يوميات صائم ٢٠١٧

يوميات صائم ٢٠١٨

الجمعة ٣٠ شعبان ١٤٣٨

الصيام والصوم

كيف لنا أن نهنئ الناس بحلول شهر رمضان، شهر الخير والرحمة، شهر الصيام عن الشهوات والملذات، وقلوبنا دامية وعيوننا دامعة لهذا الهجوم الذي قتل الأمل في قلوب الساعين إلى ربهم في محافظة المنيا.

غدا سنبدأ رحلة روحية عظيمة، يحصرها بعض المسلمين في الامتناع عن الطعام والشراب والجنس، بعض الوقت، لتنتفخ بطونهم بعد غروب الشمس بأكثر مما اعتادوا عليه في شهور العام الأخرى، فلا يستطيعون تنفسا إلا بصعوبة. وما أظن أبدا أن هذا هو هدف “الصيام”.

فمع الامتناع عن الشهوات وحجب تلبية الغرائز وعدم إشباعها، من المفترض أن تصفو النفس وتسمو الروح وترق الأخلاق ويحسن التعامل بين الناس. غير أن ما نراه في نهار شهر “الصيام” شيء مختلف تماما: أناسا يركبهم شيطان الغضب، ويغلبهم الكسل، ولا يطيق بعضهم بعضا.

“الصيام” ليس شعيرة هينة، بل شاقة، لكنها في طاقة البشر. فعندما ذكرت الشعيرة في القرآن الكريم سُبقت بلفظ (كُتب). وما يستخدم القرآن معه هذا الفعل “كُتب” فيه مشقة على فاعله، بل ربما لا يحب فعله من تلقاء نفسه. فالقتال، والقصاص، وتقسيم التركة عند اقتراب الموت والصيام، كلها أمور تشق على نفوسنا.

لكن تلك المشقة تهون في نفس المؤمن، فيحتمل المصاعب لأنه يفعل ذلك طاعة لله تعالى، ولأنه أيضا سيجازى عنه جزاء كبيرا.

بيد أن المشقة التي نواجهها هذا العام مشقتان: مشقة “الصيام”، ومشقة الألم لما ألم بنا في المنيا.

لكننا ينبغي أن نواجه مشقة “الصيام”، بـ”الصوم”: فلا نتكلم حفاظا على “صيامنا”. وهكذا كانت نصيحة المولى تعالى للسيدة مريم العذراء بعد أن حملت بالسيد المسيح عليه السلام. فقال تعالى “… فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما، فلن أكلم اليوم إنسيا” (مريم:٢٦)

وما أجدرنا اليوم أن نتمسك بتلك النصيحة، ونلتزم “الصوم”، فلا نخوض في عقائد أحد. فأمر العقيدة واختلاف بني البشر فيها، لا ينبغي له أن يتحول إلى خلاف بينهم. بل يجب تركها لله تعالى، الذي سيحكم بين الناس فيما يختلفون فيه يوم القيامة.

وما أجدرنا أن نتمسك بهذه النصيحة ونلتزم “الصوم” فلا نخوض في أعراض الآخرين. ونلتزم “الصوم”، فيقل كلامنا، لنحد من عراكنا، ليسود المجتمع وئام تدعو إليه الشرائع جميعا.

ورمضان كريم

 السبت ١ رمضان ١٤٣٨

لا تحزن عليهم ..

نستكمل في هذه اليومية، وما يليها إن شاء الله تعالى، صحبتنا للقرآن الكريم متتبعين في سوره صورة النبي الكريم عليه السلام.

وكنت قد بدأت هذه الرحلة في “يوميات صائم” في عام ٢٠١٥، وانتهى الشهر الكريم ولما تنته رحلتنا.

وتحدثت عما دفعني إلى خوض هذا النوع من الحديث – خلال يومياتي في رمضان – ألا وهو ما لمسته في قراءاتي، ومشاهداتي عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، من تباعد بين صورتين: صورة النبي الكريم في القرآن، وصورته في أذهان الناس الآن. وأشرت إلى أن ملامح هذا التباعد بين الصورتين لن تتضح إلا بتركيز الضوء على كل منهما على حدة.

وآثرت أن أبدأ بالمصدر الأصلي الأول لتتبع قسمات الصورة الأولى، صورة النبي في القرآن، على أن انتقل من بعد إلى الصورة الأخرى، في مصادرها، التي تتصدرها الأحاديث والمدائح النبوية.

وقد لسمت خلال يومياتي السابقة بعضا من ملامح الصورة الأولى، في السور التي تمكنت من قراءتها حتى هذا اليوم. واعتمدت في تتبع تلك الملامح ترتيب السور بحسب النزول، حتى نرى معا تطور الخطاب القرآني لمحمد عليه السلام، وخطابه عن محمد، من العصر المكي عند بداية الوحي إلى العصر المدني بعد ذلك.

ولعل أهم تلك الملامح التي أبرزتها رحلتي حتى الآن هو”النبي الإنسان“، الذي تعهده الوحي بالتهيئة والتربية الروحية والأخلاقية للمهمة التي كُلف بها.

وهو بشر، لكنه يتميز من غيره من البشر، بصلته بالسماء وبالوحي. وكم كان هذا النبي الكريم حريصا على أداء المهمة حتى وإن جار على نفسه في سبيل إقناع قومه. ولذلك دعاه الوحي غير مرة إلى الترفق بحاله وألا يشق على نفسه.

وتظل ”بشرية“ محمد عليه السلام ملمحا جوهريا في الصورة، فهو بشر يُوحى إليه، لكنه – مثل غيره من البشر، لا يعلم الغيب في السماوات وفي الأرض. ولا يعلم بموعد قيام الساعة، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

***

واليوم نقف عند سورة النمل، وهي السورة الثامنة والأربعون من حيث ترتيب النزول. وهي من سور العهد المكي التي ترد فيها قصص الرسل الأولين تعضيدا للنبي الكريم في مواجهة ما يلاقيه من عنت من قومه.

