رسالة إلى حفيدتي: “لارا”

رسالة إلى حفيدتي

رساالْيَوْمَ الحادي عشر من يوليو ٢٠١٧ حلت على أسرتنا الصغيرة ضيفة جديدة، هي حفيدتي لارا. وشاء الله تعالى أن تكوني – حفيدتي العزيزة – من بنات شهر يوليو، وهو الشهر نفسه الذي ولد جدك فيه. وهذا ترتيب لا دخل لنا به. لكنه يخلق منذ يومك الأول هنا رابطا بيني وبينك، وهو برج السرطان، وإن كنت لا أعبأ كثيرا بمثل هذا في حياتي.

ومعذرة حفيدتي لأني لم أشهد لحظة قدومك، ولَم أكن بين المستقبلين الذين ملأت الفرحة قلوبهم عند هبوطك من بين حنايا أمك، بنيتي، التي لم أشهد أيضا من أسف لحظة مولدها. لكن السعادة بقدومك غمرتني وملأت علىّ أرجاء المكان هنا في لندن، كما غمرتني فرحة تلقي نبأ مولد أمك.

لقد أضفتِ حفيدتي جيلا ثالثا إلى أسرتنا، فأهلا بك.

ولقد عزمتُ حفيدتي على أن أكتب لك بعض وريقات تضيء لك معالم الطريق في حياتك. وكانت تلك أمنيتي عندما بدأت بنيتي مشروع زواجها من أبيك. كنت أودّ أن أقدم لها في عرسها كتابا يحمل خبرة أبيها في الحياة، لكني لم أستطع. وها قد حانت الفرصة – والحمد لله تعالي – لأحقق أمنيتي.

وآمل أن أوفق فيما عزمت عليه، بيد أني لا أعلم ماذا تخبئه الأيام لنا، غير أني سأسعى حتى أهديك الكتاب في عيد ميلادك عندما تتمكنين من قراءة العربية وتعين ما تقرئين.

وسوف تجدين في الصفحات التالية قسطا من حياة جدك، وحياة أمك وبعض تجارب الحياة التي تعلمتها عبر سني عمري أهديها إليك باقة ورد، حفيدتي الحبيبة.

وأهلا بك

٢

أسماء وأفعال

حفيدتي …

قبل ولادتك كان أبواك يعلمان منذ أسابيع، بفضل التقدم الذي أحرزته العلوم المختلفة، أنك “بنت”. ولذلك استعدا لقدومك باسم جميل اختاراه لك، وهو “لارا”.

وهكذا ولدتِ حفيدتي في يوم ليس لك يد في اختياره، وحملت اسما ليس لك فيه خيار. نحن يا حفيدتي لا نختار عند ولادتنا أسماءنا، لكنا نختار حينما نكبر أفعالنا ونتحمل مسؤولية هذا الاختيار.

ولا تبتئسي يا حفيدتي حينما تكبرين وتدركين أنك لم تختاري أبويك، أو الوقت أو اليوم الذي ولدت فيه، أو الاسم الذي كنتِ تحبين. فربما لو ترك لنا الخيار لعجزنا: من نختار؟ أي أم؟ وأي أب؟ وفي أي فصل نولد: في الشتاء أو في الصيف أو في الربيع؟ وأي اسم نحمل؟ فعليك أن تتعلمي أن في الحياة جوانب ليس بملكنا أن نغيرها، بيد أن فيها أيضا جوانب أكثر في مقدورنا أن نسيّرها كما نحب إذا توفرت لدينا الإرادة والعزم ووضوح الهدف.

وكم أشفق عليك حفيدتي لأن المصاعب والقيود التي ستواجهينها – بنتا – في مجتمعاتنا العربية لما تزل أكثر مما يواجهه الولد. فكيف تتكلمين؟ وكيف تلبسين؟ وكيف تمشين؟ وماذا تقرئين؟ ومن تصادقين؟ و … و … 

والمزلق الخطير الذي آمل ألا يقع فيه أبواك في هذا العصر، هو الصورة النمطية للبنت التي يكرسها المجتمع بعاداته وتقاليده، ووسائل إعلامه، وخطابه الثقافي برمته. وأحسب أن أبويك – لحسن الحظ – على دراية ووعي يكفل لهما في تربيتك يا بنيتي الابتعاد عن تلك الصورة النمطية للبنت، وأن ينشئاك ليس باعتبار “نوعك”، وليس باعتبار أنك “أنثى”، ولكن باعتبارك “إنسانا” له عقل وقلب يمكنه أن يشارك في بناء المجتمع كما يشارك أي إنسان آخر، بغض النظر عن “نوعه”.

