اليوم العالمي للامتناع عن التدخين: حكايتي مع السيجارة

اليوم العالمي للامتناع عن التدخين: حكايتي مع السيجارة

إحصاءات منظمة الصحة العالمية بشأن انتشار التدخين صادمة ومفزعة. 

يقول موقع المنظمة في اليوم الذي حددته ليكون يوما بلا تدخين كل عام (وهو ٣١ مايو/أيار) إن معدل انتشار استخدام ”السجائر الإلكترونية“، كما تسميها شركات التبغ، بين الصبية فيما بين سن ١٣ إلى ١٥ زاد على استخدامها بين الكبار في مناطق العالم جميعا، فبلغ ٣٧ مليون صبي وفتاة. 

وهذا ما دفع المنظمة إلى تحديد يوم لتوعية الناس بخطورة التدخين على صحتهم، يوم يقضون ساعاته بلا تدخين. وقد يحفز ذلك بعضهم إلى الإقلاع دائما.

اسم خبيث!

وقبل أن أقص عليكم حكايتي مع السيجارة أسألكم: هل لاحظتم الاسم الذي تبنته شركات تصنيع التبغ والسجائر لما أنتجته من وسائل تدخين جديدة مواكبة للعصر الذي غزت فيه التكنولوجيا كل شيء؟ 

إنه ”السيجارة الإلكترونية“، أو ”السجائر الإلكترونية“. 

ما أخبثه من اسم! 

فهو يستهدف، بلا شك، عقول الصغار، حتى وإن كانوا في السن كبارا، إذ يزين لهم أنهم باستخدام ”السيجارة الإلكترونية“ أصبحوا يواكبون العصر، فما يدخنونه ”سيجارة“ إلكترونية“، تماشي هواتفهم ”الذكية“، وساعات أيديهم وآلات تصويرهم الرقمية، وأجهزتهم اللوحية وحواسيبهم، مما أصبح ينضوي تحت ما هو ”شائع أو ترندنج – trending“ من أدوات العصر. 

فمن يريد أن يكون ”عصريا“ يجب أن يدخن ”سيجارة إلكترونية“، ووقع وما زال يقع في هذا الفخ الإلكتروني الآلاف، بل الملايين. 

ومما زاد من الإقبال على المنتج الجديد، إيهام مستخدميه بسلامته على الصحة. 

حكايتي مع السيجارة

ذكرني هذا اليوم العالمي بحكايتي مع السيجارة، التي كانت نفثاتها حينما اقتحمت حياتي، دخانا حقيقيا كريها، وغير إلكترونية.

لم أولد في بيت ”مدخنين“، ولم يخطر التدخين على بالي قط حتى أنهيت دراستي الجامعية. 

وبعد أن حصلت على درجة الليسانس في كلية الآداب عزمت على مواصلة دراستي العليا. ووفقني الله تعالى إلى وظيفة جيدة تمكنني من الإنفاق على نفسي، وشراء ما أحتاجه من كتب. 

وكان يومي مقسما بين العمل في الصباح في المدرسة الإنجليزية للبنات بالأسكندرية، وحضور محاضرات السنة التمهيدية للماجستير في المساء، ثم الانكباب على الدراسة والتحصيل ليلا.

وكنت أجد صعوبة أحيانا في مواصلة السهر، خاصة وأني كنت أريد الحفاظ على تفوقي في الدراسة التي حصلت فيها على الدرجة بتقدير ”جيد جدا“. 

فتحت الموضوع عرضا مع صديق فقال لي: عليك بشرب القهوة مع السيجارة!

لم يكن شرب القهوة غريبا علي، فقد جربته من قبل. أما السيجارة فلم يكن لي بها صلة. ودفعني حرصي على الدراسة إلى تجريب ما قاله لي ذاك الصديق، سامحه الله.

اليوم العالمي للامتناع عن التدخين، حكايتي مع السيجارة

وهم عوالم السيجارة

واقتحمت السيجارة حياتي. وأوهمتني طريقة إمساكها بين إصبعين، واحتضان الشفاة لها في كل نفَس، وخروج زفراتها نفثات تحلق في علياء الغرفة، بأنها رفيق لا غنى عنه، يطير بك للحظات بعيدا عن واقعك فتعيش في عوالم خيالية لا أساس لها تتهاوي معالمها مع تلاشى حلقات الدخان فوق رأسك.

وتعلقت بها كما تعلق نيكوتينها بدمي، ودامت علاقتنا خمسة عشر عاما، ونشأت لدي خلال تلك السنوات عادات غير حميدة يعرفها المدخنون، من بينها سيجارة الصباح بعد الاستيقاظ مباشرة، وسيجارة ما بعد الأكل، وسيجارة المجاملات عندما لا يكون الهدف من التدخين إلا المجاملة بتبادل تقديم السجائر وقبولها وتدخينها في جلسات المدخنين.

قصة إقلاعي عن التدخين

وعندما ولدت ابنتي راودتني فعلا فكرة الإقلاع عن التدخين. إذ أحسست أني إن دخنت فسوف أعبئ المكان بدخان سام، قد يضر بصحة الوليدة الصغيرة النقية الطاهرة، وهي لا ذنب لها لتتحمل وزر عاداتي السيئة وعلاقتي المسمومة بالسيجارة. 

وبدأت فعلا مشوار الإقلاع، بعد أن أقنعت نفسي بأنني لا أجني أي فائدة من وراء تلك السيجارة اللعينة، سوى خراب صحتي وخراب جيبي، وكراهة رائحة فمي.

واتخذت القرار. وتشجعت فألقيت بما تبقى من علبة السجائر لدي في سلة النفايات. وشعرت بارتياح كبير. 

السيجارة والمايكروفون

وكم أدركت نعمة الإقلاع عن التدخين فيما بعد حينما توجهت إلى لندن لاستكمال دراستي العليا، وأتيحت أمامي فرصة لتحقيق حلم قديم كان يراودني منذ شبابي، وهو العمل في الإذاعة. وواتتني الفرصة في هيئة الإذاعة البريطانية.

فمن بين مهارات المذيع الناجح مهارة تقطيعه للنص الذي يشارك مستمعيه فيه إلى عبارات وجمل، تختلف من حيث الطول والقصر بحسب المعاني التي يريد توصيلها. 

ولا يستطيع المذيع قراءة نص برمته في نفَس واحد، ولذلك يجب تقسيم النص إلى عبارات وجمل تمكنه أولا من تنظيم تنفسه بحيث يستطيع مواصلة التنفس، وتمكنه ثانيا من استكمال القراءة في الوقت نفسه، دون أن يؤذي آذان مستمعيه بفحيح شهيقه. وهذا ما يقع فيه بعض مذيعي ومذيعات الإذاعة والتلفاز.

ولن يستطيع المذيع التحكم الكامل في تنفسه وهو يقرأ إن كان مدخنا.  إذ يفقده التدخين تلك القدرة بسبب تأثيره في الرئتين وفي عملية التنفس. ويصبح صدره ضيقا حرجا، يحس معه بأنه ما زال بحاجة إلى مزيد من الأكسجين. 

وقد أدركت أنا ذلك شخصيا عندما كنت أسمع شهقات بعض المذيعين في الاستديو خلال البث أو التسجيل.

ويبين لنا هذا صعوبة الجمع بين السيجارة والمايكروفون، فإن رغبت في دوام علاقتك بالمايكروفون عليك أن تطلق السيجارة، فهما ضرتان لا تجتمعان.      


اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

للمشاركة على :

اترك تعليقك

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.

اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading