في نفسي شيء من كلمة “تداعيات”

ما الخطأ في استخدام "تداعيات"

هذا استخدام خاطئ، حتى وإن شاع بين الكتاب، وتفصيل الإجابة في المقالة التالية.

علاقتي باللغة توثقت عراها، منذ أن خطوت أولى خطواتي في درس علم اللغة بمفهومه الحديث. ولا تزال علاقتي باللغة، وبناتها (الكلمات)، مثل أي علاقة، تحكمها العاطفة، فأحب منها بعضا، وأبغض بعضا آخر.

وما أمقته من بنات اللغة، كما أسميها، أمقته لأنه تطفل على مكان ليس بمكانه، وزحف إلى موضع ليس هو موضعه. وقبل أن أمضي في الحديث قدما تفرض الأمانة على أن أبرئ ساحة اللغة وبناتها من مسؤولية هذا التطفل، والزحف المتجني. والجاني في هذه الجريمة هو صغار الصحفيين والإعلاميين، وإن كانوا كبارا منصبا وسنا، لجهلهم باللغة التي يكتبون بها، وهي العربية.

إذ يقع هؤلاء فريسة اللغات التي يترجمون عنها، ونظرا لقلة خبرتهم في العربية، تراهم يستخدمون كلمات في غير مواضعها. وكم يُكتب – من أسف – من شيوع لتلك الكلمات على أيدي غيرهم من الصغار والمبتدئين. وآلة الإعلام عجلى سريعة الخطى، وعلى العاملين معها ملاحقتها بالمزيد والمزيد من الأخبار والتحليلات والتفصيلات. وقد يكون في ذلك عذر للمترجمين، لكن ليس فيه ألبتة أي عذر للمحررين والمراجعين والمهيمنين على رئاسة التحرير، إن كانوا يهتمون بصحيح الكلام.

وأعود لواحدة من تلك الكلمات التي أبغضها، أو بالأحرى، أكرهها كما تستخدم اليوم في وسائل الإعلام، وهي ”تداعيات“. فهي ترد في سياق من قبيل: (الصراع في سوريا وتداعياته)، أو (تداعيات قرار الأمم المتحدة).

الكلمة جمع لمفردة هي مصدر أصلا، ”تداعٍ“، وهو من الفعل ”تداعَى“.

ولهذا الفعل في العربية معان، منها:

١- تداعى القوم: أي دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا،

٢- تداعت الأفكار: أي تواترت واستدعى بعضها بعضا،

٣- تداعت عليهم المصائب: تألبت واجتمعت،

٤- تداعى البناء: تصدع وآذن بالانهيار.

وليس في تلك المعاني واحد يفسر المعنى الذي استخدمت فيه الكلمة في مثالينا السابقين (الصراع في سوريا وتداعياته) أو (تداعيات قرار الأمم المتحدة). إذ إن المقصود هو (ما يترتب على الصراع، أو القرار من ”عواقب“ و ”تبعات“).

لكن ربما يقول قائل: إذا كنا قد فهمنا المعنى، أفلا يعني هذا أن استخدام الكلمة صحيح وفي محله؟

وهنا أقول إن ما ساعدنا على فهم المعنى هو ”السياق“ الذي ورد فيه، ولا يبرهن ذلك أبدا على أن استخدام الكلمة استخدام صحيح. إذ إن تكرار الكلمة، كل يوم، في السياق ذاته قد يوهمنا بأنه لا خطأ في التعبير، أو الاستخدام.

ما المشكلة إذن؟

ثم ألا يعد هذا نوعا من التغير الدلالي الذي يطرأ على الألفاظ ومعانيها، وهذه هي طبيعة اللغة، أنها متغيرة؟

هذا صحيح تغير دلالي جديد، لكنه تغير لا ينبغي أن نقف إزاءه صامتين، أو ساكنين، بل يجب محاربته، ليس بدافع الجمود، أو التقديس، بل لأسباب أخرى.

فهو أولا تغير ناتج عن جهل بمعاني كلمة من الكلمات، وناتج أيضا عن طبيعة العمل الإعلامي المتسمة بالسرعة والتسرع.

وثانيا، وهنا لب المشكلة، أن تركه سيؤدي إلى غموض وبلبلة في فهم اللغة، في عصر لم يعد فيه الناس يهتمون بالتحري والتدقيق في فهم العربية ومعرفة مفرداتها. بل اقتصرت ثقافة كثيرين منهم، ممن يقرؤون، على قراءة الصحف والمجلات، أو استقاء معارفهم، ممن لا يقرؤون، من التليفزيون.

فكيف لهؤلاء أن يفهموا نصا استخدمت فيه الكلمة بمعانيها المطروقة المعهودة، وهم لا يعرفون منها سوى معنى دخيل محدث، كان سبب ولادته سوء الفهم؟

أرجو أن نستبدل بتلك الكلمة المقيتة ”تداعيات“، إما كلمة “عواقب“، وإما كلمة “تبعات“، ففيهما غناء عنها ووضوح في الفهم والإفهام.

للمشاركة على :

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.