يوميات صائم: رمضان ٢٠١٨

يوميات صائم ٢٠١٨

١ رمضان ٢٠١٨

خلصوا الأمة من بلبلة رؤية الهلال !

 

كلمات في القرآن: “شَهِدَ”

توالت الأيام وجرجر بعضها بعضا حتى حل رمضان في ثوب جديد. فأهلا وسهلا به، وبكم.

في يوميات هذا العام آمل أن نقف معا عند “كلمات من القرآن الكريم”، نتعرف من خلالها على معان ربما غفلنا عنها. وفي صحبة تلك الكلمات قد تثور قضايا من الجدير الوقوف عندها. ونبدأ في هذه اليومية بما يتعلق برؤية هلال رمضان.

مع قدوم الشهر الكريم تظهر الخلافات حادة بين المسلمين في تحديد مولده. وما من سبب وراء هذه الخلافات – في رأيي – إلا التمسك بمروية واحدة تنسب للنبي الكريم محمد عليه السلام بألفاظ مختلفة، وتقول “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” (البخاري: ١١٧٥)، أي لرؤية الهلال، مقصرين تفسير الكلمة على الرؤية بالعين.

ولكن ماذا قال كتاب الله تعالى في هذا الشأن؟

يرتبط رمضان في القرآن الكريم بفعل الشهادة وليس بفعل الرؤية. تقول الآية ١٨٥ من سورة البقرة: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه …”.

و”شهد” في الآية تفيد معاني مثل حضر، وعلم، وعايش. وهنا يولي القرآن اهتماما أكثر لأداء شعيرة الصوم ذاتها وما يرتبط بها من رخص، وما يعود على الصائم من خير من وراء أدائها.

ولكن لماذا لم يتعرض القرآن لمسألة الرؤية؟

من يتدبر آيات الكتاب الكريم يدرك أن تلك مسألة محسومة، وليست محل جدل. فهي برمتها تتعلق بدوران القمر حول الأرض في فلك محدد وفي فترة محسوبة، هي في ذاتها آية من آيات الله الكونية في الخلق.

وقد ورد ذكر “الأهلة” في الكتاب الكريم في السؤال الذي وجهه قوم النبي عليه السلام إليه “يسألونك عن الأهلة؟”، وكان جواب الله تعالى عنه “قل هي مواقيت للناس والحج” (البقرة:١٨٩).

والهلال هو هذا الجزء الصغير من القمر الذي يظهر للرائي عند بداية الشهر. وظهوره ونمو حجمه بالنسبة إلى الرائي حتى يصير بدرا أمر محسوب بدقة بناء على دورة القمر حول الأرض، كما أن شروق الشمس وغروبها محسوب أيضا بدقة بناء على دوران الأرض حولها، فيكون الليل والنهار، فيما نعرف من معلومات علم الفلك. وهذا الحساب الدقيق هو الذي بينته آي القرآن الكريم في غير موضع.

منها:

  • “وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون” (يس: ٣٧-٤٠)
  • و”الشمس والقمر بحسبان” (الرحمن: ٥)
  • و”هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون” (يونس: ٥)

وقد أدرك المسلمون ذلك الحساب الدقيق فاستقر الرأي لديهم على اتباعه في تحديد مواقيت الصلاة، مع خلافات يسيرة بين مذهب ومذهب. وهم بهذا – في رأيي – يتبعون النهج القرآني الصحيح الذي كفل لهم مسألة دقة حساب المواقيت.

ولكن لماذا لا يتبعون النهج نفسه مع أهلة الشهور القمرية، ويخلصون الأمة من البلبلة التي يواجهها الناس كل عام؟

عودوا إلى كتابكم الكريم وتدبروا آيه تفلحوا.

٣ رمضان ٢٠١٨

القرآن ليس ”ختمة“

”القرآن“ في القرآن

يرتبط شهر رمضان بالقرآن الكريم نزولا، ويرتبط به أيضا تلاوة إذ يقبل كثير من المسلمين على قراءته، بل ختمه فيه. وللمسلمين في ذلك عادات وتقاليد أحسب أن فيها ابتعادا عن تعاليم القرآن ذاته.

ولكن كيف تحدث القرآن عن “القرآن”؟

أصل الكلمة

يستخدم كتاب الله تعالى غير اسم لوصف ما أنزل على نبيه الكريم، فهو “الكتاب”، وهو “الذكر”، وهو “الفرقان”، وغيرها. لكن “القرآن” هو أكثرها شيوعا فيه.

ومن يتتبع كلمة “القرآن” في المصحف ترتسم في ذهنه صورة مكتملة عن هذا الكتاب من نواحيه كافة: مصدره، وطريقة نزوله وتنزيله، وصفاته، والهدف منه، وآداب التعامل معه قراءة واستماعا، ثم موقف الناس منه.

وقد اختلف العلماء في تفسير الكلمة من حيث أصلها ووزنها صرفيا ومعناها، وهل هي من فعل “قرَن” أي ضمَّ وجمع، أو من فعل “قرَأ”. وادعى مستشرقون أن أصل “قرآن” و “كتاب” ليس عربيا، بل سريانيا، لأن الكلمتين – كما يقول نولدكه في (تاريخ القرآن) – ذاتا مضمون ثقافي، وربما وفدتا إلى العربية من الشمال، من منطقة الهلال الخصيب.

ولست أتفق مع هذا الرأي، لأن القرآن في رأيي كتاب أنزل ليُتلَى ويُقرأ. والقراءة والكتابة كانتا معروفتين لدى العرب الذين كانوا يقرضون الشعر، ويعلقون ما راقهم منه مكتوبا على أستار الكعبة. والصيغة الصرفية “فُعلان” من صيغ العربية المعروفة، في مثل “غُفران”، و”خُسران”، و”قُربان”.

