يوميات حاج (أكتوبر-نوفمبر ٢٠١٢)

يوميات حاج

مقدمة                                

هذا تقديم ضروري لتلك اليوميات، فكثير من القراء قد لا يعرف كاتبها، وربما يسيء فهم القصد من ورائها.

أما اليوميات فقد كتبت خلال رحلة الحج التي يسرها الله تعالى لي هذا العام (١٤٣٣ – ٢٠١٢)، وكنت أنشرها على صفحتي على فيسبوك بعد كتابتها على هاتفي المحمول مباشرة. وقد صورت اليوميات آرائي وردود فعلي على ما رأيته وخبرته وسمعته خلال تلك الرحلة العظيمة. ولم أكن ألبتة أسعى إلى الإساءة إلى أحد، أو جهة، أو بلد، وإنما كان دافعي هو السعي إلى الإصلاح لبعض المظاهر التي أحسب أن بإمكان القائمين على شؤون بلادنا ومقدساتنا تغييرها، أو بعض الأفكار والأوهام التي رغبت في تنبيه قراء اليوميات إلى التفكر في أمرها لإدراك عدم صحتها، وضرورة اقتلاعها من أذهاننا.

وليعلم قارئ يومياتي أنني مسلم ملتزم، لكنني أعمل دوما على تدبر ما أقرأ، وإعمال العقل -هبة الخالق العليم لنا نحن البشر- فيه، وما أسمع، وما أرى. وقد خلعت ثياب القدسية عن أي عالم من علماء الماضي الأجلاء، أو أي رأي أو كتاب أو رسالة قال به أو كتبه هذا أو ذاك من العلماء، فهم جميعا بشر يصيبون ويخطئون، ولنا أن نناقش أراءهم وأفكارهم ونضعها في ميزان القرآن والعقل، فنأخذ منها ما اتفق وهذين المعيارين، ونرد منها ما خالفهما.

ولذلك فقد يواجه قارئ اليوميات بآراء قد تصدم ما وقر في ذهنه على أنه مسلمات. وأرجو القارئ هنا أن يتأنى قبل إصدار حكم متسرع على اليوميات أو كاتبها، وليتدبر القضية بذهن مجرد ثم ليحكم بعد ذلك.

وأخيرا ألفت انتباه قارئ اليوميات إلى أن مقاصد الشريعة أمر مهم ينبغي أن يضعه القارئ في الحسبان عند تلاوة القرآن وتدبره، أو عند محاولة فهم أي حكم فقهي قال به فقيه أو مفسر، وألا يقف عند حدود المعاني الحرفية للنصوص، بل يتجاوزها إلى مقاصدها التي هي الهدف الأسمى من ورائها. ولا يفوتن القارئ كذلك مبدأ آخر ذو خطر في فهم التشريع، ألا وهو ”ما جعل الله عليكم في الدين من حرج“.

وأترك لك أيها القارئ الكريم اليوميات لتتصفحها آملا أن يكون فيها نفع. وما يثلج صدري هو أن تثير الفكر لديك سيدي وسيدتي، حتى وإن وقفت بعد قراءتها في الجانب الآخر معارضا رأيي.

٧ أكتوبر ٢٠١٢

في البدء

قبل فترة غير قصيرة اعتزمت أداء شعيرة الحج، ولم يشأ لي المولى عز وجل أداءها إلا هذا العام ٢٠١٢.

دعتنا الشركة المنظمة إلى اجتماع لتعريفنا ببعض الأمور المهمة قبل بدء الرحلة ذاتها.

لفت نظري أمران عندما حضرت أنا وزوجتي ذلك الاجتماع.

أولهما دعوة المنظمين إلى الفصل بين الرجال والنساء في الجلوس في القاعة، وذلك بالرغم من أن عددا كبيرا من الحضور أزواج وزوجاتهم. وأبدت زوجتي اعتراضا على ذلك، لكنهم تذرعوا بأن العدد كبير ومن الأفضل الفصل. لم تقتنع زوجتي، ولم أقتنع أنا كذلك، لأني أعتقد أن مسألة “الفصل” بين الجنسين ليست أبدا من صحيح الدين، كما أفهمه. والحج ذاته فيه دليل على ذلك، فالمسلمون، رجالا ونساء، يطوفون حول الكعبة مختلطين، والرجال آنذاك شبه عراة وهم بملابس الإحرام.

والفصل في رأيي عادة اجتماعية بدوية ليس لها بالإسلام صلة.

أما الأمر الثاني فهو مظهر المنظمين وهم أناس يعيشون في بريطانيا منذ فترة. فقد بدا مظهرهم “سعوديا”، فالشيخ الذي كلمنا عن مناسك الحج كان يلبس “الحطة” السعودية الحمراء وجلبابا أبيض. ولم يقتصر الأمر على المظهر فحسب، بل تعداه أيضاً إلى طريقة تلاوة آيات القرآن داخل الكلمة، التي ليس من المفروض فيها اتباع قواعد التجويد، فقد ألزم الشيخ نفسه بتلاوة جميع الآي بالأسلوب السعودي في القراءة، كما يمثله الشيخ السديس أو العجمي أو غيرهما.

وهو له مطلق الحرية في اتباع الطريقة التي تروقه، لكن ما يخيفني هنا هو فكرة “السيادة” التي لاحظت أنها تهيمن على عقول “المتسعودين” أو من تتلمذوا على أيدي السعوديين ومدوناتهم، إذ يعتقد أولئك وهؤلاء أن النهج السعودي -لباسا ومنهاجا- في مناحي الحياة هو “الواجب” أو “الصحيح” أو “السيد” الذي ينبغي اتباعه.

وإذا كان تحليلي هذا صحيحا فتلك مصيبة كبرى تقتل فينا إعمال الفكر والعقل والاجتهاد، وتجعلنا نسخا ممسوخة لأناس ابتعدوا -في رأيي- عن صحيح الدين وتشبثوا بقشور، حدثهم عنها محمد بن عبد الوهاب، بُنيت على فهم خاطئ لنص القرآن الكريم السمح الذي لا يتدبره من أسف الكثيرون من المسلمين.

١٨-١٩ أكتوبر ٢٠١٢

في المدينة

عودة مرة أخرى إلى موضوع المرأة، فهو موضوع مهيمن في أي رحلة إلى السعودية لزائر من الخارج.

في الحرم النبوي هناك فصل شديد الصرامة بين الرجال والنساء. ثمة أماكن خاصة للنساء لأداء الصلوات داخل الحرم، وأماكن أخرى خارج الحرم ولكن داخل نطاقه، مسورة بسور يفصلها عن بقية باحة الحرم المفتوحة التي يصلي فيها الرجال. وإذا اقتربت من تلك الأماكن لتطمئن على زوجتك وتعرف أين تصلي نهرك الحراس بغلظة “ابعد يا حاج”. وكذلك تنعم النساء بالزجر ذاته إن لم يكن أشد إذا حامت حول حمى أماكن الرجال أو بواباتها.

وفي رحلاتنا خارج المدينة أسمع النساء، قبل الرجال، يدعون إلى جلوس الرجال في مقدمة الحافلات والنساء في المؤخرة بغض النظر عن فصل الأزواج عن زوجاتهم، فهذا في نظرهن أولى اتباعا لما يظنونه الشرع.

وهنا تكمن المشكلة الكبري بالنسبة لقضية المرأة في مجتمعاتنا.

فليست الطامة في أن مجتمعاتنا -كغيرها كثير- ذكورية تهمش المرأة وأحيانا تحتقرها، وتعاملها على أنها كائن غير مستقل، بل تابع لغيره، فهي أخت وأم وابنة وزوجة، وهذا في الخطاب الإسلامي المعاصر الذي يسم نفسه بالجديد. والمرأة هنا تعتمد على رجل أخ وأب وزوج.

ليست ذكورية المجتمع هي الطامة، ولكن رضا المرأة ذاتها بالدونية، بل ترويجها لها على أنها “تكريم” من الدين.

وما دفع المرأة إلى اتخاذ هذا المنحى غير الجهل والسذاجة.

فجهل المرأة يدفعها إلي اتباع وتصديق ما يقوله الرجل أو المجتمع خاصة إذا كان باسم الدين، دون أدنى تحر منها للحقيقة.

والسذاجة تدفعها إلى قبول ما يقوله شيوخ السلطان وشيوخ البداوة واصفين إياه على أنه من الدين، وأحيانا الدين الصحيح وما عداه باطل.

