سُعار الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي

خطاب الكراهية

كشف العدوان الإسرائيلي على غزة، عوار الانقسام الشديد الذي يفتت المجتمع المصري، وما أنتجه من خطاب كراهية وتحريض أخذ يهيمن على حديث نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي تجاه حماس، وغزة، والفلسطينيين.

وقد شهدت حياتنا في مصر انقسام المجتمع من قبل، لكن ذلك الانقسام لم يكن بمثل تلك الحدة التي نلمسها هذه الأيام. كان المصريون في الماضي منقسمين بين”الأهلي“ و”الزمالك“، و”صعيدي“ و”قاهري“، على المستوى المحلي، وكان العرب بصفة عامة، ومازالوا، منقسمين بين ” العرب“ و”إسرائيل“، و”السنة“ و”الشيعة“.

وليست قضية العدوان على غزة التي نعاصرها إلا مثالا واحدا فقط على هذا الخطاب الذي أضحى – في رأيي – ”خطاب فتنة“، وأصبح هو السمة الغالبة على خطاب المصريين، بل العرب أيضا، في عرض قضاياهم، بالكلمة والصورة والفيديو، والتعليق عليها، عبر وسائط التواصل الاجتماعي.

وسنعرض هنا لهذا الخطاب، وننظر في ملامحه وسماته بنهج علمي موضوعي قدر المستطاع، ليس من أجل تزكيته ونشره، بل من أجل الوصول إلى طريقة لمكافحته.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الخوض في خطاب الكراهية – لأي كاتب أو باحث – أمر صعب، فهو إما أن ينصر اتجاها على حساب الآخر، فيلومه في الحالتين الطرف الذي لا يناصره، وإما أن يقف على الحياد، فيرميه الطرفان باللامبالاة وعدم تحديد موقفه.

خطاب أيديولوجي

هذا النوع من الخطاب الذي يلمسه أي متابع لمواقع التواصل هذه الأيام يصنفه علماء اللغة تحت الخطاب الأيديولوجي، لأن المنخرطين فيه ينتمون عادة إلى أيديولوجية معينة، يسعون إلى ترويجها، والتهويل في إنجازاتها، والحط والتهوين مما يخالفها من أيديولوجيات أخرى.

وقد ازداد سعار خطاب الكراهية بصفة عامة بعد ثورة الإنترنت التي كانت الرحم التي نشأت فيها مواقع التواصل الاجتماعي. وفي تلك المواقع وجد كثير من الأفراد والجماعات المنظمة وغير المنظمة منابر حرة يتناولون من خلالها أي قضية، وأي شخص، وأي تيار دون أي ضابط أو رقيب.

ومن سمات خطاب الكراهية – كما يقول دكتور بهاء الدين مزيد، في دراسته المنشورة باللغة الإنجليزية تحت عنوان ”لغة الكراهية في الخطاب العربي المعاصر“ – أنه يلغي ” الآخر المعارض“، لأنه يتوهم أنه هو وحده الذي يمتلك الحق أو الحقيقة.

ولغة الكراهية أيضا لغة استقطاب وإقصاء، هي لغة”نحن“ و”هم“. وهي تتسم بعدم اللياقة والتهذيب، يغلب عليها السبّ والشتم والتنابز بالألقاب، والشماتة والتسفيه والتشويه، والإشارات النابية والسخرية الموجعة. وهي لغة صدامية لا تهدف إلى التوفيق أو التوافق بل إلى الانتصار ولو على حساب الاعتبارات الاجتماعية والإنسانيّة. وهي لغة انفعاليّة، ليس فيها مكان للعقل ولا فسحة للتثبّت أو التحقّق.

المربع الأيديولوجي

أظهرت البحوث اللغوية – التي كان من أبرز روادها عالم اللغة الهولندي توين فان دايك – أن الخطاب الأيديولوجي يتسم بملمح مهم يمكن أن نسميه ”المربع الأيديولوجي – Ideological Square“، وأضلاع هذا المربع هي:

التأكيد على ما لدينا من محاسن

التأكيد على ما لدى الخصم من مساوئ

إغفال ما لدينا من مساوئ

إغفال ما لدى الخصم من محاسن

هذه الاستراتيجية يمكن تطبيقها على كل مستويات الخطاب، ولذلك تركز الخطب السياسية، والمقابلات، والبرامج، والدعايات على الموضوعات المفضلة لدى جماعتنا، أو حزبنا، وعلى ما أحسنا في أدائه. أما الأطراف المناوئة فنركز معها على الموضوعات السلبية، مثل الحرب، والعنف، والمخدرات، ونقص الحرية، وهكذا.

