لفت انتباهي مجموعة من الصور في غرفة أخبار بي بي سي عربي قبل أيام خلال زيارة لمبنى المؤسسة في لندن للملمة بعض أوراقي وكتبي مع اقتراب انتهاء تعاقدي مع الهيئة العريقة.
تضم المجموعة عددا من صور المذيعين والعاملين السابقين في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية في الماضي، ومعظمها باللونين الأسود والأبيض.
لكن مكان تلك الصور أثار دهشتي، إذ وضعت جميعها فوق سطح مجموعة من الخزائن المعدنية التي يستخدمها الموظفون لحفظ أمتعتهم وحاجياتهم الشخصية خلال فترات عملهم اليومية.
وساءلت نفسي: هل هذا هو المكان اللائق بهؤلاء الأعلام الذين صنعوا تاريخا لما تزل تعيش عليه بي بي سي عربي؟
ولست أبالغ أبدا عندما أقول إن هؤلاء، هم وغيرهم معهم من مذيعين ومحررين ومترجمين، ساهموا في صنع تاريخ بي بي سي عربي، التي لما تزل تعرف في أذهان كثيرين، وليس هذا صدفة، باسم ”هيئة الإذاعة البريطانية“.
فالإذاعة التي عاشت أكثر من ثمانين عاما، ثم أهملت حتى لفظت أنفاسها خنقا، هي التي صنعت اسم بي بي سي عربي، الذي كتب عنه بيتر بارتنر – Peter Partner كتابه الرائع ”أصوات عربية: بي بي سي عربي من ١٩٣٨ حتى ١٩٨٨“.
وخلال سنوات ذلك التاريخ أعلن بعض هؤلاء الأعلام استقالته على الهواء استنكارا للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر.
ولست أعتقد أن تلفزيون بي بي سي عربي ولا بي بي سي أونلاين استطاعا أن يصنعا مثل هذا التاريخ، أو يرتقيا إلى مكانته.
فهل يليق بعد ذلك أن ينتهي المطاف بصور هذه المجموعة من الأعلام بإهمالها فوق سطح خزائن الموظفين المعدنية في غرفة الأخبار؟
ربما تكمن الإجابة عن هذا التساؤل في الحيز المتضائل الذي تشغله حاليا بي بي سي عربي وإدارتها في تلك المؤسسة الإعلامية العملاقة.
فبي بي سي عربي جزء من الخدمة العالمية، التي تضم عددا كبيرا من اللغات، أكبرها من حيث عدد الموظفين هي الخدمة العربية.
وقد هان شأن الخدمة العالمية بلغاتها جميعا في أعقاب توقف وزارة الخارجية البريطانية عن تمويلها، في عهد حكومة المحافظين التي كان يرأسها ديفيد كاميرون. وفقدت الخدمة العالمية استقلاليتها وربما هيبتها، وأصبحت تابعة للخدمات الإنجليزية المحلية التي تمولها رخصة التلفزيون التي يدفعها البريطانيون سنويا.
ولا أعتقد أن إدارة الخدمة الإنجليزية كانت سعيدة بمشاركة موظفي الخدمة العالمية لها في مليارات الجنيهات التي تدرها رخصة التلفزيون. وقد يكون في موجات تسريح موظفي الخدمة العالمية، وبعض موظفي الخدمات الإنجليزية، بعض دليل على ما أزعمه، وهو أنها أضحت جسدا يتلقى الطعنات من الإدارة العليا للمؤسسة.
وقد يكون في ما واجهته إذاعة بي بي سي عربي من خنق لصوتها وإسكات له، والحفاظ، في الوقت نفسه، على أصوات محطات راديو الخدمة الإنجليزية المختلفة، دليل آخر على أن تسريح الموظفين ليس دافعه الحقيقي ما أطلق عليه ”التحول الرقمي – digital change“، بل تقليص نفقات الخدمة العالمية التي أصبحت عبئا على كاهل إدارة المؤسسة برمتها.
هذه هي مكانة الخدمة العالمية حاليا بلغاتها المختلفة، وفي صدارتها بي بي سي عربي.
وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم مكانة صور مذيعيها ومحرريها في الماضي الذين صنعوا تاريخها، فوق سطح خزائن الموظفين، بينما تزين صور المذيعين الإنجليز جوانب غرف زجاجية أقيمت خصيصا لتكون مكانا لعقد اجتماعات الموظفين وتخليدا لذكراهم.
وكان اسم المذيع الفلسطيني الشهير ماجد سرحان رحمه الله قد حظي بواحدة منها زينتها صورته مع خارطة لجزء من أراضي فلسطين في فترة من الفترات، لكنها اختفت وخبت للأسف مع انحسار مكانة بي بي سي عربي، ومكانة الخدمة العالمية.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.