ولا تختلف المرأة المتعلمة في ذلك عن غير المتعلمة فهناك أستاذات جامعيات يرفضن تفسير آية النشوز المذكور فيها الضرب على أنه ”الإعراض، ومنها الإضراب عن الطعام“، لأن هذا لم يرد في كتب وتفسيرات السلف. وليس مهما أن يتهمن الله تعالى ظلما بدعوته الرجل ضرب المرأة، وهو ما لا تؤيده أبدا آيات القرآن التي تساوي بين المرأة والرجل. مثل هذا الصنف من النساء في رأيي يحق ضربهن بالنعال القديمة، فهن سبة لبنات جنسهن.

٢٠ أكتوبر ٢٠١٢

وضاع العشاء

 

في المدينة لي أخ حبيب ربطتنا منذ سنين علاقة ود وصداقة وأخوة متينة، وهو يقيم في المدينة منذ أكثر من عشرين عاما.

عندما وصلت إلي المدينة سعيت للقائه وكنا قد انقطعت لقاءاتنا أكثر من خمسة وعشرين عاما سمعت خلالها أنه تغير كثيرا وأصبح شخصا شديد الاختلاف عمن كنت أعرفه.

تواعدنا ونزلت من غرفتي في الفندق إلى قاعة الانتظار. وأخذت أتلفت يمينا ويسارا عساني ألمح شخصا فيه ملامح مألوفة لي، لكني فشلت. وبعد لحظات وجدت شخصا في جلباب أبيض ذا لحية بيضاء طويلة يتقدم نحوي وقد غمرت وجهه السمح ابتسامة واسعة. إنه هو، وتعانقنا وجلسنا بعض الوقت نعيد التعارف. لكنني لم أسأله عن سبب التغير الذي طرأ عليه، فقد أحسست أنه في عجلة وهاتفه يرن بين الفينة والأخرى فهو ذو منصب كبير ولا بد من استشارته كل حين.

كيف أصبح فلان الذي كان مصريا ولوعا بالأغاني الأوربية ومواظبا على الاستماع إلى البرنامج الأوربي في الإذاعة المصرية ويعيش حياته شابا عاديا غير ملتزم ربما بشعائر الدين، وله من الفتيات صديقة أو أكثر، كيف تحول مثل هذا التحول؟ حتى لغة حديثة اختلفت، أصبحت مفردات الحمد والإيمان والشكر والنعمة والبركة والأحاديث النبوية أكثر المفردات تكرارا في حديثه. ولا أدري إن كان قد اتخذ من الجلباب الأبيض زيا وملبسا بعد البنطال والجينز والتي-شرت.

آثرت أن أرجئ هذه الأسئلة إلى جلسة أخرى يكون فيها متسع.

ودعاني صديقي لتناول العشاء في الغد في بيته بعد صلاة العشاء، ثم أردف ”نحن نفصل بين القوات يا محمد، ستجلس زوجتك مع زوجتي ونجلس نحن معا لنستكمل حديثنا“.

لم أبد اعتراضا على قبول الدعوة وتفارقنا. لكنني أردت أن أعبر عن وجهة نظري، كما أعطيته الفرصة للتعبير عن رأيه، فتحدثت إليه في المساء هاتفيا وأبديت رأيي.

أود أن تعلم يا أخي أني غير مقتنع بوجهة نظرك في “فصل القوات” وذلك لأسباب.

أنا أحسب أن تلك عادة بدوية ولا علاقة لها بالإسلام، ولا أرى أنه من اللائق اجتماعيا أن أجلس في مكان خلال العشاء بينما تجلس زوجتي في غرفة أخرى مع سيدة تلتقي بها لأول مرة، وكيف سأتعرف على أسرتك إن ظل كل فريق في غرفة.

فكرتا الفصل والنقاب – فقد علمت أن زوجته منتقبة- فكرتان تناقضان آي القرآن الكريم الذي يمكن تحديد هدفه في خلق ما أسميه “وئاما اجتماعيا” بين أفراد المجتمع.

القرآن دعا الرجال والنساء جميعا إلى غض البصر، وهذا بالضرورة -إلى جانب فكرة إشاعة الوئام الاجتماعي- يعني تلاقي الرجال بالنساء في تجمعات أو اجتماعات والنساء بالضرورة غير منتقبات وإلا لماذا غض البصر.

وصديقي كان ينوي القدوم بسيارته ليصحبنا إلى بيته، فكيف يسمح لنفسه وهو بمثل هذا الالتزام بالجلوس مع زوجتي في السيارة؟ أليس في هذا تناقض؟

ثم دعك من كل هذا كله واقرأ صديقي آي القرآن في سورة النور آية ٦١ التي تتحدث عن الأكل من بيوت الأهل والأقارب، ووضع القران الصديق فيها ضمن المجموعة وسمح بالأكل من بيوت هؤلاء جميعا وبالأكل جميعا أو أشتاتا. هل من نص أصرح من هذا.

لم يرد صديقي إذ لم يعجبه قولي على ما يبدو، وضاعت علينا “العشوة” التي كانت تضم بين أطباقها الملوخية.

٢١ أكتوبر ٢٠١٢

النظافة من الإيمان ولكن !

علمونا صغارا أن النظافة من الإيمان، والحق أقول لكم أن نظافة الحرم النبوي أمر ملحوظ إلى درجة أن كثيرا من مرتاديه إما يصلون على البلاط في باحته وإما ينامون بين أوقات الصلوات طلبا للراحة أو لضيق ذات اليد. وقد شاهدت عمال النظافة بنفسي وهم يروحون بمركباتهم جيئة وذهابا منظفين باحة الحرم الواسعة بعد الحادية عشرة مساء. وسررت لهذا ولم أرَ غضاضة أبدا في الصلاة مفترشا أرض الحرم الملساء وملتحفا مظلاته التي تفتح وتغلق بطريقة آلية لحماية المرتادين من الشمس الحارقة أو الأمطار. في الحرم إذن ترى صدق المقولة السابقة.

أما خارج الحرم النبوي، وقد أتيحت لنا فرصة زيارة جبل أحد ومقابر شهداء أحد، وصلينا هناك المغرب، فالقصة مختلفة بل مقززة. ورأيت هذا أيضاً في رحلة الذهاب إلى الميقات في الطريق إلى مكة في المساجد الصغيرة. النظافة هنا ليست جزءا من الإيمان، بل إن بيوت الله في مثل تلك المناطق أبعد ما تكون عن النظافة. الطرقات إليها كلها حفر تغطيها مياه سوداء اللون فجة الرائحة، بل إنني شممت رائحة المجاري، وأنا أصلي في مسجد صغير في منطقة أحد.

وساءلت نفسي أنحن في بلد فقير؟

كيف تترك الدولة مثل هذه المناظر والروائح في مزارات يرتادها الحجيج والمعتمرون؟

أم أنهم يظنون أن انشغال المرتادين بالعبادة لن يلفتهم إلى هذا كله؟

في الفندق الذي أقمنا فيه في المدينة -وهو ذو نجمات أربع- طلبنا من عامل النظافة مزيدا من المناشف فقال بلهجة بنغالية وعربية مبنغلة ”ليش أنتِ أوز مناشف، إنتِ هون “للإبادة”، وهو طبعا يقصد العبادة، فالعبادة في نظره لا تتماشى والنظافة.

٢٣ أكتوبر ٢٠١٢

التعددية والتوحد

 

من أوضح مظاهر الحج التي لفتتني التعددية. تجد بين مرتادي الحرمين النبوي والمكي أناسا من كل بلد، ومن القارات كافة ومن الجنسيات قاطبة.

قبيل الصلوات كنت أنظر إلى ملابس مرتادي المساجد فأجد الجلباب الباكستاني بسرواله وقميصه، والجلباب المصري المعروف في ريف مصر، والبنغالي والهندي، والزي الأوربي ببنطاله العادي وقميصه، أو بالجينز والتي شيرت، والشورت الذي يغطي الركبة، ثم لباس الإحرام الأبيض بأنواع متعددة لا تدركها العين إلا عن قرب.

وترى معرضا من الألوان وإن غلب عليها الأبيض. وفكرت مرة أن أصور أنواع غطاء الرأس الذي رأيت فيه تنوعا مبينا، فترى تباينا كبيرا بين طاقيات المصلين، البيضاء والخضراء والبنية والحمراء والمزركشة والمطرزة والمشقوقة من الأمام وغير المشقوقة، بل حتى المكسيكية الحامية من الشمس. ولم أتمكن من تحقيق فكرتي حفاظا على خصوصية الناس.

وإلى جانب تعددية المظهر ترى كذلك تعددية الألسن، رطانات صينية وآسيوية وإفريقية وأوروبية ولاتينية. وتدرك حقاً أن في اختلاف الألسنة آية من آيات الله سبحانه وتعالى في هذا العالم.