وبإمكان أبويك حفيدتي أن يخففا من هذه القيود التي تفرضها الصورة النمطية للبنت وتكبل قدراتها، بالطريقة التي سيربيانك بها. ومسؤوليتهما هنا كبيرة وعليهما أن يتأهبا لتحملها بعقلين منفتحين أولا، وبتحديد غايتهما من وراء تربيتك وإعدادك ثانيا، ثم بالتذرع بالمعرفة والعلم ثالثا، وبقدوة السلوك أخيرا. 

وأنا واثق أنهما سيوفقان بإذن الله تعالى.

٣

زارع الحب وباذر البغض 

أي حفيدتي

قد لا تلاحظين الآن، لكنك ستدركين فيما بعد عندما يشتد عودك، أن غذاءك الذي تطعمينه، لفترة قد تبلغ العامين، لا خيار لك فيه. لكن الله تعالى تكفل به، ووضع لك فيه كل ما يحتاج إليه جسمك النامي.

وهو ليس غذاء للجسم فقط بما يحتويه، لكنه أيضا غذاء عاطفي، بالنبع الذي تستقين منه. إذ تضمك أمك إلى صدرها برقة حانية عليك وتمنحك جزءا من جسدها فتتجهين بشفتيك الصغيرتين إليه بالفطرة حتى تلتصقي بصدر أمك ويبدأ غذاء الجسم، وغذاء القلب والعاطفة معا.

فالحمد لله تعالى أن تكفل الخالق بغذاء المواليد، ولم يدع ذلك لمن يعرف أو لا يعرف، من الأمهات، ولمن تعلم، ومن لم تتح له فرصة التعلم، لمن يملك، ومن لا يملك، لأنه فعلا رب رحيم.

وما أروع ذلك النظام الذي تتبناه بعض الدول، وتستكمل به جزءا من تغذية الأطفال بإتاحة اللبن (الحليب) مجانا لأسرة الطفل فترة حاجته، والتكفل أيضا بأي دواء يحتاجه.

وكم ستحنين حفيدتي إلى هذا الالتصاق إلى صدر أمك حينما تكبرين، وتشعرين بشدة، أو تواجهين مشقة. وكم شعرنا نحن الكبار بما يحتويه هذا الصدر من حنان وتُقنا إلى الارتماء إليه بكل همومنا. ومن هذا النبع حفيدتي ينبت الحب في قلبك.

وينمو هذا الحب شيئا فشيئا حفيدتي لأنك تنشئين في بيئة أعدها الله تعالى إليك قبل قدومك، بأن جعل فُرُشها مودة، وسقفها رحمة. فهو سبحانه الذي جعل بين أمك وأبيك مودة ورحمة عندما تزوجا، ليهيئ لك مهدا ملائما. وعندما تهلين عليهما تظللك هذه المودة وتكسوك تلك الرحمة.

وزرع الحب الذي ترعرع في منبت المودة والرحمة يا حفيدتي لا يثمر إلا حبا.

وفي هذا درس لك – حفيدتي – في قابل أيامك:

فإن أردت أن تعيشي سعيدة في حياتك فاحرصي دوما على نبتة الحب، وارعيها، واسقيها من مودتك وظلليها برحمتك، تثمر لك بساتين يانعة بالسعادة.

وإن صادفت يوما نبتة كراهية، أو بغض، أو جفاء، اقتلعها بالحب مهما كان اجتثاثها صعبا على نفسك. لأن هذا سيعود عليك أنت – وإن طالت المدة – بالراحة وسكينة النفس.

كوني زارعة للحب في شبابك كما كان أبواك معك في طفولتك وصباك، لتحصدي حبا وسكينة في حياتك. ولا تكوني باذرة بغض أو كره، فسوف تجرحك أشواكه قبل أن تدمي الآخرين.

٤

ماما وبابا وهويتي

حفيدتي لارا،

كان بكاؤك حينما نزلت إلى أرضنا هو إعلانا لقدومك. لكن لماذا البكاء؟

يتفلسف بعض الناس فيقول إن الطفل يبدأ رحلة هبوطه إلى الأرض باكيا، وكأنه يدرك ما سيلاقيه على ظهر الأرض، أو يتخوف منه. هذا رأي.

لكني أظن أن بكاء الطفل إنما هو طريقة تلقائية للجسم الوليد الهابط من الرحم، لتلقي أولى نسمات الهواء في رئتيه. ومع تلقي الهواء ثم خروجه وُلد أول صوت معبر من صدرك حفيدتي. وهذه أولى مراحل التهيؤ للكلام.