وتؤكد هذه السورة هذا الملمح. ففي أوائل آياتها يوجه المولى تعالى خطابه للنبي – في الآية السادسة – لتثبيت قلبه:

(وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم: ٦)

ثم تعرج السورة بعد ذلك على قصة موسى عليه السلام، وجحد قومه لما جاء به من آيات لهم مدعين أنها سحر، لتختتم بخطاب مباشر إلى نبينا الكريم فيه مساندة ودعم نفسي له:

  • (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين: ١٤(، ويتكرر الخطاب نفسه عند الحديث عن صالح عليه السلام وثمود،
  • (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين: ٥١)، وكأن الله تعالى يريد أن يقول له إن مصير المعاندين من المشركين من قومك هو هذا المصير.

وتنتقل السورة إلى قصة داوود وسليمان عليهما السلام، مركزة على قدرة سليمان التي منحها الله له على فهم منطق الطير، وقصة بلقيس ملكة سبأ الموحية التي نرى فيها صراع المُلك والسلطان والثروة مع الإيمان، ثم إقرار بلقيس (إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين: ٤٤) مما يقوى من عزم النبي الكريم.

وبعد الحديث عما واجهه صالح من قومه، وما عاناه لوط من قومه، في ختام سرد السورة لقصص الرسل السابقين، واطمئنان قلب النبي من خلال هذا القصص بأن الله سينصره، يحين وقت حمد الله تعالى وشكره، والدعاء لهؤلاء الرسل:

(قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى: ٥٩).

وتنتقل السورة بعد ذلك إلى آيات الله في الكون وخلق السماوات والأرض، والنبات والأشجار، والبحار وما فيها، والرياح وما تحمله من أمطار وخير، وكيف يجيب الله المضطر، وكيف يكشف السوء، في صورة سؤال واحد متكرر، لتخلص إلى قضية الخلق والبعث التي لا يؤمن بها مشركو مكة:

  • أمن خلق السماوات والأرض …. أإله مع الله ….
  • أمن جعل الأرض قرارا …. أإله مع الله ….
  • أمن يجيب المضطر …. أإله مع الله ….
  • أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر …. أإله مع الله ….
  • أمن يبدأ الخلق ثم يعيده …. أإله مع الله ….

ثم يوجه الخطاب إلى النبي الكريم:

(قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيبَ إلا الله: ٦٥) مؤكدا أن علم الغيب مقصور على الله تعالى. وهذه قضية جوهرية في خطاب القرآن للنبي، توضح “بشريته”؛ إذ لا يعرف البشر الغيب.

ويوجه له مرة أخرى ليخاطب لينصح المشركين حتى يعتبروا بما حدث لسابق الأقوام الذين كفروا، وهذه آثارهم ماثلة أمامهم:

(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين: ٦٩).

ولأن الله يعلم رد فعل هؤلاء المشركين المعاندين، ويعلم أيضا ما قد يلم بقلب النبي محمد – عليه السلام – من حزن وضيق لإعراضهم، أو ما قد يساوره من خشية على حياته بسبب مكرهم، فهو يخاطبه مطمئنا:

(ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضَيق مما يمكرون: ٧٠).

وثمة أسباب وراء تلك النصيحة القرآنية: فهؤلاء المشركون مثلهم مثل الموتى، والصم والعمي، لن يسمعوا ولن يروا. وسيحكم الله بينهم يوم القيامة:

(إن ربك يقضي بينهم بحكمه: ٧٨)

(إنك لا تسمع الموتى، ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم: ٨٠-٨١)

وحتى لا يفضي صد المشركين ورفضهم للرسالة إلى تشكك النبي – وهو بشر – فيما يدعو إليه، وفيما إن كان هو فعلا الصواب، يقول له المولى تعالى:

(فتوكل على الله: ٧٩(، مؤكدا له (إنك على الحق المبين: ٧٩)

ويبين خطاب الله تعالى للنبي الكريم في نهاية السورة أنه هو نفسه مأمور بما يدعوهم إليه:

(إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة: ٩١)

(وأمرت أن أكون من المسلمين: ٩١)

لكنه – عليه السلام – صاحب رسالة ومأمور بتبليغها. وليس من مهامه أبدا ضمان الهداية للناس؛ فهو منذر:

(وأن أتلو القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين: ٩٢).

ورمضان كريم

الأحد ٢ رمضان ١٤٣٨

إنك لا تهدي من أحببت

يكون الكاتب إلى قارئه أقرب إذا خاطبه مباشرة مستخدما ضمير المخاطب. وهذا ما يلاحظه قارئ السور المكية التي يكثر فيها توجيه الخطاب من الله جل وعلا إلى نبيه الكريم. ولا شك أن في ذلك اطمئنانا لقلب النبي، خاصة إذا كان خطاب الله إليه مقرونا بكلمة رب، مثل قوله تعالى في سورة القصص التي نصحبها في هذه اليومية (وما كان ربك …)، ففي ذلك خصوصية له وكأنه سبحانه وتعالى “رب محمد” فقط. ولم يكن ذلك ببعيد عن الواقع الذي كان يعاني فيه نبينا الكريم عليه السلام من عنت قومه وعنادهم ورفضهم الدعوة إلى الإيمان بربوبية الله تعالى.

وبثا للطمأنينة في قلب النبي تبدأ سورة القصص المكية – وهي السورة التاسعة والأربعون من حيث النزول – في آيتها الثالثة:

(نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون: ٣)

وفي قصة موسى وفرعون تثبيت شديد لقلب النبي. فقد كان ما واجهه موسى عليه السلام من فرعون وقومه أكبر، إذ بلغ طغيانه حد ادعاء الألوهية. وقصة موسى في هذه السورة تأتي بتفصيل موسع، مقارنة بالسورة السابقة، النمل، التي ركزت أكثر على قصة سليمان وبلقيس.

وترد آي السورة الكريمة التهم التي وجهت إلى محمد عليه السلام. فقد اتهم عليه السلام بكتابة الوحي، واتهم أيضا بأنه يأخذه من بعض أهل الكتاب. ولذلك تبرئه الآيات في أربعة مواضع قائلة إنه لم يكن موجودا عندما وقعت تلك الحوادث:

(وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر: ٤٤)، أي بالجانب الغربي حيث كلم الله موسى

(وما كنت من الشاهدين: ٤٤)

(وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا: ٤٥)، ما كنت تعيش في أهل مدين

(وما كنت بجانب الطور إذ نادينا: ٤٦)، جبل طور سيناء

ثم تربط السورة قصة موسى عليه السلام بدعوة نبينا عليه السلام، مبينة مهمة رسالته:

(ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون: ٤٦)

فقد أرسل إلى قوم لم يأت فيهم رسول من قبل لينذرهم.