وبالرغم من مظاهر التعددية فإن هناك توحدا بين الأفراد، فكلهم قصد هذا البلد وتلك الأراضي من أجل هدف واحد يرون فيه تعبدا لخالقهم، وشحنا لطاقاتهم الروحية، وربما سعى بعضهم إليه تكفيرا لذنوب ارتكبوها، أو تطهرا منها. الكل يتجه للقبلة ذاتها ويطوف حول البيت نفسه ويصلى على الأرض عينها التي شهدت أحداثا إسلامية عظاما.

ولن تجد في رأيي مثل هذا التجمع وبمثل هذا العدد في أي مؤتمر علمي عالمي.

وهنا الدرس المستفاد لو أردنا الإفادة من هذا التعدد والتوحد.

لماذا لا تعقد ندوات وحلقات يلتقي فيها المشرقي بالمغربي والعربي بالآسيوي والإفريقي بالأوربي واللاتيني بالجنوب آسيوي، ليس من أجل الوعظ والإرشاد، ولكن لتبادل الأفكار والآراء والاستنارة بما لدى الآخر.

على نطاق ضيق حاولت فعل ذلك أنا وزوجتي، خلال فترة إقامتنا في الفندق في المدينة، وكانت لنا جلسات أفدنا منها كثيرا، وتعرفنا على بعض الأخوة والأخوات في الإنسانية.

وعلى الرغم من عقبة تعدد الألسنة فقد تمكنا من التواصل، وهذا ما يبهرني في السعودية – وفي غيرها من دول الخليج كالإمارات مثلا- أنه بالرغم من تعدد الألسن بين أهل البلد من العرب والعاملين فيه والعمال من الأجانب يمكنهم التواصل.

والعمال الأجانب هنا مشكلة فهم لا يحسنون العربية ولا يعرفون الإنجليزية ولكنهم يرطنون بلغة جديدة تسودها مفردات اللغة المهيمنة وهي العربية وبعض تراكيبها التي تكتسب على ألسنتهم صيغا لم تعرفها العربية.

وهكذا يتم البيع والشراء وركوب التاكسي والتعامل مع عمال الفنادق.

اشتريت لزوجتي هاتفا محمولا من أحد الدكاكين ولما اكتشفت أنه لا يعمل، عدت لصاحب الدكان وحاولت أن أشرح له المشكلة بالإنجليزية، فقد أملت أنه يفهمها، ولكن خاب ظني، فقد أخذ يردد ألفاظا لم أعيها، ثم تحولت إلى العربية وبؤت بالفشل أيضا، وانتهى الموقف بأن أعطانا الرجل هاتفا آخر، ولكني لم أدر إن كان جديدا أم مستعملا.

العيب فيّ فأنا لم أعش في السعودية فترة كافية لأتقن أساسيات اللغة الثالثة الوليدة التي ذكرتها.

٢٤ أكتوبر ٢٠١٢

مِنَى

 

في الحج بصفة عامة، وفي مِنى خاصة تعرف معاني كثيرة منها المساواة. فالرجال جميعهم يلبسون خلال فترة الإحرام لونا واحدا ويتساوون فيه، بغض النظر عن نوعية لباس إحرامك أو ثمنه. وفي منى أيضا يتساوى الفقير والغني فالكل يقضي وقتا ليلا ونهارا في خيام حتى وإن كان بعضها (في آي بي) ينامون جنبا إلى جنب، إما على الأرض، وإما على نوع واحد من ‘المراتب’، ويستخدمون الحمامات البدائية نفسها، ويتوضؤون من أحواض كبيرة تتسع لعدد من الصنابير، وكلهم يصطفون جنبا إلى جنب في الصلاة، ويأكلون الوجبات عينها دون أدنى تمييز. إنه حقاً نموذج بارع لا نراه في أي تجمع آخر فيما أظن.

وفي منى أيضاً مثال آخر على التواضع الذي أراه مرتبطا بالشعور بالمساواة. فمعظم الحجيج تواق إلى خدمة الآخرين ومعاونتهم، ليس من باب “سيد القوم خادمهم”، بل من باب التواضع والتسابق إلى ضرب المثل في تطبيق أخلاق المسلم الحقيقي وقت الشدة، والحج فعلا مشقة مهما كان ‘سياحيا’ أو ‘دي لوكس’ كما تدعي بعض الشركات التي تتاجر بتلك الشعيرة لابتزاز الراغبين في أدائها.

وفي منى كذلك يرتفع الخجل -خاصة بين الرجال. وارتفاع الخجل لا يعني الوقاحة أو البجاحة، لكن ما أقصده هو أن أجواء المعسكر الديني الذي تعيش في جنباته تجعلك لا تخجل – إن كنت ممن تحمر وجوههم في بعض المواقف مثلي- فأنت ترى أخوانك وقد انحسر عن صدورهم لباس الإحرام، أو كُشف إزارهم قليلا عن دون قصد، فالكل سوء في الملبس والكل سواء في التعرض لانحسار لباس الإحرام. وهنا يرتفع الخجل ويحل محله شعور بالمسوؤلية تولده أجواء المعسكرات خاصة الدينية منها، فتبادر إلى تنبيه أخيك كي يتستر، دون سخرية أو ضحك.

لا أدري لماذا يذكرني الحج بالآية ١٣ في سورة الحجرات (ياآيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) التي تبين أن كل الناس سواسية، ولاحظ توجيه القرآن الخطاب “للناس” وأن معيار الأفضلية -بين الناس- لمن كان تقيا.

والأتقياء هذه الأيام قليلون، أما مدعو التقوى فكثيرون.

٢٥ أكتوبر ٢٠١٢

عرفة: أين الجبل؟

في رحلة الحاج التي تنظمها شركات عدة، خاصة في دول الغرب، يجد الحاج نفسه في حيرة بين الواقع والمأمول أو التاريخي.

وعندما عزمت على خوض رحلة الحج كان في ذهني صورة، بل صور، للرحلة وما سأشاهده خلالها من معالم قد تعينني على فهم التاريخ، والأكثر أهمية فهم آيات القرآن المتعلقة بأحداث تاريخية. كان هذا هو المأمول لدي أو التاريخي.

لكن الواقع الذي رأيته خيب ظني ولم يشف لتطلعي أي غلة.

في المدينة شاهدت الحرم النبوي وهو مسجد حديث البناء شاسع المساحة لا يمت لمسجد الرسول بشيء سوى أنه بني في المكان ذاته الذي كان فيه المسجد الأصلي.

حتى الروضة، وهي جزء المسجد الذي يقع بين منبر الرسول وبيته (الحجرات) ليس لها أيضاً علاقة بالتاريخي.

وكذلك الحال في مسجد قباء وغيره من المعالم التي كان لها ذكر في التاريخ، لكن الزمن لم يمهلنا نحن جيل اليوم فنراها، وإما أن المهيمينين على الأمور أهملوا في الحفاظ عليها، وإما عمدوا لذلك لوجود شبهة شرك في تعلق بعض المسلمين بها لو بقيت على حالها.

الصدمة الكبرى بالنسبة إلي كانت رحلتنا من منى إلى عرفة حيث كنت أتطلع إلى مشاهدة الجبل الذي قيل عنه إن الوقوف عليه هو الحج.

عندما توقفت الحافلات التي تقلنا ظننت أن هناك خطأ وأنها ستعاود السير، لكن المشرفين طلبوا منا النزول. ونزلنا إلى مكان على الطريق العام في منطقة، صحيح أنها جبلية إذ يحيط بها جبلان كبيران من الخلف ومن الأمام. المكان مليء بالخيام وعند المدخل كانت توجد عدة كراس وطاولات وعاملان يشرفان على عمل الشاي والقهوة. وقلت لزوجتي ضاحكا هل هذا عرفة كافيه؟ وطُلب منا دخول الخيمة وقالوا هذا عرفة.

أحسست ساعتئذ أنني خُدعت وزادت غصة في حلقي حجما، وقلت لنفسي كيف أقف هنا متذكرا موقف الرسول، وأدعو فيستجيب الله تعالى لي ويطهرني من ذنوبي فأعود كيوم وُلدت؟!

كيف أتقبل هذا الواقع المر الذي حطم كل خيالاتي وتصوراتي، وكيف أصدق صورة كنا دوما نراها على شاشات التليفزيون لجبل عرفة وعلى متنه آلاف الحجيج، هل كانت مفبركة؟

عرفت بعدها أنه لا يزال هناك جبل يسمى جبل الرحمة وأنه هو الذي عادة ما تصوره وسائل الإعلام. وحثتني زوجتي على الذهاب، بالرغم احتمال فقداننا للطريق وتأخر رحلتنا.

وقررنا الذهاب وكان ذلك أصوب قرار نتخذه في رحلة الحج.

فقد صالحت المشاهدة بين المأمول والواقع.