ومع كل صرخة لك – وكم تشكو ماما من تكرارها – تتسع رئتاك لتستطيعا استجماع المزيد من الهواء، الذي هو ذخيرة أصوات الكلام فيما بعد، والبدء شيئا فشيئا في إصدار نغمات مختلفة مستقاة مما تسمعينه من ماما وبابا، نغمات مجردة بلا أصوات لغة.

ثم محاولات تتكرر لنطق أصوات اللغة تبدأ بأصوات شفوية منها صوت (م) وصوت (ب) لتركّبي منهما بعد ذلك أول كلمتين (ماما) و(بابا). وهكذا تولد اللغة.

تولد أصواتا، ثم كلمات، ثم جملا وتراكيب. وأنت تكتسبينها بالأُذن أولا إذ تستمعين لأمك وأبيك، وتخزنين ما تستمعين إليه، ثم تحاولين الكلام.

فاللغة يا بنيتي سماع واستماع وكلام.

وقد علمتني تجارب الحياة – حفيدتي – أن أكون مُقلّا في الكلام في جلساتي مع الآخرين، وأن أحسن الاستماع وأبدي اهتماما بما أسمع. ويا ليتك تحاولين أن تسمعي أكثر مما تتكلمين. وربما هذه هي الحكمة الكامنة وراء المثل العربي (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) إن كان المقصود بالسكوت هنا الاستماع، وليس السكوت عن خوف أو جبن.

واللغة يا حفيدتي جزء مهم جدا من هويتك، وكذلك الدين جزء من هويتك، وهما عنصران من الثقافة التي تشكل قسطا كبيرا من هويتك. ثم هناك العادات والتقاليد التي تنشّئك عليها أمك، إضافة إلى الملبس والطعام وطرق الأكل، وغيرها.

وبغض النظر عن اللغة أو اللغات التي ستتعلمينها، فلا ينبغي أن تكون تلك على حساب العربية. تعلمي الإنجليزية، والفرنسية أو الألمانية، أو الإيطالية أو غيرها مما شئت، ففيها جميعا اتساع أفق لتفكيرك وثقافتك، وفتح فرص أكثر لك في الحياة.

لكن لا تنسي أبدا لغتك العربية لأنها جزء من هويتك. أما اللغات الأخرى فليست جزءا من هويتك، إنما جزء من ثقافتك وتعلمك.

لقد كان لأمك حظ تلقي قسط من تعلمها في مراحله الأولى في لندن، حيث أمضت في مدارسها نحو ست أو سبع سنوات. فأتقنت الإنجليزية وأحبتها وأخذت تقرأ فيها.

وكانت تأتيني من مدرستها كل أسبوع ببعض الكتب التي تقرأها. لكني لاحظت عليها حبها الشديد لواحد من كتّاب الأطفال الإنجليز هو رولد دال (Roald Dhal). فاصطحبتها يوما معي إلى المكتبة التي كنت معتادا على زيارتها وشراء كتبي منها. وتركتها في قسم الأطفال فترة. ثم عدنا إلى البيت محملين ببعض من كتب هذا الكاتب الرائع.

وما زلت أذكر كيف أنها من شدة حبها لكاتبها المفضل قرأت واحدة من رواياته الكبيرة في يوم واحد.

لكني حرصت مع ذلك – حفيدتي – على أن تذهبك أمك إلى مدرسة عربية كل يوم سبت لتحصيل اللغة العربية. وكانت تلك مهمة صعبة حقيقة عليها. فقد حرمتُها بذلك من أسف من يوم من يومي عطلة الأسبوع. ولذلك كانت تذهب إلى تلك المدرسة وهي متأففة، ولم توفق فيها.

وحفاظا مني على هويتها العربية قررت أنا أن أرسلها إلى مصر لتدرس في مدرسة إنجليزية لكن في بيئة عربية، وهي مدرسة تدرس اللغة العربية. ونجحت ماما نجاحا مشرفا والحمد لله.

وهكذا أريدك يا حفيدتي، حريصة على تعلم اللغات والانفتاح على الثقافات الأخرى، مع الحفاظ في الوقت نفسه على اللغة العربية التي تمثل العمود الفقري في هويتك.

٥

أنتِ مصرية ولكن …

حدثتك المرة الماضية حفيدتي عن لغتك العربية وأوصيتك بالحفاظ عليها لأنها جزء مهم من هويتك.

لكن ما هي هذه الهوية التي رددتها غير مرة؟

لو سألت أحدا من أترابك عندما تكبرين عن الهوية لقال لك: نحن مصريون، وأنتِ مصرية.