وتظل دائما شخصية المعاند على طبائعها. فلم يرق لأهل مكة أن ينزل الوحي على محمد. ولما لم يجدوا في شخصه أي سوء التفتوا إلى ما أنزل إليه فقالوا:

(لولا أوتي مثل ما أوتي موسى: ٤٨)

لكن رد القرآن كان مفحما لهم:

(أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل: ٤٨)

ويواجههم الله تعالى بالتحدي الأكبر على لسان نبيه:

(قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين: ٤٩)

فهل هم فعلا قادرون على الإتيان بكتاب من عند الله، يكون أكثر هداية من كتاب موسي وكتاب محمد؟ وإن كانوا قادرين على ذلك وصدقوا فيه فإن محمدا – حتى يبلغ التحدي مداه – سيتبعه.

ويعلم الله عجزهم ولذلك يطمئن نبيه:

(فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله: ٥٠)

ويعلم الله تعالى إشفاق النبي على قومه، فهم مهما فعلوا قومه وعشيرته، ويعلم أيضا أنه يحزنه أن يظلوا على كفرهم، ولذلك يخفف عنه العبء بقوله تعالى:

(إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين: ٥٦)

وتواصل الآيات محاججة طغاة الشرك، الذين يقرون دون إدراك منهم بأن رسالة محمد حق، لكنهم يخشون على أنفسهم إن اتبعوه:

(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا: ٥٧)

فأفحمهم الله تعالى بما أسبغ عليهم:

(أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء: ٥٧) إذ وفر لهم الأمن في الحرم الذي يحج إليه الناس، وتأتيهم الخيرات من كل مكان. فلا عذر لهم إن ادعوا الخوف على حياتهم وأنفسهم.

وتقرر السورة بعد ذلك سُنة عامة من سنن الله تعالى في الكون:

(وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون: ٥٩)

ونتنقل الآيات بعد ذلك إلى مشهد من مشاهد يوم القيامة عندما يُسأل المشركون عما أشركوا به فلا يستطيعون جوابا. لكنهم لا يؤمنون بالبعث. ولذلك تطرح الأيات – على لسان محمد عليه السلام – سؤالين مهمين في صورة سيناريو متخيل عسى أن يتفكر القوم:

(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بضياء: ٧١)

(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه: ٧٢)

ولا ينتظر منهم ردا بعد هذا الإفحام، لكنه يوجه إليهم الخطاب مباشرة:

(ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون: ٧٣)، ولكن من منا من يتذكر ذلك ويشكر الله عليه.

وتختتم السور بقصة قارون: قصة الثروة الطائلة وما قد يصحبها من غرور وخيلاء وكبر وفساد تفضي جميعا إلى البعد عن الله والكفر به. وهذا ما نعايشه في حياتنا الآن مع “قوارين” عصرنا، وانقسام الناس بشأنهم – كما انقسموا وقت قارون – أناس يتمنون ثرواتهم وسلطانهم ويذلون أنفسهم في سبيل ذلك، وآخرون يدركون زوال المال والسلطة والجاه وما تبعه من وبال وفساد وهلاك.

وتنتهي آي السورة بخطاب إلى النبي الكريم لتثبيت فؤاده:

(إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد: ٨٥)،

فسوف يردك الله يوم القيامة إلى مكان متميز لقاء ما واجهت بعد نزول القرآن عليك من مشقة وجهاد. وقيل إن في ذلك بشرى بعودته إلى مكة بعد أن اضطر إلى الهجرة منها.

وهنا يجب أن أشير إلى عادة بعضنا في البلدان العربية في تلاوة هذه الآية خاصة عند مغادرة بلدة أو مدينة، أو بيت يزورونها إيمانا بأنهم بتلاوتها سيعودون إليها مرة أخرى. بل يصر بعضهم على كتابة أحرف الآية على باب البيت أو الشقة التي يغادرونها حتى يرجعوا إليها. كما يفعل آخرون عندما يقتسمون عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كتابة أو لفظا، تيمنا منهم بأنهم سيجتمعون مرة أخرى، كما تلتئم أحرف العبارة. ولست أرى أي دليل على صحة هذا السلوك الخرافي في القرآن ذاته.

وما كان محمد يدري بنزول القرآن عليه، ولكن الله أنزله عليه رحمة منه:

(وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك: ٨٦)

وتؤكد السورة في نهايتها جلاء الطريق أمام النبي حتي لا تزل قدمه بسبب ما يواجهه، وهو بشر، ويظل صامدا:

(فلا تكونن ظهيرا للكافرين: ٨٦)

(ولا تكونن من المشركين: ٨٧)

(ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك، وادع إلى ربك: ٨٧)

(ولا تدع مع الله إله آخر: ٨٨)

ورمضان كريم

الاثنين ٣ رمضان ١٤٣٨

القرآن والحكمة

تدور سورة الإسراء – وهي السورة الخمسون من حيث ترتيب النزول – حول حدث كبير في حياة النبي الكريم سرّى به الله عنه بعدما لاقاه من قومه خلال اثني عشر عاما، وعقب وفاة عمه أبو طالب ووفاة زوجته خديجة مما أثر في نفسه عليه السلام. ويخص الله النبي في بدء السورة بوصف (عبده):

(سبحان الذي أسرى بعبده: ١)

ويتكرر في السورة غير مرة، وربما دون غيرها، التأكيد على بشرية النبي، في مواجهة تحديات المشركين له وطلبهم منه أمورا ليست في طاقته حتى يؤمنوا برسالته، لتعجيزه عليه السلام.

وفي السورة أيضا وصف واف للقرآن الكريم، وأمثلة متعددة للحكمة التي أنزلها الله تعالى في آياته، وينكرها عليه بعض المفسرين الغافلين.

وتبدأ السورة بذكر موسى عليه السلام وتنتهي به. كما ذكرت في وسطها قصة خلق آدم عليه السلام.

