معاني “اللسان” في القرآن

“وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ”

تكلم الإنسان آلاف السنين قبل أن يعرف سر الكلام، ويهتدي إلى آية الله في لسانه. واللسان – ذاته – عضو واحد من أعضاء جهاز النطق العجيب لدى الإنسان بيد أن له دوراً كبيراً في عملية الكلام سوغ للناطقين أن يتخذوا منه رمزا للغة. 

فاللسان في اللغة العربية – في بعض معانيه – يطلق على اللغة فيقال مثلا: لسان حمير ولسان مضر ولسان قريش. 

واللسان في العبرية – وهي سامية كالعربية – (= لاشون) – يقصد به اللغة كذلك، وتستخدم العبرية أيضاً الشفة (=سفاه) إشارة إلى اللغة. 

واللسان في اللغة الانجليزية يستخدم بمعنى اللغة أو اللهجة، بل اشتق منه – قديما – فعل للدلالة على الكلام. 

وهكذا نلحظ أن كلمة (اللسان) استعملت في مكان (اللغة)، غير أنه ليس من الشائع أن يستعمل اللسان، في مكان (الكلام)، أو في مكان (اللغة) بمعناها العام، أي تلك القدرة الالهية التي خص الله سبحانه وتعالى بها بني آدم عليه السلام. 

فلا يقال – كثيرا – خص الله الإنسان (باللسان) دون الحيوان في مقابل: خص الله الإنسان (باللغة) دون الحيوان. 

ولا يقال هذا (لسان) طيب في مقابل هذا (كلام) طيب. 

اذن ينحصر استخدام اللسان – في العربية – في الدلالة على (اللغة) المعينة، أو الدلالة على لغة قوم بعينهم كالعربية أو الفارسية أو الأردية، فيقال: اللسان العربي واللسان الفارسي واللسان الأردي. 

ومما يلفت النظر أن كلمة (اللغة) لم تستعمل في الشعر الجاهلي، إلا أن الشعراء الجاهليين عرفوا لفظة (اللسان)، يقول عنترة 

فلم أمسك بسمعي إذ دعاني ولكن قد أبان له لساني   

كذلك لم يستعمل القرآن الكريم كلمة (اللغة)، لكنه استعمل كلمة (اللسان) غير مرة فوردت مادة ”ل س ن“ في القرآن الكريم أربعا وعشرين مرة للدلالة على أكثر من معنى. 

 أولا – وردت كلمة (اللسان) بمعناها الطبيعي أي بمعنى العضو الكائن في الفم، وكان ذلك في قوله تعالى في سورة (النور: ٢٤) “يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”. 

كذلك في قوله تعالى في سورة (البلد: ٩) “ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين”، إلا أن السياق في هذه الآية يلفت إلى ما في اللسان من إعجاز، فهو قطعة من اللحم عجيبة التركيب فيها من الخلايا ما يساعد على التذوق، ولها من الحركة، ما يخدم عملية البلع، ولديها القدرة على التشكل في أشكال وأوضاع مختلفات تنتج لنا أصواتا متباينة، فهذا صوت مطبق مثل: الطاء والظاء، وذاك صوت مرقق كالتاء والذال، وهذا صوت مكرر كالراء، وهذا صوت مفتوح أو مضموم أو مكسور.

وتشترك الشفتان مع اللسان في عملية الكلام هذه وتشكيل الأصوات، ولعلنا نذكر تلك الحروف التي يسمونها حروفا شفوية (الفاء والباء والميم). 

وهكذا تتكشف لنا نعمة الله سبحانه وتعالى في اللسان والشفتين، وفي هذه النعمة حجة على الإنسان إذا نازعه غروره فتكبر وكذب ونسي أن له ربا سيحاسبه يوم القيامة وليس ذلك بعزيز عليه، وقد منحه هذه النعمة وغيرها الكثير. ولعل هذا المعنى توضحه في جلاء بداية السورة “لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد. ووالد وما ولد. لقد خلقنا الإنسان في كبد. أيحسب أن لن يقدر عليه أحد. يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين”. 

على أن لذكر الشفتين مع اللسان معنى طريفا آخر ذكره القرطبي في تفسيره فيما رواه عن النبي – عليه السلام – في قوله تعالى: “أن الله تعالى قال: يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق”. 

فهاتان الشفتان طبقتان، كما يشاركان في عملية الكلام يمكن أن يمنعا الكلام أصلا عند إطباقهما، ذلك حين تجاوز أعضاء النطق حدود المنطق الحلال إلى المنطق الحرام فتخرج عن وظيفتها الأساسية، ألا وهي العبودية لله بالكلم الطيب، عندئذ يجب أن تكون الشفاة حارس أمان يمنع من التجاوز ويكف عن الكلام. 

كذلك ورد لفظ (اللسان) في سورة (القيامة: ١٦) في قوله تعالى “لا تحرك به لسانك لتعجل به”. بمعنى عضو الكلام كما ألمعنا. 

اللسان واللغة: 

ثانيا: يرد (اللسان) في آيات أخر دالا على (اللغة)، كما في قوله سبحانه وتعالى: في سورة (إبراهيم: ٤): “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم”. 

ولسان قومه: أي لغة قومه، أي أن لكل رسول أرسل بلغة بني جلدته لتكون الحجة قائمة عليهم إذا خالفوا عن أمر الله. 