ملامح الصورة

وهذه هي بعض ملامح صورة “القرآن” في سور القرآن:

تلقى نبينا الكريم هذا الكتاب من الله تعالى “وإنك لتلقَّى القرآن من لدن حكيم عليم” (النمل:٦)، عبر الوحي “… وأوحي إليَّ هذا القرآن…” (الأنعام:١٩).

وقبل تلقيه نزل القرآن إلى السماء الدنيا مرة واحدة. ويستخدم الكتاب في الإشارة إلى ذلك فعل أنزل، “شهر رمضان الذي أنزلفيه القرآن” (البقرة:١٨٥)

ثم أخذت آياته تُنزَّل على النبي الكريم متفرقة بحسب الأحداث. ويشار إلى ذلك باستخدام فعل نزَّلَ، “وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَعليه القرآن جملة واحدة …” (الفرقان:٣٢). وكانت الآيات تُقرأ على النبي ويُعلَّمها تعليما حتى لا ينساها، “الرحمن، علَّم القرآن” (الرحمن:٢)، واستخدام صيغة فعَّل أي علَّم تدل على طول فترة التعلم، حتى لا ينساها، “سنقرئك فلا تنسى” (الأعلى:٦).

ولقد كان تنزيل القرآن على النبي فرضا، ولم يكن له خيار في ذلك. إذ إنه اختير لمهمة وعليه الوفاء بها، “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد …” (القصص:٨٥).

واشتملت عملية تعليم النبي أيضا على الطريقة الصحيحة لقراءة الكتاب. ومن ذلك ترتيله “… ورتل القرآن ترتيلا…” (المزمل:٤)، أي اقرؤه على مَهَل، “وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث…” (الإسراء:١٠٦). وأمْر الرسول عليه السلام بالتمهل في تلاوته وقراءته على قومه يساعدهم بلا شك على فهمه وتدبره.

وهدف القرآن هو الهداية والإنذار “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم …” (الإسراء:٩)، و “و أوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به…” (الأنعام:١٩).

وهنا تشير آيات الكتاب إلى نقطة مهمة من وراء إنزاله، ألا وهي أنه جاء لإسعاد الناس، وليس لشقائهم “… ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” (طه:٢). وهذا يؤكد فكرة يسر الدين وألا حرج فيه.

ولكن كيف تلقى أهل مكة القرآن؟

لقد رفضوه، “وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن…” (سبأ:٣١). ورفضوا فكرة نزوله على رجل ليس من كبرائهم، كما كانوا يتمنون “وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم” (الزخرف:٣١). وحينما أصبحوا أمام أمر واقع لا يستطيعون تغييره، أخذوا يتمحكون، “وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة…” (الفرقان:٣٢). لكنه ظل ينزَّل ولم يعد أمامهم سوى نهي الناس عن الاستماع إليه، والتشويش عليه “وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه” (فصلت:٦).

وهكذا كان موقف الكفار من القرآن، موقف الرافض الهاجر “وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا” (الفرقان:٣٠)، وموقف المشكك فيه بالقول حينا إنه سحر، وحينا إنه شعر، وحينا إنه كهانة، “الذين جعلوا القرآن عضين” (الحجر:٩١).

وهذا من أسف هو أيضا موقف بعضنا الآن، إذ إننا هجرنا القرآن وأصبحت المصاحف زينة مغلفة في المنازل لا تفتح ولا تقرأ، وبركة في السيارات تدلّى ولا تتلى. وباتت الآيات صورا ورسومات تتبادل على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا تتدبر.

وللقرآن آداب في التعامل معه علمنا إياها القرآن ذاته، “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوالعلكم ترحمون” (الأعراف ٢٠٤).

أما إذا كنت أنت القارئ “فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم” (النحل:٩٨) قبل أن تبدأ القراءة. وحثتنا آيات سورة الإسراء على القراءة فجرا “… وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا” (الإسراء:٧٨)

وحتى تستطيع فهم معانيه عليك ألا ترهق نفسك بالكثير من الورد، “فاقرؤوا ما تيسر من القرآن…” (المزمل:٢٠). لذلك تحضنا آيات كثيرة على تدبره “أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها” (محمد:٢٤)، و”لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر” (القمر:١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠).

لقد أصبح ختم المصحف لدينا، خاصة في شهر رمضان، كل ثلاث ليال، أو سبع ليال، أو كل شهر، هو جل همنا. ننتشي حين ننتهي منها وكأننا أدينا فرائض الدين كاملة. ثم ننخرط في حياتنا وأعمالنا وقد نكذب أو نخون أو نسرق أو نختلس أو نغش أو نقسو أو نهين أو نخاصم أو نقاطع أو نسب أو .. أو .. وكأننا لم يبق في صدورنا حرف مما قرأنا. وأصبحنا أمة تشقشق بالآيات دون وعي، نقتطعها من سياقها بلا تفكر، ونقبل بلا تدبر، بل قد نروج، لأفكار وتفسيرات بعيدة عن القرآن ومقاصده لأنها صادرة عن أناس يدعون الدين ولأننا لم نتدبر ما قرأناه من الآيات ولم نحاول فهمه.

٤ رمضان ٢٠١٨

”الحكمة“ في القرآن ليست هي السنة!

يسيء بعض المفسرين – خاصة المحدثين منهم – إلى القرآن الكريم ذاته حينما يلوون أعناق كلماته لتتفق ومذاهبهم وآراءهم. وهم بذلك أيضا يضللون كثيرا من المسلمين الذين يأخذون تفسيراتهم وكأنها جزء من الكتاب، لأن هؤلاء المسلمين أصلا لا يتدبرون آي القرآن عند قراءته، ولا يعملون عقولهم حين يطالعون تفسيره.

ومن هذا الباب افتراء أن “الحكمة” هي السنة.

ومن يقرأ القرآن الكريم ويتمعن في آياته يدرك أن من بين ما يقدمه للإنسانية جمعاء نظاما أخلاقيا متكاملا يهدف إلى الحفاظ على الوئام الاجتماعي بين أفراد المجتمع في علاقاتهم وسلوكهم في جوانب الحياة المختلفة.

