“نجاسة” الكلاب واللهاث وراء الحقيقة

الكلاب واللهاث وراء الحقيقة

موقف كثير من المسلمين من الكلاب يثير الاستغراب. فهم لا يستأنسون بها في بيوتهم، وينأون عنها في الطرقات بأنفة ورعب، خوفا من ”نجاستها“. ويظل دور الكلب في حياة هؤلاء المسلمين اليوم – على الرغم من ذلك – إما الحماية والحراسة، وإما مساعدة الشرطة في التفتيش، وإما عون المكفوفين في السير. لكن يحلو لمثل هؤلاء المسلمين التشهير باسم الكلب ونعت آبائه في سب من يكرهون ولعنهم.

وهذا الموقف المجافي للكلاب مثال آخر لهيمنة المرويات الظنية على المسلمين ومسلكهم وعلى علاقاتهم بالكون وبالآخرين وبالكائنات.

ويقول دعاة الخطاب الإسلامي التقليدي إنه ”لا يجوز للمسلم أن يقتني الكلب، إلا إذا كان محتاجاً إلى هذا الكلب في الصيد أو حراسة الماشية أو حراسة الزرع. روى البخاري (٢١٤٥) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إِلا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ).

وروى ابن ماجه (٣٦٤٠) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ).

ويرى الشيخ ابن عثيمين (شرح رياض الصالحين – (٤/٢٤١) أن اقتناء الكلاب ذنب كبير ”وأما اتخاذ الكلب وكون الإنسان يقتنيه فإن هذا حرام، بل هو من كبائر الذنوب“، بل إن ”نجاستها“ لديه عينية، ”والنجاسة العينية لا تطهر إلا بتلفها وزوالها بالكلية“، أي بقتلها.

ويسوي هذا الخطاب ”غير الإسلامي في رأيي“ المرأة بالكلاب والحمير، فقد سئل الشيخ (عبد العزيز بن باز) – رحمه الله -: ”لقد سمعنا منكم إذا مر كلب أو حمار أو امرأة أمام المصلي تبطل الصلاة، فما هي المسافة التي تمر فيها هذه الأشياء، وهل إذا كانت هذه المرأة من المحارم أيضا تبطل الصلاة؟ أفيدونا أفادكم الله؟

وكان جوابه: ”ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود.“

وكل ما يهم صاحب السؤال – وهو نموذج لكثير من المسلمين الذين لا يمكن أن يشكوا فيما يرويه دعاة الخطاب التقليدي كما رأينا – هو ”مقدار المسافة بين المصلي والمار أمامه“، وكأن كل شيء آخر في ما روي هنا أمر صحيح مقبول.

ولم تعرف الثقافة العربية هذا العداء للكلاب قبل مرويات أبي هريرة – الذي كان فيما يبدو يكره الكلاب ويألف القطط، بل كان يحمل في سيره هرة صغيرة حتى كني بها.

فقد كان الكلب جزءا من حياة العربي في البادية، يعيش معه، ويتآلفان، إلى درجة أن أصبح الكلب الألوف الذي لا ينبح على الضيف صورة مدح للكرام. يقول حاتم الطائي (المتوفى ٤٦ قبل الهجرة):

إذا ما بخيل الناس هرت كلابـه وشق على الضيف الضعيف عقورها

فإني جبان الكلب بيتي موطــئا أجود إذا ما النفس شح ضمــيــرها

وإن كلابي قد أُهرّت وعُـــــوّدت قليل على من يعـتـريـني هــريـــــرها

ودور كلاب الصيد في الشعر العربي – خاصة في فن ”الطرديات“ مشهور يدركه كل من درس الأدب العربي القديم. ومن هذا الباب قول ابن المعتز (المتوفى ٢٩٦ هـ):