وهذا كلام صحيح تماما. فأنت ولدت لأب وأم مصريين، وملامحك جميعا تحمل قسمات الفتاة المصرية الجميلة التي تتميز بأنوثتها. كما أنه تجري في عروقك دماء تاريخ طويل للشخصية المصرية المعروفة بطيب خلقها وحسن معشرها، وحبها للأرض وطينة الأرض والحنين إلى تربتها مهما غابت عنها، والمعروفة أيضا بروحها المرحة وميلها إلى التدين، وذكائها اللماح، وصبرها الطويل الطويل، ثم ثورتها وفورتها إن خدشت كرامتها.

هذه يا حفيدتي بعض من ملامح هويتك المصرية. لكن “مصريتك” هي دائرة ضيقة من دوائر هويتك. فأنت مصرية، عربية، ودائرة العروبة أوسع، ثم إنك مصرية عربية مسلمة، ودائرة الإسلام أوسع قدرا من العروبة.

لكنك يا حفيدتي بعد ذلك كله، وربما قبل ذلك كله، إنسانة، ودائرة الإنسانية هي أوسع دوائر الهوية. ولذلك أقول لك بنيتي إن الالتصاق بأي دائرة من الدوائر الأضيق والانحباس فيها – وإن كان أمرا مستحبا في بعض الأوقات، بل يتصف بالوطنية حينا، أو بالقومية حينا – فيه شيء من التعصب والانغلاق. 

فلا تنتصري لمصريّتك يا بنيتي على حساب عروبتك، ففي عالمك القريب إخوان لك تربطك بهم العروبة.

ولا تتعصبي لعروبتك على حساب إسلامك، ففي جوارك مسلمون ليسوا عربا، ثم لا تنغلقي في دائرة دينك وتنسي إنسانيتك. فسوف تجدين في داخل مصر ذاتها لمّا تشبين عن الطوق مصريين آخرين، قسمات وجوههم هي قسماتك، ودماؤهم هي الدماء التي تجري في عروقك، تربوا كما تربيت، ويأكلون ويلبسون ويتكلمون ويتصرفون مثلك تماما، إذ تربطكم ثقافة واحدة، هم مصريون، لكنهم غير مسلمين، بل أقباط.

ارتقي دوما يا حفيدتي إلى دائرة الإنسانية، فبنو البشر كافة خالقهم جميعا واحد، وأبوهم واحد وأمهم واحدة. وهكذا يراهم الله سبحانه وتعالى.

ويخطئ يا بنيتي من يتصور أن الله – حاشاه – ينظر إلينا نحن البشر بمثل هذه النظرة الضيقة، فيرى هذا على أنه يهودي، وينظر لذاك على أنه بوذي، ولهذه على أنها مسيحية، أو لتلك على أنها مسلمة. فهذا تصور بشري قاصر، يُصور الإله الخالق – سبحانه – في صورة المخلوق ذي النزعات والعصبية. فكلنا خلقه وصنع يده تعالى، وهو يمنحنا جميعا – وبلا تفرقة – الهواء نفسه، والماء ذاته، والخلايا عينها.

ولنا في ذلك درس يا حفيدتي، وأي درس.

فكلنا – بني البشر – متساوون، ليس للون فضل على لون، وليس للغة كمال حرمت منه لغة أخرى، وليس لجنس ميزة لم تمنح لغيره من الأجناس. وإذا كنا متساوين يا بنيتي فلا يمكن أن ينصبنّ أحد منا نفسه حكما على غيره، فيقول هذا مؤمن، وهذا كافر، أو هذا فاسق، وهذا مارق. فليس لأحد منا فضل يؤهله ليعتلي كرسي القضاء ويصدر الأحكام.

الحَكَم الوحيد الذي بمَلْكه القول الفصل هو الله تعالى، وهو الذي سيفصل بيننا فيما اختلفنا فيه.

وعليك حفيدتي أن تساهمي في الحفاظ على الوئام الاجتماعي بين أفراد المجتمع الذي تعيشين فيه. ولن يتسنى لك ذلك إلا إذا سموتِ في تصرفاتك إلى دائرة الإنسانية، فتحبين الناس – كل الناس – لأنهم إخوة وأخوات لك في الإنسانية.

وأنا أقول ذلك بنيتي لأني رأيت في بلدنا مصريين متعصبين لمصريتهم يبنون حبهم وكرههم لغيرهم على أساس ضيق هو مصريتهم، أو عدم مصريتهم. وكذلك رأيت أناسا مسيحيين ومسلمين يحبون من يساكنهم دائرة دينهم، ويكرهون من يغايرهم.