ولنأخذ مثلا على ذلك ما ورد في سورة الإسراء، من الآية ٢٢ وحتى الآية ٣٨. وهذا هو فحوى تلك الآيات التي وجهها الله تعالى إلى كل إنسان عبر ما أوحاه للنبي الكريم بـ:

  • ألا تشرك بالله
  • أن تحسن إلى والديك وتعامهما بالحسنى
  • أن تحسن إلى ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل دون تبذير، وتعاملهم بالحسنى
  • ألا تبخل في الإنفاق على نفسك وأهلك، وكذلك ألا تسرف
  • ألا تقتل أطفالك خوفا من الفقر
  • ألا تقرب الزنا
  • ألا تقتل
  • ألا تأكل مال اليتيم بالباطل
  • أن تفي بالعهد
  • أن توفي الكيل والوزن
  • ألا تتجسس بالنظر ولا بالسمع على ما لا علم لك به
  • ألا تتكبر في مشيتك فخرا بنفسك

ويختتم القرآن الحديث عن تلك المنظومة الأخلاقية بأمرين:

أولهما إدراك الله تعالى لطبيعة الإنسان الذي قد يصعب عليه الالتزام بتلك التعاليم الأخلاقية الراقية في أحواله قاطبة، ولذلك ينبهه إلى أن “كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها” (الإسراء:٣٨)

وثانيهما، وهو الأهم، هو وصف تلك المنظومة الأخلاقية بلفظ الحكمة “ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة…”.

والحكمة في اللغة هي العلم والتفقه والعدل والحلم، و”معرفة أفضل الأشياء بأفضل لعلوم” (المعجم الوسيط)

ولكنها في القرآن الكريم نظام شامل من التعاليم الأخلاقية – كما أشرنا سابقا – يوحيه الله تعالى إلى رسله لتنظيم العلاقات الاجتماعية وإشاعة الوئام بين أفراد المجتمع.

ولم يختص الله بذلك فقط نبينا الكريم محمدا عليه السلام، حتى يدعي “الحديثيون” أنها السنة.

  • فقد آتاها النبيين جميعا “وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة…” (آل عمران:٨١)
  • وآل إبراهيم “… فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة…” (النساء:٥٤)
  • وعيسى عليه السلام “… وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل …” (المائدة:١١٠)
  • ولقمان “ولقد آتينا لقمان الحكمة…” (لقمان:١٢)
  • وداوود “وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب” (ص:٢٠)

وقد أمر الله تعالى رسولنا الكريم بالدعوة إلى ربه بالحكمة “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن …” (النحل:١٢٥)، فهل تعني الحكمة هنا السنة أيضا، أو الحلم والتعقل؟.

وخاطب الله تعالى نساء النبي عليه السلام قائلا: “واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة…” (الأحزاب:٣٤)، فهل كان النبي الكريم يتلو على زوجاته آيات القرآن الكريم، ويتلو عليهن أيضا السنة، بحسب هذا الافتراء؟

ثم إن باب عطاء الله مفتوح للبشر من غير الأنبياء “يُؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا …” (البقرة:٢٦٩)، فهل هذا العطاء مقصور أيضا على السنة؟

إن ما يرمي إليه أهل “الحديث” هو أن يجدوا سندا في القرآن الكريم، وإنْ افتراءً، يدعم قولهم بأن “السنة” جزء من الوحي. ومن هنا افتروا افتراء آخر حينما جعلوا آيات سورة “النجم” التي تقول “ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى” (النجم:٢-٤) شاملة من حيث المعنى لآيات القرآن التي كان ينزل بها الوحي، و”السنة” أيضا.

ولكن تدبر كلمات الكتاب وآياته يبيّن افتراءهم ويكشف لنا كم أساؤوا – بقصد أو بدون قصد – إلي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل.

٧ رمضان ٢٠١٨

“الدين” في القرآن

ليس في القرآن الكريم “أديان”.

لم يستخدم الكتاب المبين صيغة الجمع “أديان”، ولكنه استخدم صيغة المفرد “دين”.

وهذا أمر منطقي، إذ لا يمكن أن يصدر عن نبع واحد ماء متعدد المذاق. وكذلك الفيض الإلهي هو “دين” واحد من إله واحد، لكنه نزل في هيئة شرائع متعددة بحسب البيئة والزمن والقضية المهيمنة التي سعى الوحي إلى إصلاحها أو توجيه أنظار الناس إلى الخطأ فيها.

فالشريعة التي نزلت على موسى عليه السلام من “دين” الله تعالى الواحد ناسبت اليهود وما عرفوا به من نظرة مادية وتنطع في الدين وجرأة على الله وأنبيائه. وكذلك الشريعة التي نزلت في الإنجيل من “دين” الله ناسبت قوم عيسى عليه السلام الذين غلبتهم القسوة والمغالاة. وما جاء به شعيب عليه السلام، أصحاب مدين، خاطب سوأتهم في الغش وعدم الوفاء بالكيل.

ثم جاء القرآن الكريم فواجه قضية الشرك وعدم الإيمان بالبعث بكتاب يمتاز من غيره بلغة راقية محكمة لأنه نزل على قوم عرفوا بالشعر والخطابة.

“الدين” في القرآن إذًا واحد، لكن الشرائع متعددة.

ثلاث صيغ للكلمة

واستخدم القرآن الكريم كلمة “الدين” في ثلاث صيغ:

أولاها: صيغة الإضافة، أي “دين” + اسم آخر (مضاف إليه)

وهذا الاسم المضاف إليه إما لفظ الجلالة، الله تعالى (دين الله) “أفغير دين الله يبغون …” (آل عمران:٨٣)، وإما الحق (دين الحق) “… ولا يدينون دين الحق …” (التوبة:٢٩)، وإما القيِّمة (دين القيِّمة) “… وذلك دين القيمة” (البينة:٥)، أي دين الملة المستقيمة.

