يشيع في دول الخليج استخدام كلمة ”ابن“ في أسماء الأمراء والحكام، وتلك عادة قديمة كانت تستخدم قبل ظهور السجلات المدنية في العصور الحديثة.
ولكن نطق الكلمة الحاليّ في مثل اسم الأمير ”محمد بن سلمان“ يخالف قواعد العربية.
ومعظمنا يتذكر شعراءَ المعلقات: جُندحَ بنَ حُجر المعروف بـ(امرئ القيس)، ولبيدَ بنَ ربيعة، وزهيرَ بنَ أبي سلمى، وعمرَو بنَ كُلثوم، والحارثَ بنَ حِلّزة، وعنترةَ بنَ شداد، وطرَفةَ بنَ العبد.
وهؤلاء شعراءُ جاهليون خلدهم تاريخُ الثقافة العربية، وهناك أيضا شعراءُ في العصر الحديث ما زالت أسماؤهم محفورةً في الذاكرة العربية، منهم أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، وبدر شاكر السياب، وعبدُ العزيزِ المَقالح، ومحمد الفيتوري، ومحمود درويش، وغيرُهم.
ولعلكم لاحظتم تواري كلمة ”ابن“ من أسماء شعراءِ العصر الحديث. فبعد ظهور السجلات المدنية، وبدء تسجيل المواليد في كثير من البلدان العربية انحسر ظهور كلمة ”ابن“ في شهادة الميلاد فقط.
لكنها لما تزل مستخدمة حتى الآن في منطقة الخليج العربي عند ذكر أسماء الحكام والأمراء. أما أسماء الفنانين والمطربين الخليجيين، فلا تظهر في معظمها كلمة ”ابن“.
لكن كيف ننطق كلمة ”ابن“ في أسماء الشعراء والكتاب الأقدمين؟
الكلمة في حقيقتها صفة للاسم الذي يسبقُها، أو بدلٌ منه.
فعندما نقول:
عنترةُ بنُ شداد من شعراء الجاهلية
نُشكّل كلمةَ ”ابن“ بالضمة لأنها صفة لعنترة، فنقول (عنترةُ بنُ)
أو لأنها بدل فـ(عنترةُ) هو ”ابنُ“ شداد.
وكلمة ”ابن“ من الكلمات التي تبدأ بهمزة وصل، وهذا يعني كتابة ألف في أولها، ولكن تلك الألف لا تحمل همزة لا فوقها ولا تحتها، إذ إننا نصل ما قبل تلك الألف بما بعدها، ولذلك سميت همزة وصل، لأنها تصل ما قبلها بما بعدها. فنقول:
هذا ابْنٌ بارٌ بأبيه (نطقا: ها-ذَبْ-نٌ)
وقابلتُ ابنَ أخي صدفة (نطقا: قا-بلْ-تُبْ-نَ)
وتحدثت معَ ابنِ أختي هاتفيا (نطقا: مَ-عَبْ-نِ)
لكن طريقة كتابة ”ابن“ عندما تقع بين علمين، مثل عنترة وشداد، أو لبيد وربيعة، أو زهير وأبي سلمى، فإنها تكتب بلا ألف، هكذا:
عنترة بن شداد، لبيد بن ربيعة، زهير بن أبي سلمى
وعلينا أن نلاحظ أن الاسم الأول الذي يظهر قبل ”ابن“ غيرُ منون، من أجل التخفيف في النطق، وأن الاسم بعدها مضافٌ إليه.
وأدى حذف ألف ”ابن“ في مثل هذه الحالة إلى توهم بعض الناس أنه يمكن استخدام الباء والنون (بن) في الدَلالة على معنى ”ابْن“، لظنهم أنها كلمة عربية.
وأخذ أهل الخليج يستخدمون ”ابن“ في لهجاتهم العامية، بعد تعديلها إلى صيغة أخرى هي ”بِن“، وهي صيغة لا تعرفها اللغة العربية الفصيحة.
لكن هذا النطق الخاطئ من أسف انتقل إلى اللغة الفصيحة.
وهذا ما انتشر في نطق بعض أسماء الأمراء والحكام في الخليج في نشرات الأخبار والبرامج الإخبارية.
وهنا مسألتان يجب التوقف عندهما.