قـد أغـتـــــدي واللـيـل كالغــــــراب داجي القـنــاع حالك الخـضــاب

بكلبـــة تــاهــت على الكــــــــــلاب تـفــوت سبــقـا لـحــظـة المـــرتـاب

تـنـساب مــثل الأرقـم الـمـنـســاب كأنـمـا تــنــظــر مـن شــهـــــــاب

وفي المرويات المنسوبة للنبي الكريم أيضا ما يناقض الصورة السابقة المعادية للكلاب. إذ روي أنه “بينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ منِّي، فنزل البئر فملأ خُفَّه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر.“

وليس في القرآن الكريم ما يشير أبدا إلى نجاسة الكلاب، أو يشجع على معاداتها. لقد ورد ذكر الكلب في القرآن خمس مرات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. أهمها موضعان:

الأول: في سورة الكهف (آية ١٨): ”وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا.“

وأصحاب الكهف كما ورد في القرآن ”فتية آمنوا بربهم“ وزادهم الله هدى، وهم عندما دخلوا إلى الكهف ليحتموا من قومهم كان معهم كلبهم، فكيف يحرص فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى على اصطحاب الكلب وهو حيوان نجس – كما جاء في مرويات أبي هريرة؟ وهل لم يكن الكلب آنذاك نجسا؟ أم ترى أن النجاسة حلت على الكلاب فقط مع بداية الإسلام؟

والموضع الثاني المهم الذي ورد فيه ذكر الكلب هو في سورة المائدة: ”يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤) سورة المائدة.

وقوله تعالى: ”وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ“ أي: أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح، وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك.

فكيف يحل للمسلم بنص القرآن الكريم أكل ما اصطاده الكلب، إن كان الكلب نجسا؟

وربما يظن بعض المسلمين أن القرآن الكريم ذم الكلاب في آية سورة الأعراف (١٧٦) ”وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)

لكن الآية الكريمة تتحدث عن طبيعة لدى الكلاب، وهي اللهاث، أي التنفس السريع المتتابع غير العميق الذي تفغر فيه الكلاب أفواهها وتدلي فيه ألسنتها. وهي تفعل ذلك للتخلص من حرارة الجسم الزائدة، والسعي لتبريده، ولتهدئة التنفس عقب بذل جهد أو بسبب الخوف أو الإثارة. فالكلاب دوما تفعل ذلك سواء أكانت في وضع الراحة أم في حالة مطاردة.

لكن بعض المفسرين تمادى في الربط بين من يترك آيات الله تعالى ولا يعمل بها، وصورة للكلاب مسيئة بسبب كراهية هذا المفسر أو ذاك ومجافاته لها، لأنه تربى على ثقافة لا صلة لها بالقرآن الكريم.

للمشاركة على :

One Comment

  1. مع احترامي لكلام حضرتك أخي العزيز د. محمد
    إلا أنني أعترض على الطعن في الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر المشهور بأبي هريرة.
    ولا أظنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرضي شهوته في حب القطط وكراهة الكلاب كما يدعي المتربصون بأفسل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وأن مبدأ أنه لا يوجد في كتاب الله ما يؤيده .
    فأرى أن هذا المبدأ ليس صحيحا:
    وهو مدخل لإنكار السنة والرسالات أعاذنا الله وإياك منه،
    وقد قال الله تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)

    وقال تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس)
    وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)
    فالقرآن يفهم بالسنة ، وهما مكملان ومتوازيان،
    ولو حدث أن وجد الإنسان تعارضا،
    فالعيب والخطأ ليس في القرآن ولا في السنة، ولا داعي للتشكيك في أي منهما، ولكن العيب في عقل من يجد تناقضا وليس تكاملا بينهما.
    نسأل الله أن يردنا إليه ودا جميلا.
    ولو كانت دعوى الذين يدعون أنهم قرآنيبن صحيحة لما أرسل الله الرسل
    واكتفى بإنزال كتبه على جناحي ملك
    أن هذا كتابي فاتبعوه
    تصور كما بنصورون
    وتمثيل كما يمثلون
    ولكن القرآن كتاب مسطور
    والنبي صلى الله عليه وسلم كتاب عملي متحرك بين الناس
    وكم من كنوز في القرآن لم تكتشف بعد ولما يأت تأويلها
    (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.