وثانيتهما: صيغة النكرة “دين”

ولم يستخدم الكتاب الكريم كلمة “دين” في صيغة النكرة، بلا تعريف أو إضافة، إلا مرة واحدة في سورة الكافرون “… لكم دينكم ولي دين” (٦). وكانت هذه السورة من أوائل السور نزولا، إذ إنها جاءت في المرتبة ١٨ من حيث ترتيب النزول. وكانت دعوة النبي عليه السلام في أول عهدها، وكان يريد أن يؤكد لقومه أنه لا يسعى إلى الصدام معهم، فهم لهم دينهم وهو له دينه. ولذلك استخدمت هنا صيغة النكرة “دين”، إذ لم تكن معالم دعوته قد اتضحت بعد.

وثالثتهما: صيغة التعريف “الدين”

وتستخدم هذه الصيغة، “الدين”، في سياقات لغوية ذات دلالة مهمة في دعوة النبي الكريم عليه السلام. نذكر من ذلك:

  • الدين لله: وليس لمعبود آخر أبدا ” … ويكون الدين لله …” (البقرة:١٩٣)، و “… ويكون الدين كله لله …” (الأنفال:٣٩)
  • إخلاص الدين لله: وهذا جانب روحاني يحتاج إلى مجاهدة للنفس ومكابدة. “قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين” (الزمر:١١)، و”فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون” (غافر:١٤)
  • لا إكراه في الدين: إذ إن الحرية الدينية مكفولة في القرآن الكريم “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي …” (البقرة:٢٥٦)
  • التفقه في الدين: وفي هذا حث على السفر من أجل طلب العلم بعامة والتفقه في الدين بخاصة “وما كان المِمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” (التوبة:١٢٢)
  • يوم الدين: إشارة إلى يوم الحساب “مالك يوم الدين” (الفاتحة:٤)، و”وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين” (الصافات:٢٠)
  • الدين عند الله الإسلام: “إن الدين عند الله الإسلام …” (آل عمران:١٩) والإسلام هنا وفي القرآن بعامة من الكلمات التي يساء فهمها لدى بعضنا، وسأتحدث عنها في يومية أخرى.

ويجدر هنا أن نشير إلى أن تعبير “يوم الدين” كان أكثر ورودا في معظمه في السور المكية التي نزلت في مراحل الدعوة الأولى. أما تعبير “إخلاص الدين لله” فورد أكثر ما ورد في سور مدنية في مراحل الدعوة الأخيرة.

١٠ رمضان ٢٠١٨

“الإسلام” في القرآن

مسلمون يهود ومسلمون نصارى!

خلصتُ في اليومية السابقة إلى أن هناك دينا واحدا أنزله الله تعالى للبشر، بيد أن لهذا الدين شرائع متعددة بحسب العصور والبيئات التي أرسل إليها الرسل.

وأنه من الخطأ أن نتحدث عن “ديانات” جاءت للبشر، والأصوب – في رأيي – أن نستخدم مصطلح “شرائع”: شريعة موسي عليه السلام، وشريعة عيسى عليه السلام، وشريعة محمد عليه السلام.

هذا الدين الواحد سماه الله تعالى “الإسلام”.

لكن مصطلح “الإسلام” يستخدم في عصرنا للدلالة على مفهوم آخر.

فما هو الإسلام اليوم؟

ربما يظن بعضنا أن هذا سؤال ساذج، لأن الإسلام معروف، وربما يقول إنه “الدين الذي أرسل به محمد عليه السلام”. وهذا ما نجده في عدد من المواقع الإسلامية، يقول أحدها:

“… هو الدين الذي جاء به النبي محمد المصطفى (صلى الله عليه وسلم) والشريعة التي ختم الله تعالى بها الرسالات السماوية، والإسلام هو الدين الخاتم الذي لا يقبل الله من أحد التدين بغيره” (مركز الإشعاع الإسلامي)

وهذا أيضا ما نجده في عدد من المعاجم، يقول واحد منها في تعريف الإسلام إنه:

“إظهار الخضوع والقبول لما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، والدين الذي جاء به …” (المعجم الوسيط)

والمقصود بهذا المفهوم المتداول في عصرنا هو شريعة النبي محمد عليه السلام. ومن هنا نشأ خلط كبير في أذهان كثير من المسلمين، خاصة حينما يقرؤون آيات القرآن الكريم وتواجههم كلمة “الإسلام” في بعضها. فإنهم يظنون عندها أن المراد منها هو الإشارة إلى الشريعة المحمدية.

تعالوا نقرأ معا الآيات التي وردت فيها كلمة “الإسلام”، وهي أربع:

  • “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” (آل عمران:١٩)
  • وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (آل عمران:٨٥)
  • “… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا… ” (المائدة:٣)
  • “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (الصف:٧)

فمن يقرأ هذه الآيات من مسلمي عصرنا ربما يفهم منها أن شريعة النبي محمد عليه السلام فقط هي المقصودة بـ”الدين عند الله”. أما غيرها من الشرائع فلا. وقد يبعث هذا الفهم الخاطئ في نفوس بعض مسلمي عصرنا قدرا من التيه والغرور لأن “دينهم” هو “الدين عند الله”.

دين الله

بيد أن تفهم الآيات الأربع السابقة والسياقات القرآنية التي وردت فيها يؤكد أن المقصود بكلمة “الإسلام” فيها هو دين الله الواحد ذو الشرائع المتعددة. وقد استخدم القرآن الكريم بالفعل تعبير “دين الله” في سياق ورد فيه أحد مشتقات “الإسلام” في قوله تعالى: “أفغير دين اللهيبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون” (آل عمران:٨٣)

وتنص الآية على أهم ملامح هذا الدين الإلهي الواحد، ألا وهي الانقياد والطاعة والانصياع لله تعالى، كما يوضحها الفعل “أسلم”.