أنه منظر رائع: جبل صغير أو قل هضبة انتشر على أرجائها الحجيج بلباسهم الأبيض وكأنهم أسراب حمامات بيض حطت على الجبل يلتقطن من تربته حبات يتبلغن بهن. وامتدت الأسراب إلى سفوح الجبل في كل الأرجاء، بل تجاوزتها إلى الطرقات المفضية إلى الجبل من كل ناحية.

هنا كان يجب أن تحط حافلاتنا رحالها، وهنا كان ينبغي أن نقف وأيدينا مرفوعة للسماء تضرعا وخيفة وأملا، بعيدا عن خيام مصطنعة تحجب الرؤية الحقيقية للتاريخ والمأمول.

والحمد لله أننا غامرنا وذهبنا في رحلة قصيرة إلى التاريخ.

٢٦ أكتوبر ٢٠١٢

مزدلفة وهزيمة أئمة “الفصل”

توجهنا من عرفات إلى مزدلفة بعد غروب شمس التاسع من ذي الحجة، وبقينا فيها حتى فجر اليوم التالي.

في مزدلفة دروس كثيرة.

هناك يفترش الحجيج الأرض بالفعل ويلتحفون السماء. المكان أرض فضاء شاسعة تمر خلالها طرقات للسيارات، ليس هناك خيام، لكن الجميع يجلسون على أرض مزدلفة أو عليها ينامون. المكان المخصص لشركتنا -كما علمنا- هو أصلا منطقة لوقف السيارات.

في مزدلفة يتجرد الحجيج من خيلائهم وكبريائهم وسلطانهم وسطوتهم ومناصبهم، ويتساوى الجميع في افتراش الأرض. والكل إلى جانب الكل: أبيضهم وأسودهم وأصفرهم، غنيهم ومعدمهم. ضربات أقدام القادمين تثير غبار الأرض إلى جانبك وأنتم نائم أو مستلق فلا تتأفف، بل تتحمل، عملا بأخلاق الحج الذي يمنع الجدل والفسوق. إنه التواضع.

في مزدلفة ينهزم أئمة الفصل، فالرجل إلى جانب زوجته أو أمه أو أخته، فلا يستطيع أحد أن يفصلهم؛ فليس هناك مخيمات لكل مجموعة أو جماعة، بل يفد الحجيج إلى مزدلفة مجموعات مجموعات، وعلى كل مجموعة أن تجد من الأرض شبرا لتفترشه. لن تتاح لك الفرصة للاختيار فتقول أجلس هنا ولا أجلس هناك، فإن لم تتنازل عن رغباتك فربما قضيت ساعات الليل على قدميك واقفا.

وفي مزدلفة – خاصة في ساعات الليل المتأخرة- رأيت صورة ليوم الحشر، الجميع نيام أو معظمهم، ولباسهم بياض، وكأنهم موتى خرجوا من قبورهم ولاتزال أجسادهم في الأكفان، تلبية لدعوة لهم بالقيام، أهو يوم البعث؟

إن مظاهر المساواة والتواضع وتذكر الموت شديدة الجلاء في مزدلفة.

وبالرغم من المعاناة التي يعانيها الحاج في مزدلفة تصبرا وكبتا لجموح النفس وإرهاقا، فقد كانت ليلتنا فيها بالنسبة لي ليلة عظيمة الدروس.

في الطريق إليها ونحن نركب الحافلة التي ستقلنا إلى مزدلفة كنت اصطحب زوجتي لنركب الحافلة من الباب نفسه، وغضب أحد أئمة الفصل ونهرني قائلا: الرجال من الباب الأمامي والنساء من الباب الخلفي. لم أجادل حرصا على حجي، وصعدت من الباب الأمامي لكنني لحقت بزوجتي في كرسيها. وهنا جن جنون إمام الفصل، بل سبني فقلت له سامحك الله، فتمتم: لا أدري لماذا يحرص الرجال على الجلوس إلى جانب زوجاتهم، هل سيشردن منهم؟

حمدت الله أني تمالكت سورة غضبي، وشكرته أنني لم أسمح لإمام الفصل بتنفيذ مراده، وأثنيت على المولى أن كتب الهزيمة على أئمة الفصل في مزدلفة وفي الطريق إليها.

وحكى لي شيخ في السبعينيات من بنجلاديش، ولكنه يعيش في لندن، أنه حج هو وأسرته قبل اثنتي عشرة سنة ولم ير مثل هذا الفصل آنذاك فقد كانت الأسرة بكل أفرادها تجلس في مكان واحد وليس هناك من مفرق بينهم.

واحسرتاه !

٢٧ أكتوبر ٢٠١٢

تثقيف الحجيج

 

الشركة التي تتولى أمور رحلتنا ذات خبرة في رحلات الحج تزيد على عشرين عاما. وعرف عن تلك الشركة اهتمامها براحة الحاج خلال مراحل إقامته منذ أن تحط رحال قافلتها في المدينة ثم في العزيزية لينتقل بعدها إلى منى ثم في عرفة ثم في مزدلفة ثم في منى مرة أخرى ثم في مكة. فهي توفر له وجبات جاهزة الأرز هو سيد الطعام فيها، يليه الدجاج ثم الكفتة. وللكورن فليكس أيضاً نصيب مفروض في الإفطار مع الحليب وقطع من الجبن.

هذا غذاء الأبدان، وبه ونعمت.

وعرف عن الشركة أيضاً اهتمامها بتثقيف الحجيج، أو بتوفير غذاء للروح كما وفّـت مع الأبدان خلال أيام الرحلة ولياليها. ويقوم بذلك إمام ملازم ترسله الشركة من لدنها، إلى جانب استضافة أئمة آخرين خلال إقامة الحجيج خاصة في منى.

فما هي ياترى وجبات غذاء الروح تلك، وما هي مكوناتها؟

الإفطار: “هدف الحج أيها الأخوة الكرام تعظيم الله تعالى وذكره، والذكر أيها الأخوة والأخوات عبادة. هل تعرفون ما هو الطريق إلى الجنة؟ (صمتنا جميعا منتظرين الجواب، ثم ارتفع صوت الشيخ قائلا) كلمتان، إي والله كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ربما تزنان عدل الأرض وما عليها: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم”.

الغداء: “الحج أيها الأخوة ذكر لله تعالى في كل مراحله، وأنت بذكرك لله تعالى، وبأدائك مناسك الحج، تؤدي حق الله. والله سبحانه يفتخر بكم أمام الملائكة فيقول: انظروا هؤلاء عبيدي (وأعتقد أن الشيخ استخدم المقابل الانجليزي لهذه الكلمة، ولم يستخدم كلمة أخرى)، جاءوا يعظمونني. (وهنا توقف الشيخ برهة وقال متسائلا)، ولكن ماذا عن حقوق الإنسان؟ حقوق الإنسان أيها الأخوة لا تهم مع حقوق الله، ولكن لو تحققت كان بها، وإن لم تتحقق فلا بأس طالما أنك ترعى حقوق الله”.

العشاء: “أيها الأخوة الحجاج أتعرفون إلى أين سنذهب من هنا؟ (طرح الشيخ السؤال ثم صمت، وهو يحب طرح الأسئلة علينا وينتظر الجواب، كما يفعل مدرسو المدارس، ورد الشيخ بصوت مفعم بالحماس والقوة) إلى الجنة. سيقودنا الحبيب متقدما جميع الأنبياء، وعندما يصل إلى باب الجنة، يطرق الباب فيسأله الحارس من أنت؟ فيقول محمد بن عبدالله، فيفتح له الباب وهو يقول لقد أُمرت أن أفتح الباب لك وحدك. أتدرون ما درجات الجنة؟ (سؤال مطروح مرة أخرى) لن أكلمكم عنها جميعا لكني سأكلمكم عن أدناها. هناك سيكون لكل واحد منكم ألف خادم، نعم ألف خادم، ولكل واحد منهم مهمة يؤديها”.

وبعد العشاء حان موعد النوم، ولكن مايزال يحيرني سؤال: هل الخدم في الدنيا هم خدم الآخرة في الجنة؟

لقد كانت وجباتي الثلاثة مليئة بدسم روحي وفير.

٢٨ أكتوبر ٢٠١٢

هوامش على الغذاء الروحي

وجبات الروح التي تقدمها لنا الشركة المشرفة على رحلة حجنا والتي تحدثت عنها في يومية سابقة بحاجة إلى هوامش حتى لا يسيء أحد فهم مقصدي.

إن خطاب الجنة والنار خطاب محبب للدعاة والواعظين، لأنه خطاب ترغيب وترهيب، يثير العواطف والمخاوف، وحينما يثير الداعية عواطف جمهوره يتمكن بسهولة من بعد من السيطرة عليهم.

