فيسبوك وتجربة معه

فيسبوك

فيسبوك ظاهرة غير عادية، فهو مثل السوق الذي يكتظ بالمحال ونوافذ عرض البضائع، بألف لون ولون. ويعج بالمتسوقين، من كل عمر، وكل صوب، وكل مشرب. أتي بعضهم للفرجة، وجاء آخرون للبيع، وقدم كثيرون للشراء. بضاعة أحدهم هراء وهزر، وتجارة آخر فكر في غير موطنه، وحِمل ثالث غثاء لاكته أسنان وضروس من قبل.

يقول بعضهم إنه ناد اجتماعي يلتقي فيه الناس للتعارف والدردشة، ومعظم الحديث يضيع وسط الضوضاء، ولا يبقى منه إلا القليل. ويميل رواد النادي في مثل تلك التجمعات إلى المجاملة، فيعلنون بحماسة عن حب ما قد لا يحبون، ويجارون الآخرين فيما يقولون بدافع الحياء الاجتماعي.

لقد خضت تجربة عرفت منها وتعلمت الكثير. فقد كتبت ذات مرة مقالة تحدثت فيها عن قضية ذات صلة بالدين، وأدليت فيها برأيي صريحا واضحا – كعادتي – في القضية، وكُتب للمقالة أن تُنشر في أحد المواقع المعروفة. ودفعني حب الاستطلاع – من أجل إتمام التجربة – إلى متابعة عدد من ”أحبوا“ المقالة على صفحة ذلك الموقع على فيسبوك، وعدد التعليقات ومحتواها. وتابعت ذلك على مدى ثلاثة أيام.

أبدى ألف (١٠٠٠) شخص حبهم للمقالة. وحازت على أكثر من مئتي (٢٠٠) تعليق.

وهنا كانت المفاجأة: فالناس على فيسبوك لا يقرؤون. وهذه هي الحقيقة المرة التي كشفت التعليقات عنها. فمتصفحو فيسبوك – في معظمهم – لا يقرؤون إلا العنوان، وربما أسطرا قليلة من أول المقالة، أو شيئا من هنا وشيئا من هناك، ثم يصدرون حكمهم.

وقراء فيسبوك يقرؤون ما يكون بداخل رؤوسهم، وليس ما سطره هذا الكاتب أو ذاك، ثم يصدرون حكمهم. وتبين أحكامهم – كما رأيت من التعليقات – أنهم ينتقدون الكاتب لشيء لم يقله، بل لشيء في أذهانهم. وأحيانا ينتقدونه مدافعين عن القضية ذاتها التي يدافع الكاتب عنها، ولكنهم لم يقرؤوا مقالته حتى نهايتها، وربما لم يفهموا ما يقصده. 

وبعضهم في تعليقاتهم يتذرع بالسباب وقبيح اللفظ، ويهيل التهم للموقع الذي حمل هذه المقالة أو تلك، بالعمالة لتلك الجهة أو لغيرها.  

ولذلك، فلا ينبغي أن نبتهج كثيرا بعدد المعبرين عن ”حبهم“ على فيسبوك، ولا أن نبتئس بقلتهم. ولا ينبغي أن نعبأ بالتعليقات التي تفضح كاتبيها وليس لها صلة بما كُتب. وهذه التعليقات أيضا تكشف عورتنا، ألا وهي أننا – ثلة كبيرة منا – لا نقرأ.   

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.