ومن هنا يربط كثير من السياسيين، ووسائل الإعلام في الغرب مثلا – كما يقول فان دايك – بين المهاجرين والأقليات، في المجتمعات الغربية، والمشكلات الموجودة فيها، وحدوث الجريمة.

وقد ظلت الشيوعية لعدة عقود مرتبطة، في أذهان الغربيين، بالعدوان، ونقص الحرية، والأيديولوجية الجامدة.

وعلى هذا النسق نفسه، يتجاهل الخطاب المضاد للشيوعية تماما – أو يهون – من شأن ما قد تتمتع به المجتمعات الشيوعية مثلا من أمور جيدة في نواحي الخدمات الاجتماعية، والصحة، والتعليم.

أسماء ومحاور

هذه الخصائص التي يتسم بها خطاب الكراهية الأيديولوجي، برزت واضحة في المواد التي اعتمدت عليها في مواقع التواصل الاجتماعي: فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وهي التي أجريت عليها هذه الدراسة الموجزة. وقبل أن أعرض لتحليل تلك المواد، أود أن أشير أولا إلى أهم الصفحات التي نقلت عنها، إذ إن لأسمائها في حد ذاتها دلالة على اتجاهاتها الفكرية، ثم ألفت ثانيا إلى أهم المحاور أو القضايا التي دار عليها الجدال، وأوجز ثالثا أهم الوسائط التي يستخدمها النشطاء في خطابهم.

صفحات النشطاء

من بين ما اعتمدت عليه من صفحات: ”المصريون“، و”مصر عادت شمسك الذهب“، و”كتائب الحرية“، و”شفاء الروح“، و”الدين الخالص“، و”ثورة ٣٠ يونيو“، و”السيسي إرادة شعب“، و”السيسي … حرب“، و”مرسي رئيسي“، و”مرسي لزق في الكرسي“، و”إحنا فلول ٣٠ يونيو“.

محاور خطاب الفتنة

أما أهم المحاور، أو القضايا، التي دار عليها الجدال على تلك الصفحات وغيرها، فهي أربعة.

١- حماس والفلسطينيون ٢- السيسي والجيش

٣- الإخوان ومحمد مرسي ٤- الثورة والثوار

أما الوسائط التي عبر بواسطتها النشطاء عن خطابهم التحريضي فتمثلت في:

أ- النصوص المكتوبة (نثرية وشعرية، ونكات)

ب- صور الفيديو

ج- الصور

د- الرسوم الكرتونية

هـ- الأغاني والموسيقى

١- حماس والفلسطينيون

يدور الجدل في هذا المحور على الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، وموقف الرئيس عبد الفتاح السيسي والحكومة المصرية منها، وتقويم النشطاء لأدوار الأطراف المختلفة فيها، بحسب وجهة نظر المعارضين لحماس، من مؤيدي الرئيس المصري، ومؤيدي حماس من مناصري الرئيس المعزول محمد مرسي.

من يهاجمون حماس، والفلسطينيين أحيانا، يربطون بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين، والرئيس السابق محمد مرسي، ويتهمونها بالضلوع في قتل مصريين في بعض الهجمات التي وقعت في سيناء خاصة.

وأوضح نموذج لما يدور في عقول مهاجمي حماس من مؤيدي السيسي صورة استخدمت فيها شخصية الممثل المصري عادل إمام وهو يتحدث في التليفون مع شخصية أخرى اسمها سامح متسائلا: ”هي حماس بعد ما ضربت ٥٠٠ صاروخ على إسرائيل، قتلت كام إسرائيلي؟ إيه ٨ مصريين في العريش؟“

ويرى بعض النشطاء أن حماس، ”عاملة علينا إحنا بس حماس، وعلى إسرائيل سماح“.

ويسخر المهاجمون من صواريخ حماس على إسرائيل ويصفونها بإنها من نوع ”ضربني بحنية، يا واد يا ابن هنية“، وأنها صواريخ ”جَراد ولا ناموس“، وأنها ”بمب العيد بتاع حماس“.