وليس أفضل ممن خضع قلبه لله تعالى وانقادت جوارحه له بإحسان: “ومن أحسن ديناممن أسلم وجهه لله وهو محسن …” (النساء:١٢٥)

وسينعم هذا “المسلم” أمره وقلبه وجوارحه لله تعالى بأجر عند الله في الآخرة، وبالأمان النفسي في الدنيا “بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة:١١٢)

ولا عجب بعد هذا أن نقرأ في كتاب الله تعالى أن أنبياء الله تعالى كلهم كانوا مسلمين، وكانوا يدعون أقوامهم إلى الإسلام، الدين الواحد الذي بعثهم به الله.

فهذا نوح عليه السلام يقول متحدثا مع قومه “فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين” (يونس:٧٢)

وهذه وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لأبنائهم “ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون” (البقرة:١٣٢)

وهذه أيضا دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام “وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل رينا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك …” (البقرة:١٢٧)

وهذا يعقوب عليه السلام مرة أخرى قبيل موته يشدد الوصية على أولاده “أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون” (البقرة:١٣٣)

وهؤلاء حواريو عيسى عليه السلام “فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون” (آل عمران:٥٢)

وهذه بلقيس ملكة سبأ تعلن إسلامها مع سليمان عليه السلام ” … قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمانلله رب العالمين” (النمل:٤٤)

وإذا عدنا مرة أخرى إلى الآيات التي وردت فيها كلمة “الإسلام”:

  • “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ …”
  • وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ…”
  • وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا…”

أدركنا أن مفهوم المصطلح فيها يشير إلى الدين الواحد الذي بعث به الله أنبياءه، وليس مقصورا أبدا على الشريعة المحمدية التي جاء بها نبينا الكريم عليه السلام، بعد هؤلاء الأنبياء والرسل. هذا الدين الوحيد هو الذي جاء به موسي عليه السلام إلى قومه، ومن آمن منهم به فهو مسلم يهودي. وجاء به عيسى عليه السلام قومه، ومن آمن منهم معه فهو مسلم نصراني. ثم بعث الله محمدا عليه السلام به إلى قومه، فمن آمن معه منهم به فهم مسلم على الشريعة المحمدية.

دين البشر كلهم واحد، ولا مدعاة للاختلاف أو الخلاف، وعلينا أن نترك تلك الخلافات إلى الله تعالى ليحكم فيها يوم القيامة “الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون” (الحج:٦٩) حتى لا نعكر صفو الوئام الاجتماعي بيننا جميعا.

١٣ رمضان ٢٠١٨

“صواع الملك”

أريد أن أقف اليوم عند جزء من سورة يوسف عليه السلام وحكاية “صواع” الملك.

والصواع هو القدح الذي كان يشرب به الملك، وهو أيضا قدح الكيل الذي يكال به. وكنا في بعض مدن مصر نستخدم هذا المكيال حتى وقت غير بعيد، وربما لا يزال مستخدما في بعض القرى.

وتبين حكاية “صواع الملك” رغبة يوسف عليه السلام في الإبقاء على أخيه بنيامين الذي جاء مع أخوته في رحلتهم الثانية إلى مصر. ولذلك افتعل واقعة الصواع، فوضع قدح الملك، الذي كان من فضة بحسب رواية التوراة، في وعاء بنيامين بعدما كال لهم ما جاءوا يبتاعون من غلال وحبوب. وبعد أن تركوا مجلس يوسف عليه السلام أعلن القصر عن السرقة، ووجه الاتهام إلى القافلة التي كانت تضم أبناء يعقوب عليه السلام.

“فَلَمَّاجَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ. قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ. قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ” (يوسف:٧٠-٧٢)

ودافع إخوة يوسف عن أنفسهم، نافين تهمة السرقة:

“قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَاكُنَّا سَارِقِينَ” (يوسف:٧٣)

لكن رجال القصر أرادوا استدراجهم لأنهم يعلمون أن “الصواع” في وعاء بنيامين، وأرادوا أن يكونوا منصفين معهم ويعاملوهم بحسب شريعتهم هم، في معاملة السارق:

“قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ. قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ” (يوسف:٧٤-٧٥)

كانت شريعة يعقوب عليه السلام، وهو نبي من أنبياء الله تعالى، أن من يسرق يستعبد. وكان يوسف عليه السلام على علم بها، وسعى إلى تطبيقها مع أخيه بنيامين حتى يبقيه إلى جانبه. يقول سفر التكوين في هذا:

“فقال: نعم، الآن بحسب كلامكم هكذا يكون الذي يوجد معه يكون لي عبدا، وأما أنتم فتكونون أبرياء” (١٠)

“… الرجل الذي وجد الطاس في يده يكون لي عبدا، وأما أنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم” (١٧)

أما شريعة ملك مصر فكانت – بحسب المرويات – ضرب السارق وتغريمه ضعف ما سرق (صفوة التفاسير)

ولما سمح أخوة يوسف بتفتيش أوعيتهم، جيء بهم إلى يوسف ليتم تطبيق الحكم. وبدأ يوسف عليه السلام في تفتيش أوعيتهم بدءا بأكبرهم حتى وصل إلى أصغرهم، وأراهم أن “الصواع” به:

“فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” (يوسف:٧٦)

لم ترو حكاية “صواع” الملك، ضمن قصة يوسف عليه السلام، وكغيرها من قصص القرآن الكريم، اعتباطا. بل كان وراءها، في رأيي، درس مهم لنا في باب العقوبات، واختلاف العقوبة باختلاف الشريعة.

فقد كانت عقوبة السارق في مصر القديمة – بحسب ما روي – هي أن يجازى بدفع ضعف ما سرق وقد يتعرض للضرب أيضا. أما عقوبة السارق في شريعة يعقوب عليه السلام، فكانت الاسترقاق، بيد أنا لا نعلم مدة استرقاق السارق وهل هي مؤقتة ومحدودة أو مدى الحياة.