أولا: مسألة الخلط بين المستويات اللغوية.
ففي عالمنا العربي يوجد لدينا مستويان لغويان: مستوى فصيح، ومستوى عاميّ. والهوة بين المستويين فسيحة.
وما قد يستخدم في المستوى العاميّ قد لا يجوز استخدامُه في المستوى الفصيح في أغلب الأحيان، لأن الخلط بين المستويات يؤدي في أكثرِ الأحوال إلى انتهاك قواعد اللغة العربية الفصيحة،
وهذا بالضبط ما حدث مع كلمة ”ابن“، عندما ابتدع الناس كلمة لا أصل لها في اللغة ولا سند، وهي كلمة ”بِن“، واستخدموها في نطق أسماء الأمراء والحكام، فقالوا: الأمير ”فلانْ بِنْ فلان“.
ثانيا: التقاء الساكنين هو المسألة الثانية التي تثيرها الكلمات التي تبدأ بهمزة وصل، ومنها كلمة ”ابن“. وكنت قد عرضت لهذه المسألة في مقالة سابقة.
فوظيفة همزة الوصل في الحقيقة هي تفادي التقاء ساكنين في العربية.
وكلمة ”ابن“ قبل أن تدخل عليها همزة الوصل تبدأ بصوت ساكن هو (بْ)، لا تتبعه حركة، لكنه متبوع مباشرة بساكن آخر هو (ن).
ولا يسمح نظامُ الأصوات العربية بتتابع صوتين ساكنين في بداية الكلمة، لصعوبة نطقه.
ولذلك أتينا بهمزة الوصل – وهي في حقيقتها همزة خفيفة تتبعها حركة أميل إلى الكسرة – حتى تساعدَنا على فك، أو كسرِ تتابعِ الساكنين.
فإذا واجهنا كلمة ”ابن“ في بداية الكلام، في مثلِ:
(ابنُ شداد شاعرٌ جاهليٌّ)
نستطيع الآن نطقَها، لأننا سنربط همزةَ الوصل التي أتينا بها، بالباء الساكنة من كلمة ”اِبْن“. أما النون فسنُلحقها في النطق مع الضمة التي بعدها فنقول: ”اِبــْ + نــُ“.
أما إذا وقعت كلمة ”ابن“ بين اسمين علمين فسيكون نطقُها على النحو التالي:
(عنترةُ بنُ شداد)
(عـَنـْ – تــَ – رَ – تــُبــْ – نــُ – شــَدْ – دَـَـدْ)
ونلاحظ هنا كيف حذفت همزة الوصل من كلمة ”ابن“، إذ لم يعد هناك حاجة إليها لفك الساكنين، بعد أن ربطنا نطقا، بين آخر مقطع صوتيّ من (عنترة)، والساكنِ الأول في ”ابن“.
وعلى هذا النحو ينطق العارفون باللغة العربية الفصيحة وقواعدِها.
أما في المستوى العامي، فإن المتحدثين يميلون إلى التسكين، فيقولون (عنترهْ) ولا يربطون بين الكلمات بعضِها بعضا.
وتفادوا مشكلة تتابع الساكنين في كلمة ”ابن“، بتحريك الساكن الأول بالكسرة، فقالوا ”بِن“.
وهم يستخدمون هذه الصيغة في أول الكلام، وفي وسطه.
لكن المصيبة الكبرى هي انتقال هذه الصيغة وهذا الاستخدام إلى المستوى الفصيح، وترددُه في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
وهي كما قلت صيغةُ لا أصل لها في العربية الفصيحة، إذ إنها عامية ولا يصح استخدامها في المستوى الفصيح.
ولذلك يجب على المذيعين أن ينتبهوا فيتحاشوها، وأن يلتزموا بالصيغة العربية الصحيحة التي مازلنا نستخدمها في برامجنا عن الأعلام والشعراء والكتاب العربِ القدماء.
ولكن كيف تحولت كلمة ”اِبْن“ في المستوى الفصيح إلى ”بِنْ“ في المستوى العامي؟
حتى نفهم هذا التحول تعالوا نتتبع ما حدث:
ولكن يجب أولا أن ألقي بعض الضوء على بعض مبادئ علم الأصوات، مستخدما بعض الرموز الصوتية.