وتقديم الكلام عن الجنة بمثل التبسيط الذي ساقه شيخنا، وبأن دخول الجنة لا يحتاج إلا إلى “التلفظ” بكلمتين فيه خطأ وخطر كبيران. فهو يحمل بين طياته دعوة إلى التواكل وعدم العمل؛ فإن أردت شيئا أو رغبت في تحقيق مراد، فما عليك إلا الدعاء أو التسبيح. وتلك في رأيي دعوة مدمرة مثبطة للهمم.

أنا أعلم أن لعلماء التنمية البشرية هنا كلاما عن أهمية برمجة عقلك عن طريق التلفظ بكلمات إيجابية وتردادها لتهيئة عقلك للتغير الذي تصبو إليه في حياتك، لكن ذلك مقصور على مرحلة برمجة العقل، والخطوة التالية هي البدء الفعلي في تنفيذ خطة العمل الذي تعتزم إنجازه. أما شيوخنا فيكتفون بترديد ألفاظ. وأمتنا أولى بها التركيز على العمل ثم العمل ثم العمل.

القضية الأخرى هنا هي مخالفة هذا النهج للقرآن ذاته. في القرآن الكريم آية هي في رأيي جماع ما يقوله علماء التنمية البشرية وهي قوله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

خطاب شيوخنا أيضاً تأخذه الحمية أحيانا مآخذ غير وجيهة، فضرب عرض الحائط بحقوق الإنسان وسوء عرض الكلام بأنها لا تهم مع حقوق الله ليس فيه حنكة؛ إذ إن ما سيُنقل من هذا هو أن الإسلام لا يهتم بحقوق الإنسان.

وينخرط خطاب شيوخنا كذلك في موضوعات لا تقوم على سند ولا أرى من ورائها فائدة إلا تخدير الناس، مثل موضوع الجنة وما فيها. لماذا لا نلتزم هنا بما ورد في القرآن الكريم حينما تحدث عن الجنة، وندع غيره من المصادر التي ليس لها سند. ثم لماذا نصر على نقل ما في مجتمعاتنا من طبقية إلى الجنة فنزعم أن لكل فرد ألف خادم لكل واحد منهم مهمة مختلفة؟

خطاب شيوخنا للأسف غير واع ومحفوف بمخاطر كثيرة على المجتمع ولا سند له إلا بعض الأحاديث التي ضررها أكثر من نفعها، وينبغي أن يتغير إن أردنا إصلاح حال أمتنا.

إنني أدعوكم إلى ملاحظة خطابنا الديني وإحصاء نسبة الأحاديث التي يعتمد عليها مقابل ذكر آيات القرآن الكريم واستخلصوا لأنفسكم النتيجة.

٢٩ أكتوبر ٢٠١٢

صور من الحج

 

في المدينة تحدد مواعيد الصلوات أوقات العمل في المحال والدكاكين، فالكل يفتح أبواب الأمل في الرزق بعد صلاة الفجر مباشرة، ثم تغلق المحال لأداء صلوات الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء لتظل بعدها مفتوحة حتى منتصف الليل.

وعندما تخرج من الحرم النبوي عقب صلاة الفجر تفاجأ بالطرقات وقد امتلأت بباعة افترشوا الأرض والأرصفة وعرضوا بضاعتهم، ولم يعد لمترجل مكان قدم ليسلك طريقه. مناداة هؤلاء الباعة -وأنا أقصد الرجال هنا، فالنساء لا يرفعن لهن صوتا- ملفتة للأذن، فهم يستخدمون لغات عدة، منها العربية والأردية والتركية وربما غيرها. وموسم الحج فرصة للباعة في رفع أسعار بضائعهم أضعافا مضاعفة.

كثير من أولئك الباعة -خاصة النساء- من أصول إفريقية، وربما يعيشون في السعودية بطريقة غير قانونية. والمساومة عرف جارٍ مع باعة الطرقات.

في الطريق إلى رمي الجمرات من منى يلفت انتباه الزائر عدد المتسولين الذين يتفنون في عرض ما يوهمون أعين الناس بأنه عاهات، ومعظم هؤلاء نساء ينتمين إلى أصول إفريقية.

ويلفت انتباهك كذلك النسبة الكبيرة من الأطفال الذين جلسوا -أو بالأحرى أُجلسوا- في نهر الطريق، الواحد وراء الآخر، ثم تجد الأم في مؤخرة الصف تمصمص شفتيها انتظارا للغنيمة.

على الطرقات من منى إلى رمي الجمرات تزاحم المتسولين أكوام القمامة المتكدسة، بعضها في أكياس بلاستيكية، وبعضها ملقى كما هو في العراء، والرائحة تزكم الأنوف. وفي ثالث أيام التشريق بدأنا نرى سيارات جمع النفايات في الشوارع بعد أن انتهى في منى موسم الحج. ولكن مصيرها غير معروف: تراها سيعاد تدويرها وتفيد منها البلاد، أو أنها ستلقى في مكان آخر انتظارا لحرقها؟

ومع انتهاء الموسم عقب ظهر يوم التشريق الثالث تخلو الطرقات أيضا من باعتها الذين يحملون بضاعتهم على شاحنات صغيرة ويجاورونها في رحلة انتظار موسم جديد بعد عام كامل.

في الحرم النبوي رأيت أسرا تجلس في باحته الخارجية وقد أخذ أفرادها يقزقزون اللب أو يأكلون، وأطفالهم يلهون على مدى البصر مع بعضهم بعضا. ومنظر الأزواج أو الزوجات الذين ينتظرون نصفهم الآخر بعد انتهاء الصلاة منظر شديد الألفة.

في مزدلفة وفي أول الليل رأيت أسرة أحضرت ما اشتهت من الطعام، وفاحت فوق الركن الذي انتحته رائحة بيض مقلي. وعندما طالت الرائحة أنوفنا فكرنا في البحث عن مكان آخر لقضاء الليلة بعيدا حتى لا نتلوى جوعا ومخزوننا من الطعام متواضع.

صورة حاج في ملابس الإحرام وهو يأكل الأيس كريم لفتت انتباهي. وعذره معه وسط حرارة كادت أن تفسد هاتفي المحمول عندما كنت أشحنه، ونحن في منطقة عرفة، ووضعته على طاولة إلى جانب عامل الشاي، فأنذرني ذلك الهاتف الذكي (آيفون) بأن الحرارة زائدة عن الحد ولم يتم الشحن.

أما صورة بعض الحجيج الذين آلوا إلا أن يصحبوا معهم علب سجائرهم ويدخنوا وسط تلك الأجواء الساخنة الملتهبة فلم أجد لها مسوغا يقنعني.

٣٠ أكتوبر ٢٠١٢

الحج ودعوة للتفكير

من يؤدي مناسك الحج هذه الأيام يشعر بالمشقة. ويعود سبب كثير من المشقة إلى العدد الكبير ممن يؤدون فريضة الحج من كل دول العالم تقريبا.

وقد بذلت السلطات السعودية جهودا كبيرة لتسهيل أداء المناسك وتوسيع الحرمين النبوي والمكي. وجهودها في ذلك مشكورة ومقدرة.

ولا شك أن ضيق المكان يحول دون فتح السلطات السعودية المجال لتلبية رغبة الراغبين في أداء شعيرة الحج جميعا، ولذلك تحدد السلطات أعدادا لكل دولة، وقد يكون في ذلك فوات لفرصة الحج لمن قد لا يمتد بهم العمر لعام قادم.

فما هو الحل؟

أحسب أن الحل في إعادة تدبر القرآن الكريم وآيهِ الخاصة بموضوع الحج.

وأهم آية هنا هي قوله تعالى “الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث وفسوق ولا جدال في الحج”.

مفهوم الآية يفيد -في رأيي- بوضوح أن فترة الحج تمتد “لأشهر معلومات”، أي أشهر محددة معروفة، وهي الأشهر الحُرم التي حُرّم فيها القتال حفاظا على أمن وسلامة الحجيج. وهذه الأشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجة على الأغلب. وامتداد فترة الحج كما توضحه الآية رحمة ممن خلقنا، الذي يعلم تكاثر الناس وتزايدهم، ويتماشى مع القاعدة القرآنية العظيمة التي يهمل ذكرها المتشددون، وهي “وما جعل عليكم في الدين من حرج”.

وهنا يبرز السؤال المنطقي: لماذا لا نطبق ما دعانا إليه القرآن الكريم في الآية الآنفة بشأن الحج؟

لقد أخرت طرح هذه المسألة إلى أن أنتهي من شعائر الحج حتى لا اُتهم بالجدل أو إثارته وهو ممنوع خلال الحج.