وفي السورة كثير من الحكمة، وبعض الخطاب الموجه إلى النبي الكريم في هذا الجزء من السورة ينصرف – من خلاله – إلى بني الإنسان بصفة عامة، وجماعة المؤمنين بصفة خاصة:

(لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا: ٢٢)

(آت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا: ٢٦)

(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا: ٢٩)

(ولا تقفُ ما ليس لك به علم: ٣٦)

(ولا تمشِ في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا: ٣٧)

ولذلك ينتقل الخطاب من صيغة المخاطب المفرد إلى صيغة الجمع في:

(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق: ٣١)

(ولا تقربوا الزنى: ٣٢)

(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها: ٣٣)

(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن: ٣٤)

(وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم: ٣٥)

ويختتم هذا القسم من السورة بآية مهمة في بابها يغفلها بعض المفسرين لأنهم يذهبون مذهبا عجبا في تفسير (الحكمة) في القرآن الكريم. وهذه الآية هي:

(ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة: ٣٩)

والآية صريحة جدا في الدلالة على ما في آي القرآن الكريم من حكمة وحِكَم، كما بينت الآيات السابقة. إذ يذهب مفسرون إلى أن كلمة (الحكمة) في آيات من قبيل:

(يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة: آل عمران ١٦٤)

هي (السُنة) النبوية. وهم يفعلون ذلك حتى يثبتوا مرادهم، وهو أن (السنة) و(الأحاديث) وحي من الله تعالى. ويتذرعون في ذلك بأن اللغة العربية لا تسمح بعطف الشيء على نفسه، فيقولون إن تعبير (الكتاب والحكمة) عُطف فيه لفظ (الكتاب) أي القرآن على (الحكمة) أي السنة النبوية.

لكن آية سورة الإسراء تدحض هذا التفسير المتمحل. ثم إن هناك آية أخرى أقوي في دحضه في سورة الأحزاب:

(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة: ٣٤)

فهل كان النبي الكريم يتلو على زوجاته الأحاديث إلى جانب القرآن الكريم؟

ولا ينتبه أصحاب هذا المنحى في تفسير (الحكمة) أنهم – بغير وعي منهم ولا إدراك – ينتقصون من قدر كتاب الله تعالى، إذ ينزعون منه (الحكمة).

وللحديث بقية

ورمضان كريم

الثلاثاء ٤ رمضان ١٤٣٨

قلوب مغلقة وآذان صم

لا تقتصر الحكمة في القرآن المجيد على سورة الإسراء التي لما نزل في صحبتها في هذه اليومية، بل تتعداها إلى كثير من سوره الأخرى.

وإلى جانب الحكم التي استعرضنا جزءا منها، تصور آيات السورة – رسما بالأحرف – شعور مشركي مكة عندما كانوا يسمعون القرآن من النبي عليه السلام، وحماية الله تعالى له من إرادتهم الأذى به:

(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا: ٤٥)

فيحُول الله بينك وبينهم فلا يرونك. فكأنهم يسمعون أصوات التلاوة، ولكنهم لا يرون من يتلو. وقد تكون حيلولة الله بينك وبينهم حيلولة إدراك، فلا يفهمون ما تقرأ، وفي هذا أيضا ستر بينك وبينهم.

ولكن كيف يستقبلون ما يسمعون؟ هل يصغون إليه؟ وهل يفهمونه؟ مع ما في قلوبهم من بغضاء وحقد وضغينة على النبي الكريم، الذي زعزع برسالته سلطانهم وسطوتهم؟

(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا: ٤٦)

وهنا نجد أن وسيلتي السمع والإدراك، الأذن والعقل – الذي عبر عنه القرآن هنا بلفظ القلب لارتباط الإدراك بالعاطفة عند السماع – لدى مشركي مكة منغلقتان: فكأن على قلوبهم أغطية، وفي آذانهم صمم.

(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده، ولوا على أدبارهم نفورا: ٤٦)

وما أجمل هذا التصوير الراسم لسرعة فرارهم وجريهم عند سماع ذكر الله تعالى – الذي زلزل عقائدهم الهشة، وحطم أصنامهم الصماء البكماء التي لا تبين – وقلوبهم مفعمة بالنفور.

ويعلم الله بسرائر هؤلاء عندما يستمعون إلى القرآن مستهزئين ساخرين، ويعلم أيضا بما يدبرون لمحمد في خلواتهم وما يتهمونه به من مرض عقلي بسبب السحر، بحسب ما يتصورون:

(نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا: ٤٧)

ولقد حاول مشركو مكة إبعاد محمد عما يوحَى إليه وإغراءه بكل وسيلة. لكن الله تعالى ثبت قدمه. فهو بشر قد يخضع للإغراء، وفي الآيات أيضا شيء من التحذير للنبي الكريم. وهذه هي القصة كما ترسمها آيات سورة الإسراء:

(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أحينا إليك، لتفتري علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا: ٧٣)

(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا: ٧٤)

(إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا: ٧٥)

(وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها، وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا: ٧٦)

ومع هذه الفتنة التي يفتعلها مشركو مكة، تكون الصلاة وتكون تلاوة القرآن الكريم ليلا، والاستعاذة بالله تعالى بالدعاء خير ملتجأ:

(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا: ٧٨)

(ومن الليل فتهجد به: ٧٩)

(وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا: ٨٠)

ومن بين أساليب فتنة النبي التي كان يتبعها أهل مكة من المشركين ومن بعض أهل الكتاب، محاولة إحراجه بطرح أسئلة عويصة عليه:

(ويسألونك عن الروح. قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا: ٨٥)

وتعقب هذه الآية آية أخرى تهدف إلى تثبيت قلب النبي، الذي قد لا يدرك أن في هذا القرآن الذي يوحى به إليه رحمة له وفضلا من الله. إذ إن الله قادر على محو القرآن من صدره ولن يستطيع أي أحد إرجاعه:

(ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا: ٨٦)

(إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا: ٨٧)

ثم تواصل الآيات رسم صور التحدي الأخرى التي واجهها النبي الكريم من قومه، وكيف ألهمه الله الرد عليها. ولذلك حديث آخر إن شاء الله تعالى.

