح الوقود، وارتفاع الأسعار، وانقطاع التيار الكهربائي. وهو إن تحدث عنها فقد أشار إليها سريعا، محملا النظام القديم مسؤوليتها.

التهديد بالشرعية

ورغم مطالبة حركة «تمرد» و«30 يونيو» بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، لم يتعرض مرسي في خطابه الأخير، الذي ألقاه بعد مهلة الجيش، لهذا المطلب. بل ركز الخطاب كله على فكرة الشرعية وتمسكه بها مهما كان الثمن، وقال: «فإذا كان الحفاظ على الشرعية ثمنه دمي أنا، فأنا مستعد أن أدفع ذلك الثمن، حسبة لله تعالى».

وكرر مرسي ذكر الدم والدماء غير مرة، واستخدم أسلوب النهي وكأنه يحث على نقيض ما ينهى عنه، فقال متحدثا عن الجيش: «لا أريدكم أن تقعوا في هذا المطب، فلا تسيئوا للجيش وحافظوا على الجيش معي». ونهيه هنا قد دعم – بطريقة غير مباشرة، وربما دون أن يدري – الصورة الذهنية للإساءة إلى الجيش.

في أميركا نجح الرئيس السابق، جورج بوش الابن، في كسب تأييد الأميركيين لبرنامجه ففاز مرتين، لأنه استعان بمستشارين يتقنون عرض القضايا بطريقة مقنعة للمخاطب، وإن بنيت على خداع لغوي. ونجح في كسب مساندة الدول الأخرى لحربه على أفغانستان والعراق، لأنه مهد لها بطرح أطر ذهنية تفرض على المتلقي خيارا قد لا يستطيع الفكاك منه، وهو اتباع مسار بوش.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.