مسألة ”عذاب القبر“ ونهجنا الفكري

حقيقة "عذاب القبر"

تابعت قضية ”عذاب القبر“ التي أثارها الأستاذ إبراهيم عيسى في برنامجه التليفزيوني، وما أعقبها من ردود. غير أن ما لفت انتباهي هو منهجنا في معالجة مثل تلك القضايا، خاصة ما كان منها ذا صلة بالدين.

وعلي أن أعترف أنني كنت، لزمن غير بعيد، ممن لا يفكرون في هذه المسألة من حيث صحتها أو عدم صحتها، إلى أن كنت في زيارة إلى الأردن قبل نحو عشر سنوات وعثرت على كتاب في إحدى مكتبات عمّان عنوانه ”حقيقة عذاب القبر“ لجواد موسى محمد عفانة. وأكاد أقول إنني التهمت الكتاب التهاما، حتى انتهيت منه، وانتهت معه من عقلي تلك الأسطورة الخرافية المخالفة للقرآن الكريم، ولمبادئ العقيدة الإسلامية.

ولذلك أشكر إبراهيم عيسى على إثارته للمسألة، بالرغم من اعتراض بعض الكتاب على توقيت إثارتها في الظروف التي تمر بها بلادنا، إذ إننا فعلا بحاجة إلى تجديد خطابنا الديني، ونفض ما علق به من أساطير وأوهام وأفكار وأعراف، يظن كثير منا أنها جزء من الدين.

يبني الرافضون لمسألة ”عذاب القبر“ رفضهم على معتقد أساسي، وهو أن الله – بحسب ما تعلمنا آياته في القرآن الكريم – سيبعث الناس جميعا يوم القيامة، ثم يحاسبهم بعد ذلك، كل بحسب عمله. ولذلك لا يمكن قبول فكرة وجود أي عذاب قبل يوم الحساب. 

هذا المعتقد، أي الحساب أولا ثم الثواب أو العقاب من بعد، مبدأ من مبادئ العقيدة الإسلامية، لأن الله سبحانه عادل، وهذا هو أيضا منطق آي القرآن الكريم.

كنت أتوقع أن يكون هذا المبدأ العقدي الأساسي، هو مدار نقاش من انتقدوا إبراهيم عيسى، لأنه لب القضية برمتها، بيد أن هذا لم يحدث. بل لف جل المنتقدين وداروا حول فكرة مكرورة معادة، وهي أن ”عذاب القبر ثابت بالقرآن والسنة والإجماع“، وأن مخالفة ذلك يبلغ بصاحبه حد الكفر، ليصادروا على حرية الاجتهاد، وإعمال العقل، وعلى الآراء الأخرى المخالفة.

وأحسب أن المشكلة تكمن في ثقافتنا، ونهجنا الفكري. إذ إن ثقافتنا – في أساسها – لا تزال ثقافة سمعية، نقلية. فنحن نعلّم أبناءنا ونربيهم على التلقي والحفظ والاستظهار، والاستشهاد، دون أن ندربهم على إعمال العقل، والتفكير فيما يُعرض عليهم.

وتتسم ثقافتنا كذلك باحترام الأوائل احتراما قد يبلغ حد التقديس، وإسباغ هذا التقديس على نتاجهم العلمي والفكري، خاصة من حملوا لواء ”الحديث“، أو ما يسميه بعضنا ”السنة“، فيصبح مما يُحبّذ نقله، لكن يُستهجن عرضه على العقل أو تفنيده.

ولذلك تجد السهام مشهرة في وجه كل من يحاول إعمال العقل فيما ورد إلينا من موروث، أو من يسعى إلى عرض مسألة من مسائله على المنطق.

وبلغ الأمر ببعض شيوخنا حدا قالوا معه – بلا وعي أو حنكة – إن ”السنة“ وحي من الله تعالى، مثلها في ذلك مثل القرآن الكريم، ليصادروا على حرية التفكير والاجتهاد، متغافلين عما تعرضت له الأحاديث من وضع واختلاق.

وتوغلت في تلك الثقافة النقلية أساطير وأوهام، خاصة من باب ”الأحاديث“ المنسوبة للنبي عليه السلام.

وقد تجرأ الوضّاعون على وضع أحاديث ينتصرون بها لهدف أو لآخر، لأنهم لم يستطيعوا مس القرآن الكريم. ومن هذا الباب استخدم بنو أمية – في حربهم على الإمام علي بن أبي طالب، وحتى على الخارجين عليه – سلاح ”الأحاديث“ في مهاجمة الخوارج ورميهم بالكفر لأنهم نفوا وجود عذاب القبر، الذي صنفه فقهاء السلطان آنذاك تحت باب الغيبيات التي ينبغي الإيمان بها وكفى. 

ومن هذا الباب وردنا ما وردنا من أحاديث ”عذاب القبر“ المخالفة للقرآن الكريم، وللعقيدة الإسلامية، ولصفة من صفات الله تعالى، وهي صفة العدل، إذ كيف يُعاقب أو يُعذب سبحانه الناس قبل أن يُحاسبهم؟

ولماذا لا يكثر شيوخنا إلا من الكلام عن ”عذاب القبر“، ولا يثلجون صدور مريديهم، ممن يصدقونهم، بالحديث عن ”نعيم القبر“، بالقدر ذاته؟

ولماذا يتعجل الله تعالى عذاب الناس في الدنيا، قبل يوم الحساب، فيبدأه فور دفنهم في القبور؟

أهذه هي صورة الله – سبحانه وتعالى وحاشاه – في أذهانكم؟

هذه صورة أدعها تعشش في أدمغتكم، وأكتفي أنا بقوله تعالى ”عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء“.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.