ولو سمونا بحبنا ونأينا به عن العصبية، وجعلناه معلقا بالإنسانية لخفتت أصوات التعصب ولساد المجتمع وئام اجتماعي مطلوب.

٦

جدك: من الفيوم إلى الأسكندرية

ربما جعلك كلامي في الصفحات السابقة – حفيدتي – تتخيلينني في صورة الجد الذي نراه في المسلسلات والأفلام، وهو جالس على كرسي عتيق في ركن في الغرفة، في ردائه الرمادي (روب دي شامبر) وقد غطى رجليه ببطانية خشية البرد، وفي يده صحيفة “الأهرام” يطالع منها سطورا في صفحة، ثم يغلبه النعاس فيغفو دقائق ليصحو على أصوات أحفاده، وعند صحوه تهاجمه كحة لعينة من آثار سنوات التدخين الذي اضطر إلى هجره بعد فراق صحة البدن له شيئا فشيئا.

هذا الرجل ليس هو جدك، فهذه صورة نمطية يحلو للكتاب تكرارها. أما جدك فلا يزال – الحمد لله تعالى – فتيا، أو هكذا يظن هو، يذهب إلى العمل كل صباح، ويمارس بعضا من الرياضة، ويسعد بتعلم الجديد، ويجد في البحث والدرس والقراءة والكتابة لذة لا تعادلها لذة لديه.

وممارسة الحياة ومعايشتها لدى جدك غير مرتبطة بسن، طالما منحه الله قدرا من الصحة يساعده. ولذلك يكره تلك الصورة النمطية للجد في بلداننا العربية، وما يرتبط بها من تعبيرات محبطة يائسة، من قبيل “ها نأخذ زماننا وزمان غيرنا؟!”  

وجدك يا بنيتي لم يولد – هكذا – كهلا وشيخا كبيرا، بل كان جنينا ثم طفلا مثلك، حملته أمه وأضناها حمله وإرضاعه وفطامه، وملاحقته هنا وهناك خلال سني نشأته. 

حياة جدك في سطور هي حياة رجل شكلت مساره أربع مدن: الفيوم، والأسكندرية، والقاهرة، ثم لندن. 

في الفيوم، التي تقع جنوب القاهرة على بعد نحو خمسة وثمانين كيلومترا، تلقى جدك تعليمه الأولي (الابتدائي) والمتوسط (الإعدادي) ثم الثانوي. لكنه تلقى في الفيوم أيضا ضربة قاصمة مازالت ذكراها تؤلمه: فقد مات أبوه في حادثة، وجدك لما يزال في الثامنة من عمره. ولم يدرك جدك معنى فراق أبيه إلا عندما كبر وذهب إلى الجامعة وحيدا، لم يرافقه أحد.

كان موت أبيه سببا في عكوفه وانطوائه في بيتهم، الذي عثر فيه على بعض الكتب التي وجد فيها تسرية وتسلية. وكان منها كتاب كليلة ودمنة. وتعلم جدك حب القراءة وأصبح له من الكتب أصدقاء، ومن الكتاب أساتذة ومعلمين مرشدين. وكان عزمه – بعد قراءته في بعض كتب طه حسين – أن يدرس في الجامعة اللغة اللاتينية واللغة اليونانية، لأن من أراد أن يتخذ من الأدب صنعة له، كما قال طه حسين، لا بد له من درس هاتين اللغتين. ولم يكتب جدك في أوراق تقديمه للجامعة سوى كلية واحدة هي “كلية الآداب” في ثلاث جامعات هي القاهرة وعين شمس والأسكندرية. 

ورحل إلى الأسكندرية لدراسته الجامعية بعد قبوله فيها. بيد أن الحظ لم يحالفه، إذ لم يقبل قسم الدراسات القديمة فيها أي طالب جديد وقتها. ونصحه بعض الناس لما عرفوا بحبه للقراءة والأدب أن يلتحق بقسم اللغة العربية. وكان درسٌ في النحو العربي هو السبب الفيصل في انضمامه إلى قسم اللغة العربية واللغات الشرقية، في كلية الآداب بجامعة الأسكندرية.

في الأسكندرية لم يتلق جدك فقط دروس الجامعة في علوم العربية وبعض من العلوم الإسلامية، وفي اللغة العبرية – التي درسها ثلاث سنوات – ومبادئ السريانية التي درسها في السنة التمهيدية للماجستير، لمدة عام، بل تعلم أيضا من الحياة دروسا شكلت شخصيته فيما بعد.