ورمضان كريم

الأربعاء ٥ رمضان ١٤٣٨

النبوة في نظر أثرياء مكة

فصّلت سورة الإسراء بعض الشيء في وصف القرآن الكريم في غير موضع منها حتى تثبّت قلب النبي الكريم في مواجهة اتهامات المشركين ومحاولتهم بث الشك في نفسه عليه السلام.

فهذا الكتاب نزل بالحق، وكان تنزيله مفرّقا بحسب الأحداث، ويجب أن يتلقاه الناس على مهل حتى يعوا ما فيه ويستطيعوا حفظه.

(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا: ١٠٥)

(وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا: ١٠٦)

وهو كتاب هداية، فيه قصص الرسل والأنبياء السابقين، وفيه أمثال، وعظات وحِكم تذكرة للناس. وفيه أيضا شفاء ورحمة لمن آمن قلبه. لكن من كفر انصرف عنه قلبه، بل نفر منه وازداد خسرانا وكفرا.

(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا: ٩)

(ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا: ٤١)

(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا: ٨٩)

(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا: ٨٢)

ولا يستطيع الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بما يماثل هذا القرآن المجيد بتركيبه اللغوي المعجز، وبمحتواه المبهر المنير. ولا شك أن في هذا الإعجاز تعضيدا لنفس النبي الكريم.

(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا: ٨٨)

ومن يدرك جلال القرآن وعظمته يؤمن به، بل يخر سجودا لله تعالى الذي نزله.

(قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا: ١٠٧)

وقد حاول مشركو مكة الطعن في القرآن فلم ينالوا منه. وهداهم عنادهم إلى محاولة تعجيز هذا النبي بطرح مطالب يعلمون أن محمدا لم يبعث لتلبيتها. وهي مطالب يحلم بها أصحاب الجاه والسلطان في مجتمع البادية وفي الصحراء: ينابيع متفجرة، أو بستان من النخيل والأعناب، تقطعه الأنهار.

(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا: ٩٠)

(أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا: ٩١)

وإن لم يستطع، أو إن لم يُرد، فليأت له ببيت من ذهب، أو فليصعد أمامنا إلى السماء، لكنا لن نؤمن بصعودك إلا إذا أنزلت علينا من عل كتابا نقرؤه.

(أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتابا نقرؤه، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا: ٩٣)

ويبلغ العناد حده لدى طغاة مكة فيطلبون من محمد أن يسقط عليهم السماء ركاما إن استطاع، أو أن يأتي بالله – حاشاه جل وعلا – والملائكة جماعات جماعات.

(أو تسقط السماء، كما زعمت، علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا: ٩٢)

وما كان رد محمد عليه السلام – الذي علمه ربه وهداه – إلا أن كرر على مسامعهم:

(هل كنت إلا بشرا رسولا: ٩٣)

وهذا ما يثير غيظ الطغاة المعاندين، الذين لا يحبون أبدا أن يفوتهم أي جاه أو مجد، وهم يحسبون أن النبوة والرسالة جاه وسلطان حُرموا منه، وخُص به محمد. وربما يكون انزعاجهم من إرسال الرسالة على بشر، هو ضحالة عقولهم التي لا تؤمن إلا بما هو معجز خارق لقدراتهم. وذلك لتكبرهم واعتقادهم أنهم أولى بكل شيء حتى لو كان النبوة أو الرسالة، إن نزلت على بشر، وهل هناك بشر – بحسب كبريائهم – أعظم منهم؟

(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا: ٩٤)

أما الحجة الأخرى فهي كيف يرسل الله ملكا رسولا، وليس في الأرض ملائكة يمشون على الأرض؟ فما يطلبون ليس سوى تعجيز واهٍ لمحمد.

(قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا: ٩٥)

ورمضان كريم

الخميس ٦ رمضان ١٤٣٨

لا إكراه للناس

ما زلنا نعيش مع القرآن الكريم في عهده المكي، ونتدبر في اليوم آيات سورة يونس، وهي السورة الحادية والخمسون من حيث النزول.

في الآية الثانية من السورة نرى اتهاما قديما جديدا للنبي الكريم، وهو أنه ساحر. وتتساءل الآية، ما هو العجب في أن يرسل الله سبحانه وتعالى رجلا لينذر ويبشر الناس:

(أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم، أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا: ٢)

لكن جواب الكافرين كان مُعدا وسريعا:

(إن هذا لساحر مبين: ٢)

لأنهم لما لم يستطيعوا الطعن في شخص النبي الكريم، ولا في القرآن المجيد، لجأوا إلى إطلاق الاتهامات جزافا ليدرأوا هذا القرآن عنهم.

ولذلك كان رد فعلهم عند سماع آياته وهي تتلى هو رفضها دون تفكير. وطلبوا من محمد عليه السلام أن يأتي بقرآن غير هذا، أو أن يبدله بآخر، وكأنه هو الذي يكتبه.

(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله: ١٥)

وما كان جواب محمد إلا بسطا للحقيقة التي يتغافل عنها مشركو مكة، ألا وهي أنه رسول يُوحى إليه ومكلف بمهمة، ولا يستطيع عصيان ربه:

(قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم: ١٥)

وبذلك ينفي محمد عن نفسه افتراء القرآن، مؤكدا أنه ليس بساحر، بل هو “رجل” كُلف بمهمة اختير لها. وليتدبر هؤلاء المعاندون وليتفكروا: لقد لبث محمد بينهم أربعين عاما، إنسانا طبيعيا، ولم تظهر عليه أمارات أي مرض أو سحر:

(قل لوشاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، أفلا تعقلون: ١٦)

(فمن أظلم ممن افترى على الله الكذب، أو كذب بآياته: ١٧)

ولما دحضت تهمتهم للنبي، ورُدّ مطلبهم، كشفوا عن حقيقتهم في مطلب آخر جديد. فهم ماديون لا يؤمنون إلا بما يرون أو يلمسون أو يسمعون، ولذلك طلبوا “آية” مادية غير القرآن، كناقة صالح مثلا:

(ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه: ٢٠)

ولكن رد الله عليهم على لسان نبيه الكريم كان مثبتا لبشرية محمد الذي لا يعلم الغيب وداعيا لهم في سخرية إلى مشاركته الانتظار:

(فقل إنما الغيب لله، فانتظروا إني معكم من المنتظرين: ٢٠)

ويتكرر في السورة حواران: خطاب الله تعالى لنبيه الكريم، وخطاب محمد لقومه. ولذلك تتكرر ألفاظ “قل”، و”يقولون”، و”قال”. وكم كان محمد أمينا على ما يوحى إليه، فلم يغير حتى لفظا واحدا، ولو كان “قل”.