ولعل أوضح مثال لخطاب التحريض والكراهية الذي تتعرض له حماس، بعد الاعتداء الإسرائيلي، والانتقادات التي تعرض لها موقف السلطات المصرية من القضية، بسبب معبر رفح، ما كتبته لميس جابر، الكاتبة المصرية، مطالبة بـ”طرد كل الفلسطينيين من مصر ومصادرة أملاكهم ومتاجرهم”. وتقول لميس جابر، عبر حسابها الشخصي على “فيس بوك”، “إحنا بناخذ التموين المدعوم ونبعته لغزة، وهما بيقتلوا أولادنا، والخونة … بيعملوا مؤتمرات لدعم غزة، الخونة من الفلسطينيين بيشتموا في مصر ورئيسها، ومتخلفين … عاوزين المعابر مفتوحة، وحماس عاوزاها تحت الرقابة الدولية. الحل هو إعلان العداء السياسي الصريح لحماس، وغلق المعابر إلى أجل غير مسمى، وإلغاء كلمة حالات إنسانية وجرحى … والقبض علي كل متعاطف واتهامه بالخيانة العظمى، وإلغاء موضوع القضية الفلسطينية من المناهج والإعلام والصحف، ملعون أبو أم القومية العربية … مش هيحرر فلسطين غير الفلسطينيين، لو أرادوا”.

وأدت الصورة هنا دورا مهما في خطاب التحريض على حماس. فقد صورت إحدى صفحات الحملة التي يشنها نشطاء مؤيدون للسيسي تحت عنوان ”المعنى الحقيقي لحكومة حماس“ العلاقة بين الحركة ومصر، بالعلاقة بين كلب يطعمه شخص، وحين يمد الطاعم يده إلى الكلب بقطعة لحم، إذا بالكلب يعضه بدلا من تناول اللحم.

وعلى الجانب الآخر، لا نجد إلا قلة قليلة تمتدح حماس والفلسطينيين، ومعظم هؤلاء من مؤيدي مرسي. إذ تقول ناشطة تسمي نفسها بنت الثورة ”قُلها وسمّع كل الناس، تسلم إيدك يا حماس“.

ويأسى بعض العقلاء على صفحة حركة تمرد لوضع الفلسطينيين فيكتب ”لك الله يا فلسطين، لبيك يا أقصى، قلوبنا فداك، أشعر بالحزن والأسى“، ويصف أحد المناصرين لمرسي أهل غزة بأنهم ”شعب الجبارين“.

٢- السيسي والجيش

يدور الجدل في هذا المحور على دور الجيش المصري في الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، وما ترتب عليه من بعدُ من بروز شخصية عبد الفتاح السيسي، والتفاف كثير من المصريين حوله، وفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وما تلاهما من تبعات.

وتركز هجوم الإخوان وأنصار مرسي على الجيش في السخرية من موضوع كعك العيد بعد ”إعلان دار الأسلحة والذخيرة عن إنتاج حلويات العيد بمصنع الحلويات الخاصة بكلية الدفاع الجوي ونشر المولات ودور المناسبات الخاصة بالقوات المسلحة لقوائم وإعلانات فى الشوارع بأسعار تلك المنتجات“.

ويربط النشطاء هنا بين الرئيس السيسي والجيش في تعليقاتهم، متحدثين عن ”جيش السيسي“، وليس جيش مصر.

وهناك تحريض واضح على الرئيس السيسي، خاصة بسبب ما يحدث حاليا في غزة، وتفسير بعض النشطاء لموقف السلطات المصرية على أنه ضد حماس وأهل غزة.

ويتألم بعض النشطاء لما تتعرض له مصر من انقسام الآن، ويقول أحدهم ”إن ما حدث في ٣٠ يونيه كان لرأب هذا الانقسام، لكن يبدو أنه يدفع إليه دفعا الآن“.

وتنتقد الناشطة أسماء محفوظ دعوة الرئيس السيسي لاستخدام الدراجات، بدلا من وسائل المواصلات، فتقول ”إن الشوارع غير مؤهلة لذلك، ولو حدث ذلك فسوف تحدث حوادث كثيرة، ولو أقدمت بنت على ذلك فلن تعود إلى بيتها لا هي ولا دراجتها. ثم تختم انتقادها قائلة ”الشعب في المعتقلات ياريس“.