ففي علم الأصوات يدور الحديث دائما على الأصوات وليس الحروف. والحرف رمز لما ننطقه، وما ننطقه هو الصوات.
وتنقسم أصوات اللغة إلى متحرك وصامت (ساكن). فالمتحرك هو الصوت الذي يكون مجرى الهواء خلال نطقه مفتوحا، مثل الفتحة بعد الهمزة في (فـ ــَ)، والكسرة في (فـ ــِ)، والضمة في (فـ ــُ).
أما الصوت الصامت (الساكن) فهو الصوت الذي يوجد خلال نطقه نوع من التضييق في مجرى الهواء، أو انحباس في الهواء، مثل (ف)، و(ب).
ونرمز للصوت المتحرك بـ(ح) وللصوت الصامت بـ(ص)
والأصوات الصامتة والمتحركة في العربية تكوّن ما نسميه مقاطع صوتية.
فكلمة (فُلانٌ) تتكون من ثلاثة مقاطع، هي: (فُ=ص ح)، (لا= ص ح ح)، (نُن=ص ح ص)
والآن فلننظر إلى ما حدث لكلمة ”ابن“ بين الفصحى والعامية.
أولا: عندما وقعت كلمة ”ابن“ بين علمين حذفت منها الألف.
والتركيب الصوتي لعبارةٍ مثلِ (فلانُ بْنُ فلانٍ) يتكون من سبعة مقاطع صوتية:
فــُـ (١) لــَــَـ (٢) نــُـبْـ (٣) نــُـ (٤) فــُـ (٥) لـــَــَـ (٦) نــِـنـْ (٧)
ص ح ص ح ح ص ح ص ص ح ص ح ص ح ح ص ح ص
ثانيا: ما تبقى بعد حذف الألف هو ”بْـنـِـ“، أي باء ساكنة تتبعها ”نون“ محركة بالكسرة (ص ص ح).
وهذا التركيب المقطعي (ص ص ح) الذي يتوالى فيه صوتان صامتان، والذي يسميه علماء العربية ”التقاء الساكنين“ غريب على اللغة العربية الفصحى في بداية أي كلمة، وغير مسموح به لصعوبته في النطق. ولابد من تفكيكه ليصبح مقطعا مسموحا به في اللغة.
التقاء أكثر من ساكن في لغات آخرى
ويجدر هنا أن أشير إلى أن التقاء الساكنين في بداية الكلمة مسموح به في لغات أخرى، كالإنجليزية، ومسموح به أيضا في بعض اللهجات العربية، مثل اللهجة اللبنانية.
فكلمة (street) تتكون مقطعيا من (ص ص ص ح ح ص)، أي من ثلاثة صوامت متتابعة في بداية الكلمة يتبعها حركة طويلة ثم صامت.
وتمثل هذه الكلمة وشبيهاتُها مشكلة للناطقين بالعربية الذين يتعلمون الإنجليزية.
وهم يتغلبون على المشكلة بتفكيك سلسلة تتابع الصوامت بطريقتين تتماشيان مع النظام الصوتي للعربية.
في الطريقة الأولى المعروفة لدى طلاب الإنجليزية من المصريين يضع الطالب حركة قبل أول صوت صامت ويفصلة مقطعيا عن الصامت التالي، فيقول في نطق (street) = (is-treet)
أما الطريقة الثانية المعروفة لدى الطلاب العراقيين، فيبدأ الطالب النطق فيها بأول صوت صامت ثم يتبعه بحركة من عنده، يفصله عما بعده. فيقول في (street) = (sit-reet)
ونعود إلى كلمة ”ابْن“ فنرى أن ما فعله الناطقون باللهجات الخليجية هو بالضبط ما لجأ إليه العراقيون مع كلمة (street)، عندما أصبحت في نطق العراقيين (sit-reet). فقد تحولت ”بْن“ إلى ”بِنْ“.
وهذا ما حدث صوتيا في:
فُلَا(نــُـبـْـ)ـنُ فُلَان
(ص ح – ص ح ح – (ص ح ص) – ص ح – ص ح – ص ح ح – ص ح ص)
فُلانْ (بــِـنــْـ) فلانْ
(ص ح – ص ح ح ص – (ص ح ص) – ص ح – ص ح ح ص)
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.