ويدور خطاب النبي الكريم مع قومه حول ما يلمسون في حياتهم: من رزق الله لهم من السماء وفي الأرض، وما في أنفسهم من سمع وبصر، وما يرونه كل يوم من موت وولادة.

ويتطرق الحوار أيضا لاتهام المشركين له بافتراء القرآن، وتحديه لهم بأن يأتوا ولو بسورة مثله. وغالبا ما ينتهي الحوار بتكذيب قومه وعنادهم، ولطف رد فعل محمد معهم الذي يدع أمره وأمرهم لله تعالى.

ويصف الحوار كذلك كيف يتلقى مشركو مكة حديث محمد بلا مبالاة وسخرية، فلا يسمعون ولا يرون وكأنهم صم وعمي.

ويؤكد محمد عليه السلام دوما في خطابه لقومه أنه لا يملك ضرا ولا نفعا، وأنه مبلغ لرسالة كلف بها. وأحيانا ما يُطلب منه أن يتلو عليهم من قصص الرسل السابقين حتى يتعظوا، مثل قصة نوح مع قومه هنا في سورة يونس، وقصة موسى، وقصة يونس.

أما خطاب الله تعالى لنبيه الكريم عليه السلام ففيه دائما طمأنة وتثبيت له، بذكر ما لاقاه الرسل من قبله، وفيه أيضا دعم له بالحجة للرد على قومه. وفيه كذلك شد من أزره وسط ما قد يساوره من حزن على قومه، بسبب عنادهم ورفضهم للحق وإصرارهم على الباطل.

(ولا يحزنك قولهم …: ٦٥).

وهنا يبرز الصراع الذي يدور في نفس النبي الكريم، صراع بين حرصه وتفانيه في إبلاغ الدعوة لقومه، الذين يود لو آمنوا كلهم جميعا، وبين حرية الناس في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا، التي كفلها الله لهم.

(ولوشاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين: ٩٩)

ولذلك يأمر الله تعالى نبيه بأن يعلن للناس أنه لا يعبد ما يعبدون، لكنه لا يستطيع إكراههم على ما يعبد.

(قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني، فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله: ١٠٤)

(قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل)

وقد ينسل الشك أحيانا إلى نفس النبي – وهو بشر – في صحة ما يأتيه. لكن الله تعالى يأخذه بيده ويدله حتى يتيقن:

(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين: ٩٤)

(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين: ٩٥)

وتختتم السورة ببيان موجز معجز للنبي الكريم، يتلخص في مواصلة اتباع ما يوحى إليه، والاستعانة على ذلك بالصبر:

(واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين: ١٠٩)

الجمعة ٧ رمضان ١٤٣٨

لولا أنزل عليه كنز!

في سورة هود – وهي السورة المكية الثانية والخمسون من حيث النزول – تتكرر المواقف نفسها التي وردت في سور سابقة، ويتردد الخطاب ذاته. إذ لا يزال النبي الكريم يكافح عناد قومه وعنتهم، وإصرارهم على اتهامه بالافتراء. بيد أنه مازال يخشى على قومه بسبب حبه – عليه السلام – لهم.

(وإن تولوا فآني أخاف عليكم عذاب يوم كبير: ٣)

والصورة التي ترسمها آيات هذه السورة ببساطة هي أن أثرياء مكة وأصحاب الجاه والسلطة فيها مازالوا يقفون مصرين في صدود أمام تلك الدعوة الجديدة التي جاء بها محمد. وبالرغم من أنه لا يريد سلطة ولا سلطانا، فإنه زعزع الأرض من تحت أرجلهم، بعد أن كشف بلطف عورتهم وسفاهتهم وعبادتهم حجارة أصناما من دون الله تعالى.

وليس محمد سوى بشر نذير وبشير كلفه الله برسالة يواجه في سبيلها المشاق، ولذلك يأتيه الوحي من وقت لآخر بما حدث لرسل وأنبياء سابقين له، ويروي له ما حل بهم من عواقب بسبب تكذيبهم وكفرهم، حتى يثبت قلبه الكريم.

(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك …: ١٢٠)

وتبدأ السورة بتأكيد مهمة الرسول:

(إنني لكم منه نذير وبشير: ٢)

(إنما أنت نذير: ١٢)

وقد يضيق صدر النبي مما يلاقيه، لأنه بشر:

(فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك: ١٢)

إذ إن أثرياء قومه يطلبون منه ما تتصوره عقولهم المادية التي تخلد إلى الأرض، وما يرون فيه تعجيزا له:

(أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك: ١٢)

ويتهمونه بالكذب والافتراء:

(أم يقولون افتراه …: ١٣)

لكن الله تعالى يرد عليهم بتحد كبير:

(قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات …: ١٣)

ووسط هذه المشقة، تروي الآيات بعد ذلك قصة نوح عليه السلام مع قومه، وقصة عاد وهود، وثمود وصالح، ولوط، ومدين وشعيب، وموسى. وهي جميعا قصص معاناة ومشقة تطلبت من هؤلاء الرسل صبرا شديدا.

(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين: ٤٩)

وهذا الصبر بحاجة إلى زاد روحي دائم توفره الصلاة:

(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك: ١١٢)

(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل …: ١١٤)

(واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين: ١١٥)

السبت ٨ رمضان ١٤٣٨

سورة متميزة

سورة يوسف التي نعيش في أجوائها اليوم سورة متميزة.

فهي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي يكاد يستحوذ على آياتها جميعا موضوع واحد، هو قصة يوسف عليه السلام. وقد تكون السورة أيضا بداية لفن القص نثرا في الأدب العربي، الذي غلب عليه فن الشعر منذ العصر الجاهلي. وكان في قصائد الجاهليين صور قصصية بسيطة يتعلق معظمها بالحيوان، أذكر منها مثلا معلقة لبيد بن ربيعة.