يرجع عدم تطبيقنا لتعاليم الآية -من وجهة نظري- إلى اتباع ما فعله الرسول عليه السلام في حجه، والرسول الكريم لم يحج إلا مرة واحدة، وربما آثر الفقهاء أن يحذوا حذوه في أداء المناسك تنفيذا لما رووه عنه “خذوا عني مناسككم”.

لا غضاضة في هذا النهج، لكن الإصرار عليه وحده بالرغم من وضوح عبارة القرآن الكريم الذي ما جاء محمد عليه السلام إلا مبلغا به، وبالرغم مما أفضى إليه ومازال تزاحم ملايين المسلمين خلال الحج في شهر ذي الحجة وحده من وفيات وأمراض ومشاكل كثيرة، يدل على تحول في حياتنا وممارساتنا الدينية أخشى من عواقبه.

والتحول الذى أقصده -وأرجو ألا تتسرعوا في الحكم على رأيي قبل التروي والتمعن فيما أقول- هو إعلاء ما يُسمى “بسنة الرسول” فوق تعاليم القرآن.

ومثال ذلك لا يقتصر على الحج فقط، بل يتعداه لأمور أخرى لن أطيل في ذكرها هنا، بل أضيف مسألة أخرى هي الوضوء، فما نفعله فيه الآن فيه مخالفة لما ورد في القرآن، وحتى يمرر الفقهاء ذلك قسموا الوضوء إلى أركان وسنن.

وأرجو أن تتأملوا خطابنا الإسلامي المعاصر لتجدوا مصداق ما أقول فيه: فأكثر الحديث فيه عن “السنة” و”الأحاديث” ومروياتها وأسانيدها، ودرجات صحتها أو اتصالها أو انقطاعها بالرسول، وتكاد تغيب وسط ذلك تعاليم القرآن الكريم.

ولاحظوا مثلا كم مرة تعلو حناجر المسلمين بالصلاة على النبي في خطبنا، ولا تبين أصواتهم إذا ذكر اسم الله سبحانه وتعالى، بالتسبيح له جل وعلا وبالتعظيم والإجلال.

آمل أن يكون في كلامي هذا دعوة للتفكير بشأن خطابنا الديني وتوجهاته التي أرجو ألا تحيد بنا عن القرآن وعن الجادة.

٣١ أكتوبر ٢٠١٢

الحج وذكر هازم اللذات

في رحلة الحج -كما خبرتها- تجارب تجعل الحجيج دوما يتذكرون الموت.

فلباس الحجيج من الرجال -وهم كثرة بين مؤدي تلك الشعيرة- أبيض بلون الأكفان، وفي مزدلفة -كما ذكرت في يومية سابقة- ينام الحجيج على الأرض بذلك اللباس الأبيض ويتسترون بالسماء وكأنهم موتى أخرجوا من قبورهم.

وفي الحرم النبوي والحرم المكي هناك دوما وعقب كل صلاة، صلاة الجنازة، وكم لاحظت عدد الوفيات من الأطفال، إذ يذكر مقيم الصلاة -في الحرم النبوي والمكي- دوما إن كان المصلى عليه طفلا أو غير طفل.

وتذكر الإنسان للموت فيه تنبيه له أن لتلك الحياة التي يحياها نهاية، وأنه لن يستطيع أن يستحوذ على ما لديه إلى الأبد. وقد يكون في ذلك دافع له إلى الحد من أطماعه، وحسن معاملة بني جلدته ليكون له ذكر حسن بعد أن يرحل. فالإنسان يحب الخلود، إما بولد يحمل اسمه، أو عمل يبقي اسمه على الألسنة.

وقضية الموت في القرآن الكريم بحاجة إلى وقفة.

فالقرآن يؤكد بشأنها على عدة حقائق:

أولا: أن كل نفس ذائقة الموت، وهنا لفتة مهمة وهي أن النفس هي التي تذوق الموت.

ثانيا: أن الإنسان عندما يموت تنقطع صلته بعالمنا (هل تُسمع من في القبور)

ثالثا: ارتباط الموت في القرآن بقضية البعث، فالموت -في القرآن- ليس نهاية الإنسان، بل مرحلة انتقالية يعقبها مرحلة أخرى.

وليس في القرآن أي ذكر أبدا لتلك الخرافة التي يروج لها دعاة ثقافة الترهيب، خرافة “عذاب القبر”، معتمدين على مرويات مخالفة كل المخالفة للقرآن الكريم.

وكم ألفت كتب ودبجت رسائل لترويع الناس من القبر وعذابه، وكم يستغل دعاة الترهيب تلك الخرافة أسوأ استغلال ليظل سلطانهم وتبقى سطوتهم وحتى لا يفكر الناس إلا في الموت وعذاب القبر راضين قانعين بالفتات القليل الذي يلقيه لهم الحكام.

ألم يفكر هؤلاء وتابعوهم كيف يكون هناك عذاب -سواء في القبر أم في البحر- قبل أن يُحاسب الإنسان؟

إن دعاة تلك الخرافة يتهمون الخالق -جل وعلا- بالظلم، إذ يزعمون أنه يعذب الناس قبل أن يحاسبهم.

وكيف يتفق ذلك مع قضية البعث التي يعقبها حساب البشر جميعا عما ارتكبوه: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.

كنت أعرف رجلا مسلما يعيش في أوربا تمتع بحياته طولا وعرضا، ولا أدري إن كان يمارس شعائر دينه أم لا. وفي أواخر حياته أصيب بمرض أدى إلى وفاته.

وأخذت أسرته جثته للمركز الإسلامي لتغسيله والصلاة عليه، وعقب الصلاة سأل الشيخ أحد أفراد الأسرة عن مكان دفنه، فقيل له إن المتوفى أوصى بحرق الجثة.

وأحسب أن صاحبنا أوصى بذلك خوفا من “عذاب القبر”، الخرافة التي تربى عليها، وأفضت إلى ارتكابه جرما أفظع ظن أن فيه مهربا.

غفر الله له

١ نوفمبر ٢٠١٢

الحاج روميو والحاجة جولييت

نعم، هكذا سمعت عنهما قبل أن أراهما.

سأقص عليكم الحكاية.

هناك في مضارب خيام مِنى، وبين الممرات بين كل خيمة وأخرى كانا يجلسان.

مخيم منى مخيم كبير يضم آلاف الحجيج، وقد خصصت السلطات لمسلمي أوربا وأمريكا وأستراليا مع الأتراك قسما خاصا بهم.

في هذا القسم لا ينعم الأزواج بالبقاء معا في خيمة واحدة، إذ شاء أئمة الفصل بين الرجال والنساء لعب دور القدر، ولو مؤقتا، فقرروا حجب النسوة في خيمة أو خيمتين بعيدا عن “بعابع (جمع بُعبع، وهو حيوان أسطوري متوحش مخيف)” الرجال. وطال هذا القدر الرجال جميعهم والنسوة كلهن، ففرق أولئك الأئمة بين المرء وزوجه، والأب وابنته، والولد وأمه. ولم يعد من سبيل للتواصل إلا عبر الهواتف المحمولة، أو خلال رحلات رمي الجمرات التي كانت لسجناء المخيم متنفسا يمكنهم فيه اللقاء والحديث مع أحبائهم.

ولكن جذوة الحب بين الزوجين -ومن بينهم حديثو الزواج- تأبى إلا أن تظل مشتعلة، فكان على الأزواج إيجاد طريقة يجابهون بها ذلك القانون الصارم ويحتالون عليه في لطف ودون انتهاك لمناسك شعيرة الحج.

وتفتقت أذهان بعضهم عن اللقاء في الممرات بين الخيام، حيث يجلسون على صناديق مخصصة لحفظ زجاجات المياه مثلجة أمام مداخل كل خيمة، تراهم زوجين زوجين وقد أمال كلٌ رأسه ناحية الآخر في حديث ودي خافت تفضحه ضحكة بين الفينة والفينة.

وليس ذلك ديدن المتزوجين كافة، فقد كان منهم من فضل البقاء في أوقات الطعام مع رفاقه الرجال، تاركا زوجته مع رفيقاتها من النساء.

هل فعلوا ذلك حفاظا على شعائر الحج، أو أنهم رغبوا في فسحة لهم بعيدا عن زوجاتهم؟

غير أن اثنين -وهكذا تقول الحكاية- لم يضيعا فرصة للقاء إلا انتهزاها: في أوقات الطعام وغير أوقات الطعام. واختار صاحبانا ركنا خاصا تعودا فيه على اللقاء.