وفي ضوء هذا سننظر في اليومية التالية إلى عقوبة السارق في القرآن الكريم.

يوميات صائم ١٥ رمضان ٢٠١٨

مفهوم آخر لحد السرقة – ”فاقطعوا أيديهما“

في اليومية السابقة تناولنا قصة ”صواع“ الملك التي حاكها يوسف عليه السلام حتى يبقي على أخيه بنيامين إلى جانبه خوفا عليه من إخوته. وعرفنا من خلالها كيف أن يوسف كان مخيرا بين شريعتين يطبق إحداهما على ”سارق“ الصواع.

وآثر يوسف عليه السلام أن يحاكم الجاني بحسب شريعة أبيه. وكان حد السرقة في شريعة يعقوب عليه السلام هو استرقاق السارق. وهذا ما كفل ليوسف عليه السلام الحفاظ على أخيه.

ولم يطبق يوسف ما كان معروفا لدى المصريين آنذاك بالنسبة إلى السارق، وهو أن يجازى بدفع ضعف ما سرق وقد يضرب أيضا.

وفي كلتا الشريعتين لا تستمر العقوبة إلا إلى مدة محدودة. فقد كانت شريعة بني إسرائيل هي الاسترقاق بحد أقصى سبع سنوات، أو حتى يسدد السارق قيمة ما سرق، بحسب ما أورده الباحث البريطاني ستيڤ رود في دراسته بالإنجليزية عن (القانون الجنائي في إسرائيل القديمة).

والآن نأتي إلى حد السرقة في القرآن الكريم.

وردت الآيات الخاصة بهذا الحد في سورة المائدة. في قوله تعالى:

“وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (المائدة:38)

وفهم معظم المفسرين أن “فاقطعوا أيديهما” تعني بتر يد السارق أو السارقة اليمنى. يقول ابن كثير:

”يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يدالسارق والسارقة، وروى الثوري عن… أن ابن مسعود كان يقرؤها: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما) وهذه قراءة شاذة، وإن كان الحكم عندجميع العلماء موافقاً لها… وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية، فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أخر …“

ولا أحسب أن هذه هي القراءة الوحيدة للآية الكريمة، إذ يمكن أن تُقرأ وتُفهم بطريقة أخرى – كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين – في ضوء اللغة، والسياقات القرآنية ونظام العقوبات التي جاء بها الكتاب الكريم.

أولا اللغة:

  • استخدمت الآية الكريمة فعل “اقطعوا”، وليس المقصود بالقطع “البتر”، لأن من بين معانيها المنع، كما نقول عن ”قطع الطريق وقطع السبيل“.
  • واستخدمت أيضا صيغة الجمع لـ”يد” وهي “أيدي”، فقالت “فاقطعوا أيديهما”. وليس المقصود – بحسب المعني الحرفي – بتر يدي السارق وبتر يدي السارقة فيكون المجموع أربع أيدٍ. ولذلك أقول إن هذا يرجح أن المقصود من تعبير “اقطعوا أيديهما” ليس هو المعنى الحرفي، بل المعنى المجازي، وهو منعهم من السرقة وممارستها إما بالسجن، مثلا، وإما بتكليفهم بأعمال تدر دخلا عليهم يستطيعون من خلاله رد قيمة المسروق.
  • اختيار الآية الكريمة لصيغة “سارق” و “سارقة”، أي صيغة اسم الفاعل، ذو دلالة كبيرة. فصيغة اسم الفاعل تدل على دوام الصفة. إذ إننا ننعت من شغله الشاغل الكتابة بـ”كاتب”، حتى أن نحاة الكوفة كان يطلقون على اسم الفاعل مصطلح “الفعل الدائم” منتبهين إلى صفة الديمومة فيه. ومن هنا فإن “السارق” و”السارقة” أي من فعلوا هذا الفعل غير مرة، وليس من سرق مرة واحدة.
  • ثم إن في استخدام الآية لتعبير “جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ”، إيحاء بأن الجزاء من جنس العمل، وهذا هو عقاب الله تعالى، أي تسديد ما سرق.

ثانيا السياقات القرآنية:

  • مما يعزز هذا المعنى المجازي أيضا في فهم الآية الكريمة، ما تلاها في الآية التالية لها مباشرة من كلام الله تعالى الذي يفسح المجال أمام السارقين للتوبة. والتوبة تعني الإياب والندم على ما فعل، أي قبل تنفيذ العقوبة فيه. يقول الله سبحانه:

“فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (المائدة:39)

  • وردت إشارة في موضع آخر من القرآن الكريم لتقطيع اليد، قد تلقي ضوءا على معنى “فاقطعوا أيديهما”. يقول الله تعالى:

“فَلَمَّاسَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ” (يوسف:٣١)

في إشارة إلى قصة امرأة العزيز ودعوتها لنسوة المدينة اللاتي لُمنها في شغفها بيوسف. وهنا يجمع المفسرون أنفسهم على أن معنى “قطّعن أيديهن” أي جرحنها.