فقد ذهب إلى الأسكندرية وحيدا، وعرف أنه ينبغي له أن يعتمد على نفسه في أول رحلة له خارج مدينة الفيوم، وأن يتخذ قرارات بنفسه ولنفسه، وألا ينسى أبدا أمه التي جزعها موت أبيه وأن يعمل بجد ليعود إليها مظفرا.

وفي الأسكندرية أيضا بدأ قلبه يخفق بعشق مكتوم لم يبح به، وأخذت تنبت في عقله بذور فكر جديد.

ولهذا حديث آخر …

٧

في الأسكندرية: متعة التعلم وبذور هيام

في الأسكندرية – حفيدتي – وجد جدك في درسه للغة العربية وآدابها وما درسه من علوم أخرى مكملة متعة لم يتوقعها، واكتشف أيضا عوالم أرحب من عالمه الذي كان يعيش فيه من خلال القراءة وانكبابه عليها في عزلته. وأخذ جدك درسه بالجد المطلوب فتفوق فيها. وكان كلما اشتد عليه عصيان علم أو فرع لم يتركه، بل يأتي بكتب أخرى فيه تفتح له مغاليقه. وهكذا فعل في دروس البلاغة التي لم تكن طيعة عليه من خلال كتاب “التلخيص” المقرر، وعكف على سفر ضخم هو “شروح التلخيص” يدرس فيه سطرا سطرا حتر لان له. بل أخذ يجمع زملاءه ممن واجهوا الصعوبة نفسها في لقاءات خاصة ليشرح لهم المتن، وليتناقشوا في مراميه ومعانيه.

وأحب جدك دروس اللغة العبرية، ثم السريانية بعد ذلك في السنة التمهيدية للماجستير، حبا شديدا وتفوق فيها. وربما يرجع ذلك إلى الأستاذ الذي كان يدرسهم، وهو الدكتور حسن ظاظا – الذي حصل على الماجستير من الجامعة العبرية قبل نشأة إسرائيل، والذي كان متميزا في عرضه للمادة وتدريسه، رحمه الله. كما شغف بدروس علم اللغة التي فتحت له آفاقها فيما بعد، وتخصص فيها.

وقابل جدك في الأسكندرية زملاء من فلسطين، ومن تشاد، ومن مالي، وموريتانيا، فانفتح على أناس آخرين ذوي ثقافات وعادات وتقاليد مختلفة. وكان عاملا مهما في حياته فيما بعد، باعد بينه وبين التعصب المقيت الذي ينطبع عليه عادة من لم يبرحوا بلادهم، ومن لم يتعاملوا مع أفراد من خارج أوطانهم. ولا يرى هؤلاء في الآخر على الأرجح إلا العداء، ولا يتوقعون منه – كما يتوهمون – سوى البغضاء والحقد.

ومن بين هؤلاء ربطت علاقة وطيدة بين جدك وبين أحد هؤلاء. وكان هذا الصديق من جمهورية مالي، وكان رجلا جادا يتقن الفرنسية ويتقن العربية، إذ إن أصوله تعود إلى الطوارق هناك. كما كان مواظبا على الصلاة وقراءة القرآن الكريم، يختمه كل أسبوع. وتعرف جدك عن طريق هذا الصديق على جوانب من الثقافة الإسلامية، نمت في القاهرة فيما بعد.

وكانت الأسكندرية أيضا هي أول تربة تنبت فيها بذرة هيام في قلب جدك. وبدأت تلك البذرة تشق سطح التربة رويدا رويدا، عندما كان يرى تلك الفتاة التي كانت تسبقه بعام في الدراسة. ولفتته تلك الفتاة بقوامها، وهدوئها ورقة صوتها. ولكن جدك لم يفعل شيئا أول الأمر، فقد كان الحياء يكبله، بل يلجمه. واكتفى أسابيع وربما شهورا بالتمتع بمرآها. وكان بإمكانه أن يقف في الممر الطويل الذي تقع حجرات الدراسة على جانب منه، بينما توجد على الجانب الآخر نوافذ تطل على حديقة في حرم الكلية. وهناك كان جدك ينتحي جانبا وفي يده كتاب ملقيا نظرة للحظة من النافذة على الحديقة، ثم يطيل النظرات إلى المارين أو الواقفين في الممر انتظارا للحظة تطل فيها.