لكن قصة يوسف في القرآن تكتمل فيها عناصر الفن القصصي: من حكاية ذات بداية تتشابك خيوطها وتتعقد، ثم تنفك في نهاية لها، وانتقال بين الزمان والمكان في مناظر قصصية محكمة، وحوار دال بين الشخصيات يساعد في تطور أحداث القصة.

وقصة يوسف تروي حكاية نبي ابن نبي وما واجهه من غدر إخوته به، والموقف الصعب الذي تعرض له في بيت عزيز مصر، وسجنه، ودعوته لله تعالى في السجن، وبروز براعته في تفسير الأحلام التي كانت سبيل خروجه من السجن، ثم قصته مع إخوته عندما نزلوا مصر للتجارة، ونجاحه في جلب أخيه إليه، ثم لم شمله مع أبيه وأمه وأخوته في مصر وقد أصبح فيها ذا شأن وسلطان، ونصر الله تعالى له على مكائد إخوته، وغواية الشيطان وامرأة العزيز.

إنها قصة مليئة بالصراعات الكاشفة لنوازع الإنسان. ولا شك أن في رواية القرآن المجيد لها للنبي الكريم عظات وعبر وتأكيد لأن هذا القرآن إن هو إلا وحي من الله تعالى.

والآية الثانية في السورة آية دالة ترد على ما كان يردده بعض الرافضين لدعوة محمد عليه السلام، من اتهام له بتلقيه ما يقوله من أهل الكتاب.

(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون: ٢).

وأحسب أن هذه الصفة هنا (عربيا) كما أفهمها تثبت ابتعاده عن أي مصدر آخر أعجمي.

وتؤكد الآية التالية تفرد هذا المصدر بوصفين آخرين في قوله تعالى:

(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين: ٣)

وهذان الوصفان هما (أحسن القصص) إذ إن قصة يوسف كما أوحيت إلى النبي الكريم مختلفة في بعض جوانبها عن القصة التي جاءت في سفر التكوين في التوراة. أما الوصف الثاني فهو (لمن الغافلين)، وهو يدل أن محمدا عليه السلام لم يكن يعرف القصة، وأنه بريء من اقتباسها من مصدر آخر.

ثم تؤكد آية ثالثة ذلك في أواخر السورة:

(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون: ١٠٢) 

وفي قصة يوسف مثال جلي على مسألة بشرية الرسل، التي سنقف عندها فيما بعد، إذ إنهم جميعا رجال، أي بشر، يوحي إليهم ربهم.

(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى: ١٠٩)

وتختتم السورة بذكر هدف هذا القص:

(لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون: ١١١)

الأحد ٩ رمضان ١٤٣٨

بشرية الرسل

تثير سورة يوسف لديّ بما تحتويه من صراعات بشرية وغواية وغدر وصبر وعَوْذ بالله تعالى، مسألة “بشرية الرسل” في القرآن الكريم. وهي قضية أساسية تركز عليها سور الكتاب وآيه، من بدايته إلى نهايته.

وقد يبعث اختيار الله تعالى لرجل من بين بني قومه لتكليفه بمهمة الرسالة، وإنشاء صلة بينه وبين الله بواسطة الوحي في أذهان بعض الناس أوهاما من القداسة يسبغونها على هذا الرجل المكلف. ويزداد خطر تقديس الرسول، وأحيانا تأليهه، إذا منحه الله تعالى القدرة على الإتيان ببعض المعجزات الخارجة عن نطاق قدرة بني البشر. ولذلك حرص القرآن المجيد في آياته على تأكيد بشرية هؤلاء الرجال المصطفين كافة في غير آية.

وتمثل تأكيد القرآن على بشرية الرسل في أمرين:

أولهما: بيان صفاتهم البشرية

وثانيهما: القصص القرآني

صفات البشر:

فهؤلاء الرسل جميعا رجال يختارون من بين أقوامهم: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون: المؤمنون ٣٢)

وهم مثل غيرهم من البشر يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: الفرقان ٢٠)

وهم أيضا معرضون للموت أو القتل: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم: آل عمران ١٤٤)، وفي انقلاب أصحاب الرسول على أعقابهم، وعدم تصديقهم بموته إشارة إلى اعتقادهم، ولو إلى حين، أنه ليس بشرا عاديا. وكان في قولة أبي بكر – رضي الله تعالى عنه كما وردت في الأثر – عندما مات النبي عليه السلام تثبيت لقلوب أصحابه الذين أصابهم الذهول، عندما قال: (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).

فهم إذن بشر مرسلون (… قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا: الإسراء ٩٣).

وبشرية الرسل ذاتها دفعت بعض الناس – من الماديين الذين لا يتخيلون الرسول إلا ملَكا من الملائكة – إلى رفض رسالة النبي الكريم عليه السلام: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا: الإسراء ٩٤).

وقد يكون وراء هذا الرفض، لو أنعمنا النظر فيه، غرور هؤلاء الرافضين الذين يتصورون أنفسهم أفضل بني جلدتهم، بما لديهم من ثراء وجاه وسلطان، فكيف تفوتهم الرسالة، ويكُلف بها بشر غيرهم. ولم يخفوا هذه الأثرة، بل قالوا بها صراحة: (وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم: الزخرف ٣١). ورفض هؤلاء يؤكد مرة أخرى أهمية التركيز على بشرية الرسل، فهناك من لا يرونهم إلا ملائكة.

القصص القرآني:

رأينا خلال صحبتنا لسور القرآن الكريم كيف يروي الله تعالى على محمد عليه السلام قصص غيره من الرسل السابقين ليثبت به قلبه. فقد واجه هؤلاء الرسل – كما واجه محمد من قومه – عنادا وعنتا وعداء من أقوامهم، لكنهم صبروا وفازوا وعلت كلمة الله، ولم تكن عاقبة أقوامهم إلا الدمار والخسران. ولا شك أن هذا القصص عضّد قلب النبي الكريم خلال الدعوة، وفت في الوقت نفسه في عضد قومه الذين كانوا يسمعونه هو وأصحابه يتلون ذلك القصص.

