تعريب العلوم أولى من “أسلمتها”

تعريب العلوم

لا أدري لماذا أغفل بعض الكتاب في اليوم العالمي للغة العربية المحور الذي اختارته منظمة اليونسكو لاحتفال هذا العام، وهو اللغة العربية والعلوم، بالرغم مما قد يثيره هذا المحور من قضايا أساسية تتعلق بالعربية.

وقد يكون الدافع وراء الإغفال، ما اعتدنا عليه في أي احتفال من كيل المدائح والثناء، وفتح كشوف المناقب والمحاسن للمحتفل به. ومن هنا ركز بَعضُنَا على محاسن العربية، وأنها لغة القرآن الكريم، وربما لغة الخطاب في الجنة، بحسب الأثر، كما يقول البعض.

وكنت آمل أن أقرأ تناولا عميقا للعلاقة بين العربية والعلوم. وهذه العلاقة في رأيي تثير ثلاث قضايا.

أولاها: إلى أي حد يولي العرب والمهتمون بشؤون العربية اهتماما بمسألة تعريب العلوم؟ وهل يتكافأ هذا الاهتمام مع الحديث المعاد المكرور عما أنجزه “الأسلاف والأجداد” من ترجمات لعلوم الأمم الأخرى؟ لا أحسب ذلك. وجهد أجدادنا ذلك كان يتم دون أن يكبله قيد من هنا أو هناك. وقد خاضوا تجربة أخرى في نقلهم الجريء للمصطلحات في صيغ جديدة، لم يروا فيها أبدا “غزوا أجنبيا”، أو “هجوما على الإسلام”.
اهتمامنا بالحديث عما فعلوه، لا يعفينا نحن أبناء اليوم من بذل الجهد مضاعفا، فأين نحن؟

ثانيتها: إلى أي حد يتسم جهدنا في تعريب العلوم اليوم بالدقة؟ وهذا سؤال مهم جدا، إذ إن عدم الدقة في الترجمة أو التعريب، ينبني عليه سوء في فهم المفاهيم والأفكار، ويقودنا هذا – من ثم – إلى بلبلة الفكر وعدم وضوح القضايا في أذهاننا، مما يؤدي بلا مبالغة إلى تأخرنا في الإسهام في مجالات العلوم المختلفة.
ما نفعله اليوم هو أن نترك الأمور لوسائل الإعلام التي تتابع يوميا الجديد في مجالات العلوم المختلفة، ليتولى صحفيوها ومحرروها – كل بحسب جهده – الترجمة التي تأتي في معظمها “حرفية”، و”أسيرة” اللغة المنقول عنها، ولا أقول التعريب، لأن هؤلاء المحررين محكومون بوقت معين، ومساحة محددة. ويكتب لهذا الجهد الانتشار، ثم يشيع، ويصعب بعد ذلك التصحيح أو التصويب، إن كان لمجامعنا اللغوية من جهد، لأنه يأتي عادة متأخرا.

ثالثتها: يدور حديث منذ فترة عن “أسلمة” المعرفة، و”أسلمة” العلوم. ويحظى هذا الحديث باهتمام كبير لأنه مرتبط بالدِّين. وأنا أظن أن “تعريب” العلوم أولى من أسلمتها. فالعلوم في رأيي محايدة، لأنها مبنية في معظمها على الحقائق. ولكن تلك العلوم ذاتها يمكن أن توظف لخدمة أغراض ثقافية، أو فكرية أو أيديولوجية مختلفة بحسب من يستخدمها من علماء وبحسب اتجاهاتهم وأيديولوجياتهم. فمهمة التعريب تأتي أولا، وينبغي أن نصرف فيها الوقت، وأن ننفق عليها المال، حتى نستطيع من بعد الإسهام في كل علم بقدر جهدنا. كما أننا ينبغي أن ندرس أبناءنا العلوم كما هي، ودون توجيه معين، ولا يتأتى ذلك إلا بالتعريب الدقيق الجيد.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.