وعلى الجانب الآخر، نرى أن نشطاء حركة تمرد يحيون ذكرى ميلاد عمر سليمان الذي يصفونه بأنه ”ثعلب المخابرات“. ويتحدث مؤيدو ٣٠ يونيو عن الجيش باعتباره ”حامي الثورة والثوار من الإخوان الخونة“.

ويبرز في تمجيد الجيش تعبير ”خير أجناد الأرض“، المأخوذ عن حديث ينسب للنبي الكريم عليه السلام.

ويمتدح النشطاء الموالون للرئيس السيسي تبرعه بنصف راتبه، ونصف ميراثه، وبناءه قبرا له قبل دخول القصر.

ويهدد أحد المذيعين المناصرين للسيسي باعتزال العمل الإعلامي إذا فشل السيسي في النجاح قائدا للبلاد.

٣- الإخوان ومحمد مرسي

يدور الجدل في هذا المحور على ”شرعية“ مرسي والتشبث بأمل عودته للحكم، والتفاخر بمواقفه، خاصة مع حماس، وغزة، إذ يصفونه بأنه ”أسد“.

ويبدي مناصرو مرسي اعتزازا بالمؤهلات والدرجات العلمية التي يتمتع بها محمد مرسي وقادة الجماعة، وما لديهم من أخلاق وأدب.

ويطرح أنصار مرسي في تعليقاتهم تساؤلات استنكارية كثيرة، منها كيف يُحاكم مرسي على قتل المتظاهرين، ولا يُحاكم وزير داخليته محمد إبراهيم الذي قُتل المتظاهرون على أيدي قواته، ”فكما حاكمنا مبارك على قتل المتظاهرين حاكمنا حبيب العادلي وزير داخليته“.

وحتى يثبت أنصار مرسي أن ما حدث في ٣٠ يونيو ليس ثورة، بل انقلابا، يقولون إن الشعب المصري بعد ٢٥ يناير، وعقب الإطاحة بمبارك، لم يخرج حاملا صورة طنطاوي وهاتفا له، كما فعل أنصار السيسي بعد عزل الجيش لمرسي. ويعتبرون أن ما حدث في ميدان رابعة العدوية ”أسوأ جريمة قتل في تاريخ مصر“.

وينحون باللائمة على ثوار ٢٥ يناير الذين ”تحولوا – إلا من رحم ربي – إلى أبواق للسلطة الحالية، وأعماهم عداؤهم للإخوان عن إدراك الكارثة“.

وتدعو إحدى مؤيدات مرسي الإخوان إلى التأسي بكتائب القسام وما لديها من سلاح لقتل المصريين، قائلة ”إنتو طيبين، وكيوت أقوي، روحو اتعلموا من كتائب القسام، صواريخهم أقوى من الرصاص“.

وعلى الجانب الآخر يرى أعداء الإخوان أن بمصر الآن – كما رددت أغنية ”إحنا شعب وانتو شعب“ – شعبين ”إحنا شعب والإخوان شعب“. ويصمون الإخوان بالإرهاب ويقولون في تعليقاتهم إنه لا مكان لهم في مصر، فيما سماه أحد مستخدمي فيسبوك ”عصر الجيش“.

وهناك تحريض واضح عليهم، يشمت في حظر جماعتهم، ويدعو إلى سحب الجنسية المصرية منهم، وإخراجهم من مصر، بل إلى قتلهم.

ويعبر أحد المذيعين في مصر عن أمنيته ”قتل ٣٠ ممن في سجن طرة، ولا يهم أن يقال عليّ دموي“.

ويصف النشطاء الإخوان بأوصاف مسيئة كثيرة، منها أنهم ”مخادعون وكذابون“. بل يذهب بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى سلخ صفة الآدمية عن الإخوان، متحدثا عن الواحد منهم بأنه ”الكائن الإخواني، أو الكائن الربعاوي“.

فيديو علي جمعة

وفي هذا المحور لا بد أن نتوقف عند فيديو لكلمة وزير الأوقاف المصري السابق علي جمعة أمام اجتماع للقوات المسلحة. إذ يمثل هذا الفيديو خطاب التحريض على الإخوان المسلمين أيما تمثيل. وهو أولا يخاطب أفراد الجيش بقوله ”رضي الله تعالى عنكم وأرضاكم … الله سبحانه مؤيدكم … أنتم فرسان العباد … الرتبة العليا لكم عند الله وعند التاريخ … رسول الله يؤيدكم في الظاهر والباطن … “.

