اليوم العالمي للمعلم: أستاذ وأستاذة غيرا حياتي

أستاذ وأستاذة غيرا حياتي

حرمت منذ الصغر من وجود أبي – رحمه الله تعالى – إلى جانبي، بعد أن توفي إثر حادثة مؤلمة. لكن الله عوضني بأم كان لها تأثير كبير في حياتي، بالرغم من أنها لم تتلق تعليما نظاميا في المدارس، بل تلقته على يد معلم خاص علمها القراءة والكتابة حتى أحسنت القراءة في المصحف.

وفي مرحلة التعليم المتوسط، كان لمعلمَيْ اللغة العربية والجغرافيا بخاصة شديد الأثر في تنشئتي. فقد تعلمت من أولهما حب القراءة والثقافة، إذ كان فعلا مدرسا مطلعا واسع الثقافة. بينما شدني الثاني بغرامه للقراءة في مجال مختلف تماما عن الجغرافيا، ألا وهو كتب النحو العربي.

ودفعني حبي للقراءة في سن مبكرة إلى تحديد مسار حياتي حتى قبل أن أنتهي من المرحلة الثانوية. فقد غرست فيّ كتابات طه حسين حب الأدب، وأقنعتني بأن درس الأدب لابد أن يبنى أولا على دراسة الآداب القديمة العربية واليونانية واللاتينية. وقررت – بناء على ذلك – تقديم أوراقي إلى كلية الآداب حتى أدرس في قسم الدراسات القديمة.

محاضرة النحو للدكتور عبده الراجحي

وأهلني مجموع الدرجات التي حصلت عليها في الثانوية العامة للالتحاق بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية. بيد أن قسم الدراسات القديمة لم يقبل أي طلاب جدد من أسف في العام الذي أنهيت فيه المرحلة الثانوية.

وساقتني محادثة بيني وبين أحد من قابلتهم في الكلية إلى الحديث عن قسم اللغة العربية، حينما عرف حبي للقراءة في الأدب العربي، وشجعني عندما قال لي إن حبك للقراءة سيجعلك من المتفوقين في دراستك في القسم. ولكنه لم يضغط عليّ، بل نصحني فقط بحضور محاضرة واحدة والتفكير فيما بعد في اتخاذ القرار المناسب.

واقتنعت بالفكرة، وحضرت بالفعل محاضرة واحدة شاءت الأقدار أن تكون نقطة تحول في حياتي كلها. وكانت تلك، و يا للعجب، محاضرة نحو. لكن ما شدني هو طريقة المحاضر المعلم، الذي رسخ لدي الفكرة، والتحقت بعدها بالقسم. وكنت فعلا من المتفوقين فيه، كما تنبأ الرجل.

ورسم ذلك المعلم، وهو الدكتور عبده الراجحي أستاذ العلوم اللغوية رحمه الله، مسارا جديدا لحياتي، قادني إلى درس العلوم اللغوية والعكوف عليها، وهجر الدرس الأدبي، الذي آثرت أن أبقي عليه هواية وغراما لي

محراب العلم ودكتورة كاترينا هيوارد

ومضيت في مسار الدرس اللغوي في الماجستير في جامعة عين شمس، عندما عينت معيدا لعلم اللغة في كلية البنات فيها، ثم في الدكتوراه، حينما ابتعثت لدراسة علم الأصوات في جامعة لندن. وفيها التقيت بالمعلم الثاني الذي غير حياتي.

وكان معلمي في جامعة لندن محاضرة في علم الأصوات. كانت عندما قابلتها لأول مرة في الأربعينيات من عمرها. وكنا نلتقي مرتين أو ثلاث مرات في الشهر. وقد ساهمت في تحديث معمل علم الأصوات في قسم علم اللغة والأصوات في معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية في جامعة لندن.

وخبرت على يديها استخدام الأجهزة في المعمل، وفنون التحليل الصوتي، وقراءة رسوم التحليل الطيفي للأصوات. كما تعلمت منها أيضا أساليب الكتابة الأكاديمية التحليلية المتسمة بالموضوعية، والساعية في الوقت ذاته إلى الإسهام بقسط في مجال الدرس الصوتي.

بيد أن أهم ما تعلمته منها إلى جانب المثابرة على العمل، وتكريس حياتها له، هو عطاؤها لطلابها، من وقتها، وعلمها، وخبرتها بلا حدود. والمشاركة الفعلية في صياغة البحث، دون كلل.

كانت دكتوره كاترينا هيوارد، تبدأ يومها قبل التاسعة صباحا، وتظل في مكتبها حتى التاسعة مساء. ومكتبها هو محرابها وهو غرفة صغيرة لا تتعدى خمسة أمتار مربعة، لكنها تضم مكتبتها، وفيه تلتقي بطلابها، ولا تغادره إلا للتدريس أو حضور اجتماع.

وكانت هناك ساعات محددة أسبوعيا تلتقي فيها بالطلاب حتى وإن لم يضربوا لذلك موعدا. وكنت أراها أحيانا في مقصف الكلية تتناول طعام الغداء منخرطة مع الطلاب والطالبات.

وكم شعرت بالفارق الكبير بين هذا النموذج الذي مثلته دكتورة كاترينا، وغيرها من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات البريطانية، ونموذج الأساتذة في جامعاتنا المصرية، الذين يشعرك بعضهم بأنهم آلهة، يجعلون بينهم وبين طلابهم أسوارا عالية وجدرانا سميكة.

لقد حملت آمالا عريضة بعد أن انتهيت من دراسة الدكتوراه وعدت إلى كلية البنات بجامعة عين شمس للتدريس، وكان في مخيلتي هذا النموذج المتواضع المتفاني المتعاون للأستاذ، وكان من بين آمالي أن تتاح غرفة صغيرة أجعل منها محرابا لي، وأضع فيها مكتبتي اللغوية التي جمعتها على مدار سني دراستي في بريطانيا، خشية ألا تكون ثمة فرصة للعودة إلى بلاد الإنجليز والحصول على جديد الكتب في علم اللغة وعلم الأصوات.

لكن تلك الآمال تحطمت عندما وجدت أن عليّ أن أجلس مع زملائي أعضاء هيئة التدريس في القسم في غرفة بها ست مكاتب تكاد تكون متلاصقة، ولا مجال البتة لتأسيس محراب العلم المتخيل. ولم يكن أعضاء التدريس يمكثون طويلا في تلك الغرفة المزدحمة إلا لدقائق معدودات بين محاضراتهم يحتسون خلالها الشاي أو القهوة ويتندرون، وقليلا ما يتطرقون إلى قضايا العلم والبحوث.

وما استطعت فعله فقط هو أن أضع جدولا لمقابلة الطالبات. ولكن خاب ظني حتى في تحقيق هذا الأمل. فكيف ألتقي بطالبات في غرفة مثل غرف الموظفين، تملأ أجواءها أحاديث الزملاء والأساتذة العالية النبرة، والمختلطة برشفات الشاي والقهوة. ولذلك آثرت أن أقابل الطالبات في الردهة الطويلة التي تقع الغرف على جانب منها، وفي الجانب الآخر سور يطل على حديقة الكلية.

وأفضت خيبة الأمل إلى تحطم نموذج المعلم الذي حملته في صدري، ووددت تحقيقه في مصر لكني لم أفلح.

وعدت بعد فترة إلى بريطانيا، وكتب لي القدر تحقيق جزء من تلك الآمال عندما عملت في جامعة بريطانية، هي جامعة برمنجهام. وأسست في مكتبي فيها محرابا أشبع بعضا من رغباتي.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.