لا يستطيع الخروج على التقاليد إلا أصحاب النفوس الكبيرة والعزائم العظيمة. وصديقتي الصحفية الفلسطينية من هذا الصنف من الناس. فبالرغم من نكبتها في بلادها التي سرقها الصهاينة متمسحين بالدين، فقد ارتقت صديقتي إلى علياء إنسانيةٍ ساميةٍ وارتبطت بأكثر من صداقة مع يهود لم تدنسهم عنصرية الصهيونية، يناصرون حقوق الفلسطينيين، ويجاهرون برفض ترهات إسرائيل. ولَم تعاد اليهود لأنهم يهود، فليس اختلاف الدين – في رأيها – هو معيار العلاقات.
وكم أكبرت هذا في صديقتي.
فنحن – في كثير من بيئاتنا فيما عهدت – نتربى على أن يكون معيار الحب والكره لدينا هو “الدين”، فالمسلم يحب المسلمين فحسب ويكره من عداهم، أو على الأقل ينظر إليهم نظرة دونية. والمسيحي يحب المسيحيين فقط، ويعادي سواهم، أو على الأقل ينظر إليهم نظرة دونية.
والتقت الصحفية خلال دراستها في جامعة بريطانية بطالب يهودي. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يلتقي فيها هذا الطالب اليهودي بطالبة فلسطينية. وحدث بينهما اشتباك ثقافي خلال حفلة طلابية، عندما قدم الطالب طبقا غذائيا هو الفلافل مدعيا أنه طبق إسرائيلي. ودار نقاش بين الطالبة الفلسطينية والطالب اليهودي عرفت الطالبة بعدها أن هذه هي أول مرة يقابل فيها زميلها فلسطينيا. ونشأت علاقة بين الاثنين وتوطدت. وآثر الطالب بعد إنهاء دراسته العليا البقاء في بريطانيا بسبب عنصرية إسرائيل، وهو الآن أستاذ معروف في جامعة بريطانية، ولا تزال تربطه بصديقتي علاقة ود.
ثم تعرفت صديقتي الفلسطينية على سيدة يهودية في العقد الثامن من عمرها، تصغر والدتها بسنوات قليلة، في مؤتمر لمناصرة الفلسطينيين في بريطانيا. وتوثقت علاقتهما. وكانت تلك السيدة عازفة بيانو رائعة، ومثقفة مستنيرة، ونشطة سياسية دؤوبة. وظلت تلك السيدة تراسلها أسبوعيا تقريبا تحدثها عن آخر قراءاتها، وتحكي لها أجزاء من قصة فرارها هي وعائلتها من النمسا خلال الحرب العالمية الثانية، هروبا من النازية ومجيئها إلى بريطانيا، وحكاياتها مع الصهيونيين الذين كانوا يرسلون لها برسالات تهديد كلما كتبت في صحيفة الـ(جارديان) مؤيدة للفلسطينيين، أو رافضة لعنصرية إسرائيل.
وتوطدت العلاقة أكثر وأكثر بين صديقتي وتلك السيدة اليهودية النشطة، حتى كانت صديقتي الفلسطينية تتحدث عنها واصفة لها بأنها “أمي اليهودية”. ورتبت صديقتي للقاء بين أمها الفلسطينية و”أمها اليهودية” في شقتها. وحضرت جانبا من هذا اللقاء التاريخي، وكانت صديقتي تحدثني عن أملها – بعد هذا اللقاء – في إعداد برنامج وثائقي تروي فيه كل منهما تاريخ حياتها، ومن خلاله تروي جزءا من حكاية فلسطين. لكن يد القدر سبقتها.
وحزنت صديقتي حزنا شديدا عندما علمت بوفاة هذه السيدة الإنسانة الراقية. وأحست – كما روت لي – بفقد نصير وسند كان يدعمها. وتوقفت الرسائل، لكنها ظلت على علاقة بابنة تلك السيدة. وكانت الابنة معلمة موسيقى تدرس آلة الكمان.
ولكنها لم تكتف بتعليم الموسيقى، هذا الفن الإنساني الراقي، الذي ورثت حبه من أمها، إذ كانت أيضا نموذجا إنسانيا نشطا في مكافحة العنصرية، تسير على الدرب نفسه الذي قطعت أمها منه أشواطا.
قبل أيام قليلة فجعت صديقتي الفلسطينية بنبأ وفاة الابنة التي ظلت تدرس الموسيقى، وتكافح العنصرية حتى الأسبوع الأخير من حياتها بعد أن صرعها السرطان.
ولَم تستطع صديقتي الصحفية الفلسطينية الكتابة لا عن “أمها اليهودية، ولا عن ابنتها، فقد جزعَها ألمُ الفقد. فقد قُطعت تلك الشجرة بعد وفاة الابنة.
لكن صديقتي الصحفية – ناهد نجار – لم تثنني عن الكتابة عنهما.
رحمهما الله رب العالمين.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.