ثم يعرج على الإخوان فيقول عنهم ”هؤلاء الأفسال … لا يجاوز إيمانهم تراقيهم … هم أهل القتل … شُغل أوباش … خوارج … يجب أن نطهر مدينتنا ومصرنا من هذه الأوباش … إنهم لا يستحقون مصريتنا … يجب أن نتبرأ منهم … ناس نتنة، ريحتهم وحشة، في الظاهر والباطن … (مرسي) إمام محجور، ذهبت شرعيته، لم يعد له شرعية … اضرب في المليان، إياك أن تضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء الخوارج … اثبتوا ولا يترددن أحد منكم أبدا عن أن يفعل هذا (أي قتلهم) لوجه الله …“.

ولم يمر فيديو على جمعة دون انتقاد من أنصار مرسي. فقد وصفه الشيخ يوسف القرضاوي بأنه ”ليس عالما أصيلا، هو رجل صوفي مليان تخاريف، يشتم كبار العلماء ويسبهم، مثل ابن تيمية … الخوارج من خرجوا على محمد مرسي … هذا عبد السلطة وعلماء الشرطة، هؤلاء أباحوا قتل المسلمين“.

وطالب وجدي غنيم بـ”سحب الدرجة العلمية منه، والحجر عليه … لابد أن يُحاكم … ما قاله تحريض على القتل في الأشهر الحرم“.

أغنية

وكان للأغنية دور مهم بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، في التعبير عن مشاعر المشاركين في الثورة. ولا بد أن أذكر هنا أغنية ”صوت الحرية بينادي“ التي عبرت بصدق عن وحدة الشعب المصري في بدايات الثورة.

لكن الأغنيات ساهمت أيضا – باعتبارها وسيطا سريع الانتشار – في نشر خطاب التحريض والكراهية. ونذكر هنا أغنية نالت قسطا موفورا من الذيوع، وحظا من الانتقاد والامتعاض بسبب كلماتها، وهي أغنية ”إحنا شعب وانتو شعب“ التي كتبها مدحت العدل، ولحنها أحمد الحجار، وغناها علي الحجار.

وعنوان الأغنية يوضح مضمونها الذي أزعم أن كاتبها تجاوز فيه حدود حرية التعبير.

”إحنا شعب وإنتو شعب، واللى هز القلب منا، عمره ماهزلكو قلب، رغم إن الرب واحد.. لينا رب… وليكو رب“.

ورد المنشد ياسر أبوعمار على الأغنية بأغنية أخري، أكثر اعتدالا، يقول فيها ”احنا ناس طالبين سلام، عدل رحمة مش كلام .. وأنتوا ناس رافعين سلاح، واحنا ناس بنقول يا رب .. واحنا ناس بنقول يارب .. يارب“.

٤- الثورة والثوار

من يتابع ما كتب بشأن ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١ في مصر، وما تلاها في يونيو ٢٠١٣، يعرف أن الثورة تأكل نفسها وتأكل أولادها.

ويقول أحد المعارضين لمرسي على صفحة ”مرسي لزق في الكرسي“: ”شكرا ٢٥ يناير، خلقت أعداء لمصر منها وفيها“، بل أصبح بعض أعضاء تمرد يسمونها ”عورة ٢٥ خسائر“، بل ينعتها أحد مناوئي مرسي بأنها ”مؤامرة يناير“.

ووصف النشطاء من شاركوا في الثورة بأنهم ”مرتزقة، صهاينة، مصاصو دماء“، واتهمهم بعضهم بالعمى السياسي، بل وصف أحد المعلقين خالد سعيد نفسه – الذي فجر قتله أولى شرارات الانتفاضة – بأنه ”حشاش“. وربما بدأ خطاب التحريض والكراهية يؤتي ثماره، فقد غُرم وحبس بعض من تضامن مع خالد سعيد، بعد بدء العمل بقانون التظاهر الجديد.