يبدأ لقاؤهما عادة -كما حكى الرواة- قبل صلاة الفجر بنحو ساعتين. يتواعدان عبر الهاتف ثم يتم اللقاء عند طاولة الشاي خلف الخيام حيث يوجد كرسيا عاملي الشاي والقهوة اللذين ما زال يغطان في نوم عميق، إذ لم لا تبدأ ورديتهما إلا بعد انتهاء صلاة الفجر.

يفرش الزوجان سجادة الصلاة في ركن قصي في المكان، وتبدأ الزوجة في الصلاة. وعند إتمامها ركعتيها يقوم الزوج ليصلي بدوره ركعتين. ويظلان هكذا حتى يتما عشر ركعات. ثم يجلسان وفي يد كل منهما مسبحة يذكران الله تعالى ويسبحانه، وبين الحين والحين يرنو أحدهما للآخر ويتبادلان بضع كلمات تتلوها ابتسامات رقيقة. وقرب رفع آذان الفجر أو عنده يفترقان ليلحق كل منهما بصلاة الجماعة في خيمته.

ثم يلتقيان من جديد عقب الصلاة ليحتسيا معا القهوة التي يفضلانها صباحا، ليفترقا بعدها لينالا قسطا من النوم والراحة، ويعاودا بعده اللقاء وهكذا.

عرف الرفاق ذلك عنهما، وكانوا كلما لمحوهما في مجلسهما يلقون عليهما التحية مبتسمين تاركين إياهما في خلوتهما.

وسار خبرهما بين الحجيج، وانتشر عبر الخيام حتى أطلقوا عليهما روميو وجولييت.

الحاج روميو اقترب من السبعين أو جاوزها، والحاجة جولييت -إن كان لي البوح بهذا- تجاوزت الستين.

نعم الزوجان، وبئس المسلك ممن يفرقون بين المرء وزوجه حتى ولو تجاوزا من العمر سنين عددا.

٢ نوفمبر ٢٠١٢

لمحات من الحج 

كنت أقرأ عن الطاقة التي تولدها أجسامنا ولم أدرك معناها فعلا إلا خلال الحج.

في الطواف، حيث يشارك الآلاف لن أقول جنبا إلى جنب، بل جسدا لصقَ جسد، تشعر بحرارة الأجساد من حولك وكأنك محاط بمواقد تشع لهبا فينسال العرق منك حبات تترى، ولا يكتمل طوافك إلا وقد فاضت ملابسك عرقا بالرغم من أن الكعبة في صحن مكشوف ليس له سقف وبالرغم من مراوح التهوية في المكان.

ومثل تلك الطاقة والحرارة شعرنا بها أيضا خلال رحلة رمي الجمرات حيث يتوجه الآلاف في عين الوقت إلى ذات الوجهة.

إحدى مشاق الحج التي يواجهها مؤدو مناسكه درجة السير التي يفرضها عليك ازدحام الآلاف في الطواف خاصة، وفي رحلة رمي الجمرات عامة، فتضطر فعلا إلى أن تمشي عمليا الهوينى، وليس هذا من باب التعبير بلاغيا عن سرعة المشي، فأنت تخطو ولا تمشي، وتشعر بأثر ذلك فيما بعد عند انتهاء المناسك، لأنك تمضي في الخطو على هذا النحو وقتا قد يصل إلى ساعتين أو أكثر.

النساء في الحج مهضومات حقوقهن في بعض النواحي، وأنا هنا لا أقصد تفريقهن عن الرجال من أقاربهن، بل أقصد عدم تمتعهن بما يتمتع به الرجال. فبينما يحق للرجال الصلاة في الروضة الشريفة في الحرم النبوي -وهي المنطقة بين منبر الرسول والحجرات- فلا يُسمح للنساء بدخول تلك المنطقة، ولكن يعطين الفرصة للصلاة في منطقة قريبة من وراء عازل.

وفي الفندق الذي نقيم فيه في مكة، يوجد مصلى للرجال يطل على الحرم المكي مباشرة ويتبع الرجال منه إمام الحرم في الصلوات. أما مصلى النساء فوُضع جانبا فلا تتاح لهن الفرصة لمشاهدة الحرم.

والنساء داخل الحرم يتعرضن للزجر أكثر من الرجال، حيث توجد حارسات منتقبات ينظمن جلوس النساء للصلاة في أماكن مخصصة للنساء، ولاترى من هؤلاء الحارسات الشديدات اللائي اتشحن بالسواد شيئا، ولكن تسمع أصواتهن ترج أرجاء الحرم بأكثر من لغة منها -كما أدركت- العربية والأردية، وهن يلاحقن النسوة اللاتي إما يتبعن أزواجهن ويردن الجلوس للصلاة معهم، وإما يجلسن في أماكن خُصصت للمرور بين الصفوف، وإما يجلسن على درجات سلالم الحرم.

الازدحام الشديد بين الحجيج خلال رحلة الحج يزيد من انتشار الأمراض، خاصة الإنفلونزا ونزلات البرد، ولا ينجو حاج من تلك النزلات، إلا من رحم ربي.

وعندما يبلغ الحجيج مكة لتأدية ما تبقى من المناسك تكون أعراض المرض قد تمكنت منهم، وفي الصلوات، حينما تخفت الأصوات، تسمع -بلا مبالغة- جوقة من السعال والكحة، آلات العزف فيها حلوق ملتهبة وصدور متحشرجة، تسمعها أحيانا في عزف جماعي، وأحيانا في عزف منفرد يرد فيه كل عازف على الآخر، لكنها تتميز جميعا بصوت في أغلبه “قرار”، بحسب لغة أهل الموسيقى.

وهناك من احتاط لنفسه من تلك النزلات فوضع قناعا أصبح لطول استخدامه جزءا من تقاسيم وجهه.

في مكة لفت انتباهي أعداد الأكياس البلاستيك التي وضع الحجيج فيها نعالهم وبعض حاجياتهم الأخرى وعلقوها على الأسوار ذات القضبان الحديدية المحيطة بالحرم من الخارج أو بسلالم الحرم هنا وهناك.

وقد وضعت السلطات السعودية أمام الفنادق عددا من لفات الأكياس البلاستيكية (رول-أروال) كتلك التي تجدها في المحال التجارية، لتشجع الحجيج على الاحتفاظ بنعالهم وأحذيتهم معهم.

يحزنني كثيرا مسلك عدد كبير من الحجيج في الحرم. إذ يتجشم بعضنا عناء الذهاب مبكرا لأداء الصلوات، ربما قبل رفع الأذان بساعتين أحيانا، لكن هذا لا يهم مع استمرار ورود الراغبين في الصلاة أو الطواف في كل لحظة. ومن بين هؤلاء من لا يكترث بالجالسين، فيقفز من فوق رؤوسهم ورقابهم، ويحشر نفسه دون استئذان في أغلب الأحايين بين الجالسين. والمصيبة الكبرى عندما يهب عليك فوج كبير يفتح له قائده مسارا عبر رقاب الجالسين، فيلحقون به دون أدنى مراعاة لك وأنت جالس. وكاد فوج إندونيسي يضم أكثر من خمسين رجلا وامرأة يطرحنى أرضا وأنا جالس في انتظار صلاة الفجر لولا أنني قاومت بشدة، وقمت واقفا حتى أتمكن من الدفاع، كي أظل ثابتا وسط هذا السونامي البشري.

الحج فعلا سلوك لكن من يتحلون به قليل.

٣ نوفمبر ٢٠١٢

الحج والشباب

 

عدد الشباب في المجموعة التي تضمنا لافت للانتباه. فمن بين مئتين وخمسين شخصا يوجد أكثر من مئة شاب وشابة، معظمهم متزوج وقليل منهم أعزب.

وشباب مجموعتنا هؤلاء بريطانيون مولدا ونشأة، لكنهم ينتمون إلى أصول آسيوية من باكستان وبنجلاديش والهند. وجلهم ملتزم بالمظهر الإسلامي الشكلى: يطلقون لحاهم، ويقصرون جلابيبهم، والسواك لا يفارق جيوبهم.

وفتياتهم يغلب عليهن النقاب، ولبس السواد.

وكثير منهم يحسنون قراءة القرآن الكريم بلغة عربية غير ركيكة اللكنة، ويأملون في تعلمها بجد حتى يطالعوا أمهات كتب التفسير والحديث، كما حكوا لي.

لكن فكر هؤلاء الشباب بحاجة إلى وقفة.

فأول ما لاحظته اهتمامهم المفرط بالسنة ومعرفة ما فعله الرسول عليه السلام في خطوات الحج خطوة خطوة، حتى أن أحدهم سألني مرة عن الطريقة التي رمى بها رسول الله الجمرات، فقلت له إن المصادر تقول إن الرمي ينبغي أن يكون على يمينك، وأضفت أن هذه دقائق صغيرة لا يهم الوقوف عندها. ويبدو أن جوابي لم يعجبه إذ عقّب ‘من الأفضل أن نعرف’.