واستجمع جدك قواه وتسلح بجرأة غير معهودة ليعرف من هي الفتاة التي هام بها. وسأل بعض رفاقها وعرف اسمها فزاده ذلك بها هياما. كانت اسم فتاته “عفاف”. ومنذ لحظة كشف الاسم، زاد في قلب جدك ووجدانه حب المتنبي الذي كان يدرس بعضا من شعره. وكان السبب وراء ذلك بيت أبي الطيب المشهور:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل           عفاف وإقدام وحزم ونائل  

واتخذ جدك من هذا البيت شعارا له في الحياة، وظل يردده صباح مساء. وكان مستعدا بالحجة لأي نقاش بشأنه، وبشأن ما يقصده المتنبي من “عفاف” في بيته، وأن “عفاف” جدك أفضل آلاف المرات من “عفاف” المتنبي، لأنها تضم “عفاف” المتنبي وتتجاوزه.

ولم يكن جدك يمتلك إلا بيتا من الشعر يردده، ولحظات من متعة النظر إلى فتاته، لكنه لم يقدم أو يتحرك حتى تخرج وترك الأسكندرية، وشُغل بتقلبات الأيام. ولكنها كانت بذرة جميلة خفق لها قلبه، وإن لم يروها بماء الحياة.

وفي نهاية فترة الأسكندرية التقى جدك مصادفة برئيس قسم اللغة العربية في كلية البنات بجامعة عين شمس في مناقشة رسالة جامعية. وكان اللقاء سببا في تعيينه فيما بعد في تلك الكلية، وبداية مرحلة جديدة له في القاهرة.

٨

ستة أشهر في انتظار إعلان

هدفي من هذه الرسالة التي أكتب إليك حلقاتها – حفيدتي – كلما استطعت هو أن يكون لك فيها أو في أجزاء منها يوما ما شمعة تضيء لك ظلمة، أو نافذة تطلين منها على عالم، معالم الطريق فيه واضحة، فتستهدين بها في رحلة حياتك. ولست أعتزم أن أحكي لك هنا قصة حياتي، فسوف يكون لذلك مكان آخر إن شاء الله، ولكني أود أن أقص عليك منها أياما وأحداثا ترسم ملامح دروس في الحياة تنفع والديك – حفظهما الله تعالى – وتفيدين أنت منها في قابل الأيام.

في رحلتي في مسقط رأسي بالفيوم، وفي مهد تعليمي بالأسكندرية، قصصت عليك كيف علمتني أزمة فقد والدي بالرغم من فداحتها الاعتماد على النفس، والمثابرة، والانكباب على العلم الذي هو سلاح لا يمكن أن يسلبك إياه أحد أبدا. وتعلمت أن أواجه الصعوبات، شيئا فشيئا، ولا أهرب منها، لأني لو هربت منها فسوف تلاحقتني فيما بعد، أوتلطاردني صعوبات أخرى غيرها قد تكون أشد وأنكى.

والصبر يا حفيدتي معول تشقين به أصلب الأحجار. لقد ظللت أنتظر نشر إعلان كلية البنات بجامعة عين شمس الذي عرفت به قبل نشره أكثر من ستة أشهر: أشتري فيها كل يوم صحيفتي الأهرام والأخبار مفتشا في أناة عن الإعلان المرتقب، دون أن أمل.

لماذا؟

لأن الأمل يملأ كياني كله في أن يتحقق حلمي في العمل في الجامعة. وحينما نُشر الإعلان في نهاية المطاف وقدمت أوراقي، لم يكن لدي أبدا يقين في أني سأكون المعيد المختار. لكني أديت واجبي، وتركت ما لله لله.

وهنا درس مهم في حياة كل منا، نحن البشر. فنحن وُلدنا على هذه الأرض، ومنحنا الله سبحانه قدرات وإمكانات، وأعدنا بحواس، وارتقى بنا على الكائنات الأخرى بعقل يخترق آفاق السموات، ويسبر أعماق الأرض. وأتاح لنا هذا كله القدرة على التحكم في كثير من جوانب حياتنا. لكن هناك جوانب أخرى لا تقع تحت سيطرتنا. وهذه يجب أن نتعلم أن نتركها لله، ونعلم أبناءنا أن يتركوها له تعالى.

وفزت – بحمد الله – بالوظيفة وانتقلت على إثرها إلى القاهرة، لأخوض غمار حياة جديدة، سأحكي لك منها بعض الدروس في الحلقة التالية.

٩

القاهرة:

حزم جدك حقائبه عقب انتهائه من دراسة السنة التمهيدية للماجستير في الأسكندرية، وذهب إلى القاهرة سعيدا لتحقق حلمه. وكان جدك هو الشاب الوحيد – تقريبا – في كلية البنات التي لا يدرس فيها سوى الفتيات، وتمثل الفتيات والسيدات فيها الأغلبية، في أعضاء هيئة التدريس.