بيد أن للقصص القرآني – في رأيي – هدفا آخر مهما، ألا وهو التأكيد على “بشرية الرسل” الذين تروي الآيات قصصهم. إذ إنهم جميعا بشر، عرضة لزلات البشر لأن فيهم نواقص البشر. لكن ما يميزهم – عليهم السلام – هو رباطهم بالسماء عن طريق الوحي.

فآدم عليه السلام عصى ربه: (وعصى آدم ربه فغوى: طه ١٢١) عندما أكل من الشجرة واستجاب، لأنه بشر، لغواية إبليس. لكن الله تعالى غفر له (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: البقرة ٣٧).

وموسى عليه السلام قتل رجلا: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه: القصص ١٥). فاستمالته العصبية لأنه بشر فناصر من ينتسب إلى شيعته وقتل الرجل الآخر. لكنه أدرك خطيئته: (قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين: القصص ١٥).

وسليمان عليه السلام فتنه حب الخيل، فهو بشر، فأخذ يستعرضها حتى غروب الشمس ونسي ذكر ربه والصلاة وأقر بذلك (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب: ص ٣٣). وأمر بالخيل فردوها عليه (ردّوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق: ص ٣٣) فذبحها وقطع أرجلها تقربا لله تعالى.

ويوسف عليه السلام تعرض للغواية (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك: يوسف ٢٣) وقد مالت نفسه قليلا، فهو بشر، لكن الله تعالى أنقذه (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء: ٢٤)، وقيل إنه رأى صورة أبيه فرجع عما همّ به.

وكانت أسر هؤلاء المصطفين الأخيار مثل غيرهم من بني البشر. فابنا آدم عليه السلام قتل أحدهما الآخر بسبب الغيرة. ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافرا، ونوح عليه السلام رزق بولد غير صالح، ولوط عليه السلام كانت زوجته غير مؤمنة. ووقع أبناء يعقوب عليه السلام في الكذب والغدر بأخيهم.

وهكذا يجد من يتدبر قصص القرآن الكريم نماذج كثيرة مصورة لبشرية الرسل في نواح مختلفة، إذ يريد الكتاب المبين أن يلفتنا إلى هذه الطبيعة في الرسل حتى لا نقع في خطيئة تقديسهم أو تأليههم، ونغفل عن أنهم مختارون من بيننا، لكنهم يُوحى إليهم من السماء. فهم مربوطون بالسماء برباط الوحي، وهم في نقل هذا الوحي لا ينطقون عن الهوى. وهم من أجل نقل هذا الوحي وتبليغ الرسالة معصومون من كيد الناس ونكايتهم بحماية الله تعالى.

الاثنين ١٠ رمضان ١٤٣٨

إنا كفيناك المستهزئين

لم يكن في حياة من كفروا برسالة محمد عليه السلام ورفضوها – كما تصورها آيات القرآن الكريم في سورة الحجر – شيء روحي، فهم ينكبون على الأكل والمتعة، ولا يؤمنون إلا بالأمور المادية. وتخاطب آيات السورة النبي الكريم قائلة: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون: ٣)

وهم بسبب هذه الطبيعة المادية التي تفتقد إلى الروحانيات يتخيلون أن الرسل لا يمكن أن يكونوا إلا ملائكة. ويقولون للنبي: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين: ٧). ويرد عليهم القرآن مهددا (ما ننزل الملائكة إلا بالحق، وما كانوا إذا منظرين: ٨)، فالملائكة لا ينزلها الله تعالى إلا لتنفيذ أمره، ولو أنزلها الله عليهم كما يطلبون لكانوا من المهلكين.

ويسخر مشركو مكة من النبي الكريم ويتهمونه بالجنون: (وقالوا يا أيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون: ٦). وهم لا يقدحون في عقله عليه السلام، لكنهم يتهمونه بالجنون إن تصور أنهم سيؤمنون به وبرسالته وهو بشر، ويَدَعُوا في سبيله آلهتهم التي ظلوا لها عابدين.

وفي آيات السورة تصوير حي لعناد المشركين، الذي أضحى طبعا من طباعهم، وأصبح معه انصياعهم للدعوة أمرا ميؤوسا منه: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سُكّرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون: ١٤-١٥).

وحتى لا تضعف عزيمة النبي الكريم، بسبب ما يقولون، ولا يضيق صدره – والله تعالى يعلم بما يساوره – (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون: ٩٧) يطمئنه جل شأنه بأنه حسبه، ويتولى حسابهم: (إنا كفيناك المستهزئين: ٩٥) في حياتك، ويوم القيامة: (فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون: ٩٢-٩٣).

وفي السورة الكريمة آية مصورة للمجتمع الذي عايشه نبينا الكريم عليه السلام: حيث تتباهي فيه ثلة قليلة بالثراء والسلطة. وقد تجتذب النعمة التي كانت تحيى فيها هذه الثلة عيون الآخرين فيتمنونها، وربما ساور محمد هذا، وهو بشر. لكن الآية تنبهه إلى ما أنعم الله به عليه، ولم ينله أغنياء قومه: (لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم: ٨٧). فقد شرف الله نبيه الكريم بهذا القرآن العظيم، ولا تساوي النعم التي يتمتع فيها أغنياء قومه شيئا أمامه: (ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم: ٨٨).

والأولى أن تثير حالهم الشفقة، إذ إن متاعهم إلى زوال. وربما أحس محمد عليه السلام بشيء من هذا في قلبه، فهم قومه، لكن القرآن يخفف عنه قائلا: ليس هناك مدعاة لأن تحزن فهم مصرون على العناد: (ولا تحزن عليهم: ٨٨).

وتدعو آيات السورة النبي إلى التحلي بالصفح: (فاصفح الصفح الجميل: ٨٥)، ولين الجانب: (واخفض جناحك للمؤمنين: ٨٨).

ثم تذكرنا السورة بمهمة النبي الأساسية التي ينبغي أن يعلنها لقومه: (وقل إني أنا النذير المبين: ٨٩). وهو بأداء هذه المهمة مأمور، مهما كان رد فعل المشركين: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين: ٩٤).

وتختتم السورة بقسط من التربية الروحية له عليه السلام يتمثل في تسبيح الله تعالى والسجود له وعبادته جل شأنه: (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين: ٩٨-٩٩).

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.