كذلك جاء اللسان في هذا المعنى في آيات أخرى منها: “لسان الذي يلحدون إليه أعجمي” – (النمل: ١٠٣) 

“وهذا لسان عربي مبين” – (النحل: ١٠٣)

“فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون” – (الدخان: ٥٨) 

“ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم” – (الروم: ٢٢)

وكلها واضحة الدلالة على (اللغة)، لكنها ليست اللغة على إطلاقها بل (اللغة المعينة). وأحسب أن آية الروم كافية في البرهان على هذا المعنى فاختلاف (ألسنتكم) يعني اختلاف (لغاتكم)، فلكل مجتمع ولكل بيئة لغتها الخاصة التي تخالف غيرها من اللغات في حروفها وخطها وقواعدها، على الرغم من أن بني آدم سواء في الخلقة، وتلك – لا ريب – آية كبرى من آيات الله جل وعلا قد نعود إليها بالبيان إن شاء الله. 

اللسان والكلام: 

ثالثا: ثم أفاد ورود لفظ (اللسان) في طائقة أخرى من آي الكتاب الحكيم معنى أخص من المعنى السابق، هو (الكلام) أي أداء الفرد للغة، وأحسب أنه من الأمور التي قد تخلط علينا هذا الأمر، التفرقة بين اللغة والكلام، فاللغة – أية لغة – هي مجموعة قواعد مركوزة في أذهان المتكلمين بها، وهؤلاء الناطقون يتكلمون طبقا لهذه القواعد، فاللغة – إذن – شيء ذهني والكلام أداء عملي، ومن هنا يختلف الناس – المتكلمون بلغة واحدة – في كلامهم، فلكل واحد منهم طريقته الخاصة في النطق وفي اختيار الكلمات وفي ترتيب الكلمات لتكون جملا، كل هذا يفعله المتكلم ويمتاز به ليعبر عن معنى أو إحساس خاص أو شعور ألم به. 

إذن يجيء (اللسان) هنا – مرة ثالثة – ليفيد معنى (الكلام)، ولننظر في بعض من آيات الكتاب الكريم التي تشير إلى هذا المعنى. 

يقول تعالى في سورة (الأحزاب: ١٩): “فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد”. ويقول في سورة (النحل ١١٦) “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب). ويقول تعالى في سورة (آل عمران: ٧٨): “وأن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب”. وفي سورة (الممتحنة: ٢) “ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء”. 

تفيد هذه الآيات جميعا معنى الكلام على سبيل المجاز، واللسان أداة هذا الكلام بيد أنا نلحظ أن (اللسان) في هذه الآيات كافة قد ورد في سياق الذم، وهكذا اللسان – وهو جارحة – تكون وظيفته عند الكافرين والمنافقين، العيب والانتقاص من المؤمنين، بالكذب ولي الكلام عن معانيه وبالسوء على العموم، وما أروع هذا التصوير البياني للألسنة في الآية الأولى (سلقوكم بألسنة حداد” كأن هذه الألسنة سهام حادة مسمومة مصوبة إلى صدوركم أيها المؤمنين، وتمطركم بالأذى. 

وانظر معي كيف تنطق هذه الصورة الأخرى “يلوون ألسنتهم بالكتاب” بالحيدة عن الحق ولن يكون ذلك إلا قسرا وغصبا للسان بليه، فكأنه يعرف – أي اللسان – طريق الحق لكن أصحابه يلوونه ليا عنيفا وينأون به عنه، فهل لأولئك من عقول بعد؟ 

على أن ثمة طائفة أخرى من المؤمنين تنهج منهجا آخر، فلسانهم رطب بذكر الله، ووظيفة اللسان لديهم – هي وظيفة الإنسان على هذه الأرض. 

وكما ورد (اللسان) في سياق الذم، ورد كذلك في سياق (الثناء). 

كقوله تعالى في سورة (مريم: ٥٠): 

“ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا”. وفي “واجعل لي لسان صدق الآخرين” سورة (الشعراء: ٨٤): هذا هو الثناء على هؤلاء المؤمنين بما فعلوا، فلسان صدق ثناء باق حتى بعد موتهم، فذكرهم دوما ذكر طيب، يفرض على الألسنة أن تمدحهم ولا تقول فيهم إلا صدقا. 

اللسان وعيوب النطق: 

رابعا: وأخيرا كان من المعاني التي أشار إليها (اللسان) في آي القرآن الكريم هو عيوب النطق. فقد جاء ذلك في قوله تعالى في سورة (طه: ٢٧): “واحلل عقدة من لساني”. وسورة (الشعراء: ١٣) “ويضيق صدري ولا ينطق لساني”. 

وهاتان الآيتان الكريمتان في وصف حال سيدنا موسى عليه السلام، ويبدو أنه – عليه السلام – كان لديه شيء من لثغة أمسكت لسانه فلا ينطق أو عقدته فلم يسلس له. وما أجمل تصوير تلك اللثغة بالعقدة التي تربط اللسان فلا يتحرك كأنه الخيط المعقود لا يلج عين الإبرة أو (سم الخياط). 

وقد يكون دافع ذلك عند سيدنا موسى – عليه السلام – هو الخوف من فرعون وقومه بعد أن قتل منهم نفسا إذ يقول تعالى: “قال رب إني قتلت منهم نفسا وأخاف أن يقتلون” (القصص: ٣٣) 

لكن استعانة سيدنا موسى عليه السلام بأخيه هارون عليه السلام تؤكد الاحتمال الأول. يقول تعالى: “وأخي هارون هو أفصح مني لسانا” – (القصص: ٣٤). 

وهكذا كان عطاء القرآن الكريم في كلمة، ولما يزل فياضا لمن تذكر وتدبر.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.