ويلخص علاء الأسواني الوضع الآن بقوله ”إذا جرؤت على نقد السيسي فسوف يخرج عليك الشتامون في الفضائيات لكي يلعنوك ويشوهوا سمعتك ويتهموك بأنك طابور خامس وخائن وعميل للمخابرات الأجنبية“.

وتملأ الانتقادات لمحمد البرادعي، وحمدين صباحي، وخالد علي، وخالد سعيد، وأسماء محفوظ، ووائل غنيم، وأحمد دومة صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.

ووصف أحد النشطاء الدور الذي يؤديه الإعلام في تلك الحملة على الثورة والمشاركين فيها فقال: ”اللعب بالألفاظ هو عنوان الصحافة المصرية والإعلام عامة، لقد غيروا الحقائق، فمثلا المعارضة والمعارضين إلى إرهابيين، والبلطجية تحولوا إلى موطنين شرفاء تصدوا للإخوان، والمظاهرات إلى فوضى، والاعتقاد الفكري والسياسي إلى خطف ذهني. ومرحبا بك في الإعلام المصري“.

وعلى الجانب الآخر، مازال بعض النشطاء يرى أن ثورة ٢٥ يناير أطهر ما قام به هذا الجيل، وأن جمعة الغضب، يوم من أيام الله والوطن“، وأن قيادات تمرد ”مجموعة متحولين وأشباه ثوار، ضِحال الفكر، تحولوا إلى مطية في يد العسكر والدولة الأمنية“.

ويصف آخر الثوار بأنهم ”مظاليم“، فيقول مناديا عليهم ”يا نوبي، يا علاء يا وائل يا دومة، يا ماهر يا عادل يا أحمد أيمن، يا محمود، يا كل المظاليم، مش ناسيين“.

ويعتذر أحد النشطاء لغزة لأن السلطات ”سجنت من كان يقود القوافل إليك، أحمد دومة“.

ويصف آخر البرادعي فيقول ”الرجل الذي بذلوا كل ما لديهم ليسقطوه، فسقطوا هم، وبقي هو كما هو، سلام على محمد البرادعي، أينما كان“.

خطاب التحريض وحرية التعبير

في مواجهة خطاب الفتنة هذا الذي بينا معالمه وعرضنا لنماذج منه برزت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بوسائطها المختلفة، من كتابة، وصور، وفيديو، وأغان، يجب أن نتوقف لنفكر في السبيل الناجع لمكافحته. وأحسب أن ذلك لا يكون إلا في إطار القانون. فهل تتيح حرية التعبير المجال لخطاب التحريض والكراهية لينتشر دون ضوابط باسمها؟ وما هي الحدود الفاصلة بين خطاب الكراهية، وحرية التعبير؟

التحريض في القانون المصري – طبقا لمؤسسة حرية الفكر والتعبير – لا يقتصر على العنف أو العداء أو التمييز، بل يشمل كافة أنواع الجرائم، وهو ما يؤدي إلى فرض قيود شديدة على حرية التعبير، بالمخالفة للمعايير الدولية الواردة في مواثيق حقوق الإنسان.

وتقول المؤسسة إن الفقه الدولي استقر على ثلاث صور للتحريض الذي يشكل استثناء على حرية التعبير، وهي:

التحريض على العنف

التحريض على العداء أو الكراهية

التحريض على التمييز العنصري

ويحدد الاتفاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية الاستثناءات الواردة على حرية التعبير بأي دعوة إلى الكراهية القومية، أو العنصرية، أو الدينية، تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف.

ويحدد بحث مؤسسة حرية الفكر مفهوم ”الكراهية“ بأنها ”حالة ذهنية تتسم بانفعالات حادة وغير عقلانية من العداء والمقت والاحتقار تجاه المجموعة أو الشخص المحرض عليه“.

ولذلك يجب أن يكون خطاب الكراهية المحظور، مبنيا على نوع من أنواع الكراهية السابقة: القومية أو العنصرية أو الدينية، وفي حالة غياب أي من هذه الأسس التمييزية، يعتبر منع الخطاب أو تقييده، انتهاكا لحرية التعبير.

ونأمل في النهاية أن يسعى المشرعون في مصر والعالم العربي إلى سن القوانين التي تكبح خطاب التحريض والفتنة، بما لا يجور على حرية التعبير التي تكفلها حقوق الإنسان.

(كتبت هذه الدراسة قبل أعوام)

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.