عُطبول وأنملة وحدقة، يا لها من إنسانة!

عطبول وأنملة وحدقة

ترى ما الذي يمكن أن يجمع بين تلك الكلمات، التي أؤكد لكم أن أولها عربية قحة: “عطبول”، و”أنملة”، و”حدقة”؟

إنه سؤال سألني إياه صديق، أظنه كان مازحا. إذ قال: هل نستطيع أن نقول إنسانة للمرأة، كما نقول إنسان للرجل؟ وهل يمكن أن نؤنث كلمة “رَجُل” فنقول “رجلة”.

لقد أضحكني الجزء الثاني من السؤال فعلا. فلماذا نكون بحاجة إلى تأنيث “الرَجُل” للإشارة إلى المرأة، التي أنعمت عليها اللغة المعطاءة بكلمة مستقلة هي “امرأة”؟

هذا افتراض يبلغ حدا لم أعرفه من قبل – مع الاعتذار لمن تواتيه مثل تلك الفكرة – في “ذكورية” التفكير. فهل نلغي كلمة “امرأة”، حتى نؤكد تبعية النساء للرجال بالإشارة إليهن على أنهن “رَجُلات” جمع “رَجُلة!”؟

صحيح أن من بيننا أناسا يلجؤون إلى مثل هذا عندما يريدون الثناء على ابنة، أو زوجة، فيقولون: “ابنتي بعشرة رجال”، أو “زوجتي تعادل مئة رجل”. وكأن “الرجل هو المعيار الأوحد لقياس جودة الأوصاف.

أما الجزء الأول من السؤال بشأن “إنسانة”، فلست أرى أبدا أن هناك ما يمنع من تأنيث كلمة “إنسان”، بالرغم من أنها اسم جمع يطلق على الرجل والمرأة، فنقول إنسانة، إذا كنا نتحدث عن امرأة.

وذلك لأن الأصل في الكلمات العربية هو التذكير. ومعظم الكلمات المؤنثة يوجد فيها لاحقة تدل على التأنيث، مثل التاء المربوطة في (شاعرة)، أو الألف الممدودة في (صحراء)، أو الألف المقصورة في (نجوى). لكن هناك كلمات قليلة تدل على التأنيث بدون وجود أي لاحقة، مثل شمس، وأرض.

وقد أشار العرب إلى هذه المسألة، معترفين باستعمال صيغة المؤنث “إنسانة”، لكنهم استنكفوا إجازتها لأنها – كما تقول المعاجم العربية – من “قول العامة”.

طبقية ابن منظور في لسان العرب:

ويقول ابن منظور: “ويقال للمرأَة أَيضاً إِنسانٌ ولا يقال إِنسانة، والعامة تقوله“.

في كلام ابن منظور إلماع إلى طبقية خفية، يستنكر معها قبول “قول العامة”.

وأورد ابن منظور – بالرغم من ذلك – دليلا على استعمال “إنسانة” في الشعر. وهو قول الشاعر:

 

تَمْري بإِنْسانِها إِنْسانَ مُقْلَتها  إِنْسانةٌ في سَوادِ الليلِ عُطبُولُ

والشاعر هنا جمع لنا ثلاثة معان لكلمة “إنسان” في العربية.

  • أولها الـ”إنسانة” التي يصف جمال عنقها وبياضه وطوله (عطبول) في سواد الليل
  • ثم يصور لنا حركة أصابعها وهي تمسح (تمري) بأنملتها (بإنسانها)، فالإنسان أيضا هو “الأنملة” وهذا هو المعنى الثاني للكلمة في العربية،
  • (إنسانَ مقلتها)، أي حدقة العين، وهذا هو المعنى الثالث لكلمة “إنسان”.

عنصرية الفيروزآبادي في القاموس المحيط

وأورد الفيروزآبادي، الذي عاش في القرن الثامن الهجري، على استحياء هو الآخر أبياتا أخرى استعملت فيها صيغة المؤنث “إنسانة”. لكنه وصمها بقوله “وسمع في شعر كأنه مولّد“، وكأنه يريد أن يقول إنه ليس عربيا قحا. والغريب أن يعيب الفيروزآبادي على تلك الأبيات أنها “مولدة” وهو نفسه فارسي الأصل، وإن كان هذا لا ينقص من قدره وعلمه.

يقول الشاعر:

لَقَدْ كَسَتْنِي في الهَـوى          مَلابِسَ الصَّبِّ الغَزِلْ

إنـسـانَةٌ فَــتَّــانَـــــــــــةٌ         بَدْرُ الدُّجَى منها خَجِلْ

إذا زَنَـتْ عَـيْـنِــي بها           فـبالـدُموعِ تَـغْــتَــسِـل

شجاعة الزبيدي في تاج العروس

أما مرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس فكان أشجع هؤلاء المعجميين وأجرأهم جميعا. ربما لأنه أحدثهم عهدا، إذ عاش معظم حياته في القرن الثاني عشر الهجري، أو ربما لأنه عاش في بيئة منفتحة، إذ كان عراقيا.

فقال: “والمرأة أيضا إنسان، وقولهم: إنسانة، بالهاء، لغة عامية، كذا قاله ابن سيده، وقال شيخنا: بل هي صحيحة وإن كانت قليلة، ونقله صاحب همع الهوامع، والرضي في شرح الحاجبية، ونقله الشيخ يس في حواشيه على الألفية عن الشيخ ابن هشام، فلا يقال إنها عامية بعد تصريح هؤلاء الأئمة بورودها، وإن قال بعضهم: إنها قليلة، فالقلة عند بعض لا تقتضي إنكارها وأنها عامية”.

للمشاركة على :

2 Comments

    1. السياق هو العامل المهم هنا. وما أقصده بالسياق هو سياق الكلام لأنه هو الذي يحدد معنى الكلمة المستخدمة. فإذا كنا نتحدث عن سيدة بعينها فينبغي لنا استخدام “إنسانة”. أما إن كنا نتكلم عن بني آدم مثلا رجالا ونساء، فيمكننا استعمال “إنسان” فنقول “بنو الإنسان”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.