يقول الكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي في مقالته عن الحرية واصفا حياة الطير والسمك والحيوان الطليقة: ”يحلِّق الطيرُ في الجو، ويسبَحُ السَّمك في البحر، ويَهيم الوحشُ في الأودية والجبال ..“، أما الإنسان فيعيش مقيدا ”رهينَ المحبسين: محبس نفسه ومحبس حكومته من المهدِ إلى اللحد!“
بل إن القوي من بني البشر ”صنَع .. للإنسان الضعيف سلاسلَ وأغلالاً، وسماها تارة: ناموسًا، وأخرى: قانونًا؛ ليظلِمَه باسمِ العدل، ويسلبَ منه جوهرة حريتِه باسم الناموسِ والنظام.“
تذكرت مقالة المنفلوطي هذه في الرابع من أكتوبر، حينما انتهى تعاقدي مع بي بي سي، وعندما انكسرت قيود قواعد التحرير الصحفي التي كانت تكبلني.
فما كنت أستطيع قبل ذلك اليوم أن أكتب بحرية مقالة يزين عنوانها اسم ”فلسطين“، إذ كان ذلك من المحرمات، وفق قواعد التحرير في بي بي سي.
وما كنت أستطيع أبدا أن أسطر تعليقا على منشور، أو أبدي تنديدا بآخر ذي صلة بالعدوان الإسرائيلي الذي يمارسه جيش الاحتلال كل يوم في فلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي، لأني كنت سأعرض نفسي إما للتأنيب وإما للتأديب، وإما للطرد من عملي.
وعندما وضعت قبل عامين تقريبا منشورا على حسابي على إنستجرام، نقلت فيه صورة لاحتفاء الأمم المتحدة باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، اتصل بي مدير التحرير هاتفيا وطلب مني شطب المنشور.
وأنا أعرف أن لفن التحرير الصحفي، مثل أي فن آخر، قواعد يجب الالتزام بها. وأدرك أيضا أن لأي مؤسسة صحفية سياسة تحريرية تنتهجها وتلزم محرريها بها.
وكنا في بي بي سي زمان نعتد بالحرية التي نتمتع بها، ونفخر بالتحرير الصحفي المتوازن فعلا، الذي كنا نلزم أنفسنا به. فإن عرضنا في موضوع ما وجهة نظر الفلسطينيين، كنا أيضا نتيح المجال للجانب الآخر للإدلاء برأيه.
وهذا ما كان يميز السياسة التحررية لبي بي سي دون غيرها في تناولها لمعظم القضايا. ولهذا كان المستمعون – أيام الإذاعة – يحرصون على متابعتها، لأنهم يسمعون فيها ما لا يجدونه في محطاتهم.
لكن بي بي سي هذه الأيام – للأسف – فقدت هذا التوازن، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا، والحرب على غزة. واتخذت المؤسسة الإعلامية العريقة في هاتين القضيتين منحى آخر يتبنى خطاب وسائل الإعلام الغربية المنحازة، وخطاب جيش الاحتلال الإسرائيلي.
فبينما يصبح الجيش الروسي في الخطاب الإعلامي الذي تتبناه بي بي سي بعد الحرب في أوكرانيا، ”جيش احتلال“، لا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي ”الجيش الإسرائيلي“ فقط، أحيانا ”جيش الدفاع الإسرائيلي، أو أي دي إف“.
وبينما يوصف الجنود الأوكران في الخطاب ذاته بـ”المقاتلين“، يُنعت مقاتلو حركة المقاومة الإسلامية بـ”الإرهابيين“.
وأضحت قضية الاحتلال الإسرائيلي، حتى قبل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، قضية ”صراع عربي – إسرائيلي“، أو قضية ”صراع فلسطيني – إسرائيلي“، في أحسن الأحوال، أو ”حربا بين إسرائيل وحماس“، بعد طوفان الأقصى.
- وأصبحت حركة المقاومة الإسلامية: ”حماس“ في أفضل الأحوال، أو حركة تصفها دول بأنها ”إرهابية“
* وأصبحت الحرب التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة: ”الحرب في غزة“
- * وأصبحت الهجمات العدوانية لـ”جيش الاحتلال“ في الأراضي الفلسطينية المحتلة: ”عمليات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية أو غزة“.
- * وأصبحت ”النكبة“: ”حرب عام ١٩٤٨“،
- * وأصبح ”الفلسطينيون“ في الداخل، ”عرب إسرائيل“
- * ويتحول أي ”هجوم“ لجيش الاحتلال، حتى وإن كان على حملة نعش شيرين أبو عاقلة: ”اشتباكا“.
- * وأضحى المحتلون المتطرفون في بؤر الاحتلال في الأراضي الفلسطينية ”مستوطنين“ في معظم الأحيان، وأحيانا: ”نشطاء“.
ووسط هذه الأجواء أخذ بعض المحررين يؤثرون السلامة فيما يتعلق بالحرب على الفلسطينيين، فبدلا من إلقاء الضوء على الفظائع التي يرتكبها المحتلون المتطرفون في بؤر الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة وهجماتهم على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ينحون إلى التركيز على ”الجماعات الفلسطينية المسلحة“ في تلك المنطقة.
لقد آثرت بي بي سي تبني الخطاب الإسرائيلي في معظم الأحيان تجنبا لانتقادات نشطاء الصهاينة في بريطانيا، الذين يتابعون كل ما يكتب أو ينشر في وسائل الإعلام باستمرار، ويمطرون المؤسسات الإعلامية بشكاواهم شاهرين سيف معاداة السامية، الذي يرهبون به الكثيرين، والذي سأقف عنده في حديث آخر.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.