جهارة الصوت وحقوق الحمير

جهارة الصوت وحقوق الحمير

لفت انتباهي وأنا أقرأ في سورة “لقمان” أن من بين توجيهات لقمان لابنه في الآية ١٩ قوله تعالى “واقصد في مشيك وأعضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”.

وهنا نقطتان جديرتان بالبحث – من وجهة نظري – في هذا الجزء الأخير من الآية “اغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”.

١- جهارة الصوت (sound volume)، والمقصود بهذا ارتفاع الصوت وانخفاضة خلال الحديث. تشير دراسات علم الأصوات اللغوية الحديثة في هذا الصدد إلى أن جهارة الصوت أمر مرتبط بالثقافة. ففي بعض الثقافات يميل المتحدثون إلى استخدام درجة منخفضة من الجهارة في كلامهم، كالإنجليز على سبيل المثال. وفي ثقافات شعوب أخرى كالعرب واليونان ـ مثلا ـ ينحو المتكلمون منحى آخر فيستخدمون درجة أكثر ارتفاعا من الجهارة. هذه الدرجة لفتت انتباهي غير مرة خلال رحلتي اليومية بالأتوبيس العام في لندن حينما كنت أدرك عن طريق أذني فقط أن بالأتوبيس ركابا عربا من خلال ارتفاع أصواتهم ودون أن أراهم.

هذه الدرجة العالية من جهارة الصوت تدهشني لأن أرض العرب كانت مهبط الدين وأنا أزعم أن الشرائع جميعا تحث على استخدام الصوت المنخفض، والآية ١٩ من سورة لقمان في القرآن الكريم تتضمن مثل هذا التوجيه. وفي سورة الحجرات توجيه مماثل في الآية ٣ “إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ….” وفي الآية السابقة عليها آية رقم ٢ نهي عن رفع الصوت “لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ….” والصوت الخفيض ـ أيضا ـ من سمات الخشوع، يقول الله تعالي في سورة طه في الآية ١٠٨ واصفا لمشهد من مشاهد يوم القيامة “وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا”.

على الرغم من هذا التوجيه الصريح، فإن طابع الثقافة البدوية التي تتسم فيها الأماكن بالرحابة والاتساع وتتصف فيها الحياة بالترحال والتنقل على ظهور الإبل، ويتميز في غنائها حداء الإبل، هو الذي ساد وتغلب حتى أصبحت جهارة الصوت ارتفاعا أمرا يمتاز به معظم العرب في كلامهم.

٢- أصوات الحمير، النقطة الثانية تتركز على الجزء الأخير من الآية “إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”. قد يتوهم بعض قارئي الآية أن في هذا الجزء منها استهجانا لصوت الحمير. ولكن هل يمكن لله تعالى ـ وهو خالق كل شيء: البشر والدواب والبغال والحمير … إلخ ـ أن يصف أيا من خلقه بالقبح والإنكار؟ المقصود من هذا الجزء من الآية هو استهجان درجة جهارة الصوت المرتفعة زيادة عن الحد، وهذه هي الدرجة التي يعرف بها صوت الحمير الفطري. هناك إذن سمة جامعة بين صوت الحمير وبني البشر ممن لا يغضون أصواتهم في الكلام وهي تلك الدرجة العالية من الجهارة في الكلام.

أما بنو البشر الذين خلقوا في أحسن تقويم فلا ينبغي لهم رفع الصوت لأن في رفعه إيذاء ماديا لأذن السامع، وربما أيضا إيذاء معنويا لمشاعر السامع.

للمشاركة على :

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.