وواجه جدك مشكلة كبرى في الكلية منذ يومه الأول.

فهو قد نشأ تنشئة لم تساعده على الاختلاط والانخراط في المجتمع، بل تنشئة انطوائية، ثم وجد نفسه لأول مرة، وأينما خطا خطوة، محاطا بالطالبات، وعضوات هيئة التدريس، والموظفات. وكان يشعر، وهو يمشي داخل الكلية المتسعة الأرجاء، وكأن الجميع عيون محملقة فيه، فيتعثر في السير، لكنه كان يعاود امتلاك السيطرة ويواصل المشي. وكانت حمرة الخجل على وجهه علامة بارزة خلال الحديث معه، بل كانت زميلاته – كما أبحن له فيما بعد – يفتعلن الحوار معه ليحمر وجهه فيضحكن.

وكان جدك – حفيدتي – رجلا وقر الإيمان في قلبه، يواظب على الشعائر، ويرعى الله في تصرفاته. وكان أيضا قد أخذ يطلع على فكر الإخوان المسلمين، عبر بعض كتبهم، خاصة كتب سيد قطب وشقيقه محمد قطب، التي كان يرسلها له خلال إجازة الصيف صديقه الماليّ الذي تعرف عليه في الأسكندرية في سرية بواسطة البريد ليقرأها ثم يعيدها له. ثم واصل هو الاطلاع على المزيد مما وجده في مكتبة المجلس البلدي في الفيوم.

وأخذ جدك يقترب شيئا فشيئا من هذا الفكر الذي تهيمن عليه أفكار معينة تدفع إلى الالتزام بنهج معين قولا وفعلا وتعلما. فأطلق لحيته، واتخذ حينا من الجلباب زيا له، ولكنه جلباب تفنن في تفصيله ولم يكن هو الجلباب المصري المعروف، وعزف عن مشاهدة التلفزيون، وبدء في حفظ القرآن الكريم. بيد أنه لم ينضم يوما ما إلى الجماعة أو إلى أي هيئة أو حزب سياسي، لأنه لم يكن يحب تقييد حرياته بالالتزام بتعليمات أمير، أو شيخ، أو رئيس.

وعانى جدك من انكبابه على قراءة فكر الإخوان، لأن هذا الفكر صوّر له – مثلا، وهو محب للأدب يقرؤه وله محاولات في كتابة القصة – أن الأدب يجب أن يكون إسلاميا، وكذلك العلوم الأخرى، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والفنون. وأحس جدك في فترة بصراع كبير داخله: هل يواصل قراءاته الأدبية المنفتحة على اتجاهاته المختلفة، أو يتقوقع فقط فيما يسمى بالأدب الإسلامي؟ وهل يطلق لفكره العنان في الكتابة، أو يقيد قلمه فلا يسطر إلا ما هو “إسلامي”؟ 

ودفعه ذلك إلى بعد التحاقه بعمله الجديد في كلية البنات إلى سرعة التفكير في الزواج، ليحمي نفسه من الغواية.

وفي خضم هذا الغمار الفكري التقى جدك – وكان يزور منزل عمه في الدقي بالجيزة – ببنت جيرانهم، وكانت فتاة جميلة خجولة وكانت ترتدي وقتها “تاييرا” بلون وردي جذاب. ودار بينهما حديث مقتضب، لكنه لم يعد من الزيارة خالي الفكر، بل محملا بصورة تلك الفتاة الجميلة، بصورة جدتك.

وعاد جدك إلى بيت عمه، ثم زار عمه رحمه الله جيرانه، ثم كانت خطوبة، وزفاف، وزواج، عاش جدك خلاله حبا أثمر بعد أشهر ثمرة جميلة هي أمك.

وكان مقدم أمك – حفيدتي – بداية عهد جديد في حياة جدك وجدتك. فقد كان جدك مثلا مدخنا، لكنه أقلع عن التدخين بعد قدوم الوليدة الجميلة حتى لا يضر بصحتها ورئتيها الصغيرتين النقيتين.

وواصل جدك عمله في كلية البنات حتى حصل على درجة الماجستير في علم اللغة، ولكنه كان يعاني – بعد زواجه – من مشكلات مالية، فكر معها في السفر إلى الخليج للتدريس. وحصل فعلا على قبول من جامعة الرياض لتدريس مادة النحو في كلية الآداب. بيد أن القدر كان يخبئ له رحلة أخرى إلى لندن، للحصول على درجة الدكتوراه، رحلة غيرت فكره وحياته.  

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.