  • وكذلك ورد استخدام الأيدي بمعناها المجازي في مواضع أخرى من الكتاب الكريم. نذكر منها هنا “يد الله فوق أيديهم” التي جاءت في سورة الفتح عند الحديث عن مبايعة المسلمين للرسول عليه السلام. وعن معناها يقول ابن كثير نفسه مبتعدا عن المعنى الحرفي لليد، ومُؤْثرا المعنى المجازي “أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم”

ثالثا نظام العقوبات القرآني:

  • من يتدبر القرآن الكريم يدرك أن نظام العقوبات فيه ينبني على عدة أسس، منها:

– القِصاص، وهو أن يوقع على الجاني مثل ما جنى، “وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ” (النحل:١٢٦). وهذا يرجح تبني المعنى المجازي لقطع اليد

– ألا يتحمل شخص آخر وزر الجاني “ولا تزرُ وازرة وزر أخرى” (فاطر:١٨). وهذا أيضا يرجح الأخذ بالمعنى المجازي، لأن الأخذ بالمعنى الحرفي فيه جناية على أبناء السارق ومن يعول

– ليس في نظام العقوبات عقوبة يستمر أثرها مدى الحياة، إلا في القتل بطبيعة الحال. أما الزنا مثلا فعقوبته محدودة المدة، وهي الجلد. وهذا أيضا يرجح الأخذ بالمعنى المجازي. إذ إن بتر اليد – بغض النظر عن موضع البتر، وبغض النظر عن قيمة المسروق التي يجب معها تطبيق الحد، وهما أمران اختلف فيهما الفقهاء والمفسرون بالرغم من أن هذا حد من حدود الله تعالى – عقوبة تظل مستمرة طيلة حياة من طُبق عليه الحد. ويدل هذا على أن الأخذ بالمعنى الحرفي فيه مخالفة لروح نظام العقوبات في القرآن الكريم.

– وهذا هو ما ورد في شريعة يعقوب عليه السلام التي تبناها يوسف وطبقها على أخيه بنيامين، كما بينت في فقرات سابقة.

– وأخيرا فإن المبدأ الأساسي في القرآن الكريم هو العدل. كما أن من صفات الله التي نكررها كل يوم في صلواتنا عند قراءة فاتحة الكتاب الرحمة. وهذان الأمران يرجحان أيضا الأخذ بالمعنى المجازي لعبارة “فاقطعوا أيديهما”، والابتعاد عن المعنى الحرفي.

وهذه وجهة نظر، فليقبلها من أراد، وينأى عنها بنفسه من رغب.

١٩ رمضان ٢٠١٨

“أهل الذكر” في القرآن ليسوا العلماء

ليس في الإسلام كهنوت، وليس فيه وساطة بين العباد وربهم. وليس فيه طبقة “رجال دين” يمتازون من غيرهم، فالطريق إلى الله تعالى – عبادة وتقربا – سبيل مفتوحة أمام المسلمين جميعا. وأبواب الدعاء والتوبة والمغفرة والإياب مُشرعة أمام كل منيب.

ولم يستخدم القرآن الكريم تعبير “رجال الدين”، أو “علماء الدين”. لكنه حث المسلمين على “التفقه في الدين”، كما أشرت في يومية سابقة.

وقد وردت كلمة “العلماء” في القرآن مرتين، مضافة في الأولى إلى بني إسرائيل:

        “أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ” (الشعراء:١٩٧)

إشارة إلى أن القرآن ورد ذكره في كتب الأولين، ويعلم ذلك علماء بني إسرائيل، وإن أنكروا.

أما الثانية فجاءت مطلقة الدلالة:

“وَمِن النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”(فاطر:٢٨)

والكلمة وردت هنا في سياق تدبر آيات الله في اختلاف ألوان الثمر، وإن كان يسقى بماء واحد، واختلاف ألوان الجبال، واختلاف ألوان البشر والدواب كذلك، مما قد لا يدركه إلا من درس وتبحر في العلوم.

لكن بعض المفسرين أبى إلا أن يقحم “العلماء” – بحسب المفهوم الديني للكلمة – في تفسيرهم لتعبير “أهل الذكر”، الذي ورد مرتين في القرآن الكريم.

الأولى:

“وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” (النحل:٤٣)

وسياق الآية – وهي من سورة مكية – يتعلق برفض أهل مكة لرسالة النبي الكريم، لأنهم كانوا يتوقعون أن يرسل الله إليهم ملَكا وليس بشرا. ولذلك تحيلهم الآية إلى ”أهل الكتاب“ الذين عرفوا من خلال كتابهم عددا من الأنبياء، وكلهم كانوا رجالا بشرا. أما الآية الثانية:

“وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ” (الأنبياء:٧)

وتلك الآية أيضا مكية، وسياقها هو نفسه سياق الآية السابقة. ومن هنا نرى أن إحالة القرآن قريشا إلى ”أهل الذكر“، أي ”أهل الكتاب“ يتناسب وسياق الآيتين. فقد كانت الرسالة في بدئها ولم يكن هناك بعد ”علماء“ بين من اعتنقوا الدين الجديد حتى يدعي بعض المفسرين أن المقصود بـ”أهل الذكر“ هم علماء المسلمين.

ولكن ماذا قال المفسرون:

ذهب بعض المفسرين، مثل ابن كثير، إلى أن المقصود هم اليهود والنصارى “أي: اسألوا أهل العلم من الأمم؛كاليهود والنصارى وسائر الطوائف”.

أما الطبري فلم يكن قوله قاطعا. إذ يقول بأنهم “أهل القرآن”، وفي إشارة أخرى بأنهم “أهل البيت”.

“فـاسألوا أهل الكتب من التوراة والإنـجيـل … وقـيـل: أهلُ الذكر: أهلُ القرآن … حدثنـي أحمد بن مـحمد الطوسيّ … لـمانزلت: (فـاسْأَلُوا أهْلَ الذّكْرِ إنْ كُنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ) قال علـيّ: نـحن أهل الذِّكر.”

وهذا الرأي الأخير هو ما تقول به الشيعة:

“أقوال هؤلاء العلماء كلها أوجلها تؤكد على أن المراد من الآية هم( أهل البيت) ((ع))…والشيعة قديما وحديثا يستدلون بهذه الآية…على أن المراد منها هم أهل بيت النبي (ص) لا غيرهم لأنهم معصومون، وعندهم علم كل شيء من الله تعالى وفيهم وصية الرسول محمد (ص) … فكيف يأتي اليوم فقهاء آخر الزمان ويحملوها على مطلق العلماء ولا يخصوها بالعترة الطاهرة (ع). (موقع مدرسة وحسينية أنصار الإمام المهدي)

وأصبحت آيتا “أهل الذكر” تترددان في أحاديث وخطب كثيرة في وسائل الإعلام باعتبارهما إشارة قرآنية إلى “العلماء” أو “علماء الأمة”، دون أن يذكر المراد القرآني منها، وهو أنهم “أهل الكتاب”.

ويتذرع بعض المفسرين بأن “الذكر” من أسماء القرآن، ولذلك فـ”أهل الذكر” هم أهل القرآن. بيد أن “الذكر” ليس مقصورا في القرآن على الكتاب الذي أنزل على نبينا الكريم فحسب، بل يشير أيضا إلى التوراة:

“وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ” (الأنبياء:١٠٥)

لكن الأمر الأشد خطورة حقا هو فتح باب قاعدة من قواعد أصول الفقه تقول إن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب“. فإذا كانت آيتا “أهل الذكر” تشيران أصلا إلى “أهل الكتاب”، فإنهما من حيث “عموم اللفظ” يمكن استخدامهما للإشارة إلى كل من لديه علم. وهذا بعينه ما ورد في موقع (إسلام ويب)، عند التعرض للآيتين الكريمتين:

”وأهل الذكر هنا هم: أهل الكتاب من الأمم السابقة الذين بعث الله إليهم الرسل، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كماهو مقرر في أصول الفقه، ولهذا قال ابن عطية: وأهل الذكر عام في كل من يعزى إليه علم. فأهل الذكر هم أهل الاختصاص في كل فن…“ (إسلام ويب)

ومن هذا الباب يدخل من يشاء ممن درس أو حفظ القرآن الكريم أو بعضه، أو درس وحفظ متنا من هنا أو هناك، أو فتحت أمامه مصاريع قنوات فضائية لا رقيب على محتواها.

ومن هذا الباب يأتينا التشدد الذي مازلنا نعاني منه، لأنه أصلا يعشش في كثير من صفحات المتون الفقهية القديمة التي ربما واءمت عصورها وبيئاتها، لكنها لم تعد مناسبة لنا، وينبغي لنا غربلتها بحكمة وحنكة لنأخذ منها ما ينفع الناس ونطرح غيره.

ومن هذا الباب أيضا تكونت لدينا طبقة كهنوت تريد الحفاظ على سلطانها بشتى السبل، حتى وإن افتأتت بآرائها على القرآن ذاته.

٢١ رمضان ٢٠١٨

”الصراط“ وشطحات الرواة

يكرر المصلون كل يوم في صلواتهم طلب الهداية من الله تعالى إلى “الصراط المستقيم”:

”اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ“ (الفاتحة:٦)

”صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ“ (الفاتحة:٧)

ولا أحسب أن معنى ”الصراط“ يستعصي على قارئ القرآن الكريم، إذ إن السياق القرآني يوضحه. فهو ”الطريق“، وقال بعض المفسرين إنه الإسلام، أو القرآن، أو الدين، وذهب بعضهم إلى أنه الرسول عليه السلام.

ومما يساعد القارئ على فهم معناه أيضا، تلك الصفات التي ارتبطت به في كتابنا العزيز.

فهو ”صراط مستقيم“:

  • ”إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ“ (آل عمران:٥١)

وهو أيضا ينسب إلى صفة من صفات الله تعالى، ”صراط الحميد“:

  • ”وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ“ (الحج:٢٤)
  • ”وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ“ (سبأ:٦)

وينسب إلى الله تعالى:

  • ”صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ“ (الشورى:٥٣)

ويوصف بالاستواء:

  • ”قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى“ (طه:١٣٥)

وتستخدم الكلمة أيضا منفردة:

  • ”وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ“ (يس:٦٦)
  • ”إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ“ (ص:٢٢)

ولكنها وردت أيضا متصلة بالجحيم لتدلنا الآيات على وجود طريقين، أحدهما ”سواء“ والآخر فيه ”اعوجاج“:

  • ”مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ“ (الصافات:٢٣)

على الرغم من هذا الوضوح يجنح بعض المسلمين إلى شطحات خيالية يرهبون بها الناس. إذ جاء في إجابة على موقع (إسلام ويب)، ردا على السؤال التالي ”هل يوجد صراط يوم القيامة؟“ ما يلي:

”الصراط حق ثابت دلت عليه نصوص الوحي الكثيرة، ‏وأجمعت الأمة عليه“ (إسلام ويب:8056)

وتوحي بداية الإجابة بأن الحديث هنا عن “صراط” مادي. فما هو ياترى؟

”هو الجسر الذي ينصب على متن جنهم يوم القيامة، بعدما ينفض ‏الجمع، ويتبع كل أحد معبوده، … فيضرب الصراط على متن جهنم، ويمر عليه الناس على حسب أعمالهم“ (إسلام ويب:8056)

لكن ما هو الدليل وراء هذا الخيال السينمائي الجامح، الذي لم نر فيما سبق من قول سندا له في آيات الله تعالى؟

”دلت على كل ذلك أحاديث كثيرة منها: … ‏في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الطويل في رؤية المؤمنين ‏لربهم: ثم يؤتى بالجسر بين ظهري جهنم، قلنا يا رسول الله: وما الجسر؟ قال: مَدْحَضَة ‏مَزِلَّة عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها: ‏السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج ‏مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحباً….“ (إسلام ويب:8056)

وهذا واحد من أحاديث كثيرة مكرورة عن هذا الجسر الخيالي المفزع.

ويجنح الرواة أكثر في شططهم فيدعون أن لشطحهم سندا في القرآن الكريم:

”المرور على الصراط هو الورود المذكور في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ‏ربك حتما مقضياً) كما فسره عبد الله بن مسعود وغيره بذلك، وروي مرفوعاً.“ (إسلام ويب:8056)

والحديث في الآية المذكورة عن جهنم، ولا علاقة له ألبتة بما توهمه الرواة. وتكمن خطورة مثل تلك المرويات في أن بعض الناس يتداولونها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون وعي أو إدراك لمخالفتها للقرآن الكريم.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.