وبالرغم من نشأة هؤلاء الشباب في بريطانيا فإنهم -شبابا وشابات- ينهجون نهجا متشددا، بل شديد التشدد أحيانا.

يتضح ذلك في مظهرهم -كما ذكرت- وفي حرصهم على التشبث بالشكليات، وفي تمسكهم بالسنة (دون تمحيص أو تحر منهم لما يقرأون أو يستمعون إليه طالما انتسب للسنة). ومنهم دعاة الفصل في مجموعتنا بين الرجال والنساء في الخيام، وفي ركوب الحافلات، وفي المحاضرات التي ينظمها المشرفون على المجموعة.

ومن بين هذا الجيل خرج عدد ممن شاركوا في التفجيرات التي روعت مدينة لندن في ٧ يوليو عام ٢٠٠٥.

هؤلاء الشباب امتداد لجماعات دينية متشددة وجدت في بلادهم لأسباب سياسية وتاريخية خلال فترة الاحتلال البريطاني، فكانت دعوات ‘الجهاد’ – في كتابات رجال مثل أبو الأعلى المودودي- لقتال المحتل، ودعوات العودة لأصول الدين تمسكا بالهوية مجابهة للمحتل الأجنبي الغربي المسيحي.

وفي بريطانيا نشأ الأولاد فكان تشبثهم بالدين أكثر حفاظا على الهوية. وكان إقبالهم على دراسة الدراسات الإسلامية إما في مدارس دينية أسست في مدن بريطانية مثل برمنجهام تحت اسم دار العلوم، وإما في أقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات البريطانية، ومنها جامعة برمنجهام حيث كنت أدرس وحيث التقيت بعدد منهم. كان هذا الإقبال على درس العلوم الدينية، وكذلك درس علوم اللغة العربية جزءا من خطة الحفاظ على هويتهم. وهم في ذلك يظهرون احتراما، بل تقديسا لا نظير له لأعلام الإسلام ولعلمائه ولما كتبوه من تراث. لا يعملون فيه العقل، بل النقل والنقل فقط. فهم يدرسون تراث الأجداد ليظلوا يحيون فيه. وقليلا ما تجد بينهم مجددا، فالتفوق لديهم في حفظ المتون، حتى متون العربية مثل متن ‘الأجرومية’ في النحو.

ونظرة هؤلاء الشباب للمرأة نظرة تقليدية كما ألمعت من قبل. ولا غرابة فتلك النظرة وليدة تراث ذكوري ينظر للمرأة فقط على أنها ‘أنثى’، وليس ‘إنسانا’.

والأدهى والأمر ما اكتشفته خلال رحلتي للحج حيث اعتاد السعوديون كتابة علامات الطريق واللافتات بالعربية والأردية في معظم الأحايين.

وفي لافتة إلى دورة للمياه للنساء اكتشفت أن كلمة ‘امرأة’ في اللغة الأردية هي ‘عورت’،

والكلمة مأخوذة من العربية. فما بال شباب نشأ على أن يعرّف أمه وأخته وزوجته وابنته على أنها ‘عورت’، ما باله بفاعل بتلك ‘العورات’ سوى سترها.

انتبهوا أيها السادة إلى ما يقرأه الشباب وما يتلقونه وما يستمعون إليه، وإلا ….

٤ نوفمبر ٢٠١٢

إيجابيات

                     

أرجو ألا تكون الصورة التي رسمت قسماتها يومياتي قاتمة، فما سعيت إلى ذلك ولكني رغبت في التنبيه إلى أخطاء نرتكبها وينبغي العمل على إصلاحها.

ومهما يكن الانطباع الذي خلفته اليوميات، فلابد من القول بأن هناك إيجابيات شاهدتها في رحلتنا.

ضمت جماعتنا أناسا من مختلف مشارب الحياة: كان فيها سائق التاكسي، والقصاب (الجزار-اللحام)، وجراح الأعصاب وأخصائي الجراحة والطبيب والأكاديمي والمعلم والطالب. وعلى الرغم من تنوع المشارب فقد صهرهم الحج فتآلفوا مع بعضهم بعضا، وتسارعوا إلى معاونة من كانوا بحاجة إلى عون. وتسابق الشباب والشيوخ إلى تحمل مسوؤلية توزيع الطعام والشراب بلا تأفف، وتشاركوا جميعا في مساعدة المقعدين. وتلك صورة رائعة لا تجدها في مثل تلك التجمعات الكبيرة.

وفي منى شاهدت بنفسي موقفا إيجابيا لابد من تسجيله. فقد اجتاحتني مثل أشقائي الحجيج نزلة برد اضطررت بسببها إلى الذهاب إلى المستشفى. وأحمد الله سبحانه وتعالى أن وفر لنا في منى مستشفى هو منى الوادي. وكان العاملون فيه في غاية التعاون والسرعة لإدخالي وزوجتي التي أصيبت كذلك بالبرد، وبعد الفحص كتب لنا الطبيب بعض الأدوية التي حصلنا عليها مجانا من صيدلية المستشفى.

مرأى أفواج المصلين -من نافذة غرفتنا في الفندق القريب من الحرم- وهم يتوجهون للصلاة منظر يبعث على السعادة، ويذكرك فعلا بصدق استجابة المولى جل وعلا لأذان سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أمره ربه “وأذن في الناس بالحج”، “يأتوك رجالا، وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق”.

وتحس في الحج بأن الناس فعلا أكثر تصبرا وتسامحا وتواضعا منهم في غير الحج من المواقف، وهذه خصال محمودة يا ليتنا نحملها معنا في رحلة عودتنا لتكون لنا زادا في مواقف حياتنا العادية اليومية.

وفي الحج تشعر أن الناس أكثر نشاطا وهمة، فهم يستيقظون قبل الفجر بساعات ليسعدوا بمكان لهم في أحد الحرمين، وهم مواظبون على صلواتهم في أوقاتها، وهم حريصون على قراءة القرآن وتلاوته. ولو حافظ الحجيج على مثل ذلك النشاط في أيامهم القادمة في أعمالهم لتغيرت حياتهم.

ومن العادات الطيبة في الحج أيضا وجوه تراها دوما مبتسمة، وشفاه تسمعها دوما مرددة السلام. وما أحوجنا إلى شيوع الابتسامة بدلا من التجهم في وجوه بعضنا بعضا، وتبادل التحيات التي تكسر حواجز جليد البغضاء والشحناء التي يولدها احتكاك العمل وزحمة المواصلات.

أرجو أن نفطن جميعنا في رحلة عودتنا إلى بلادنا إلى مثل هذا الزاد فنملأ به حقائبنا، فهو زاد خير وبركة لنا ولمن حولنا.

٥ نوفمبر ٢٠١٢

حقيبة حاج

 

نحن الآن في مطار جدة في بداية رحلة العودة إلى لندن، وقد حزم كل حقائبه بعد رحلة قد تكون هي رحلة العمر.

فماذا يا تُرى تحمل حقيبة الحاج؟

اعتاد معظم الحجيج خلال تلك الرحلة أداء مناسكهم في أوقاتها، والتسوق لشراء الهدايا جنبا إلى جنب في روتين يكاد يكون يوميا، يساعدهم على ذلك قرب نوال ما يبتغون من بضائع إما في محال منتشرة في كل مكان، وإما على قارعة الطريق من الحرم إلى الفندق سواء في المدينة أم مكة.

هدايا الحاج التي تشغل قسطا كبيرا من حقيبته متنوعة بيد أنها محدودة في آن واحد. وعلى رأس القائمة سبحات ذوات أطوال مختلفة، مصنوعة من خشب أو عاج أو فضة، وتأتي في ألوان متعددة.

وتتربع مياه زمزم على صدارة القائمة، ويمكن للحجيج شراؤها من بعض السوبر ماركت، ولكن الحكومة السعودية تفضل أن يشتري الحاج تلك المياه عن طريقها في المطار حرصا منها على تفادي حالات الغش التي أصابت عددا من الأفراد بالأمراض في فرنسا، كما قيل لنا.

وفقراء الحجيج قد لا يستطيعون شراء ماء زمزم، فيتجشمون عناء شراء زجاجات بلاستيكية كبيرة فارغة من السوبر ماركت، ثم عناء الوقوف في طوابير شرب ماء زمزم في الحرم وخارجة لملء زجاجاتهم وتوفير ريالات هم في حاجة إلى إنفاقها في مصارف أخرى.

ثم تأتي العطور التي ارتبطت بالدين ومناسباته مثل العنبر والمسك والعود والتي تباع في زجيجات صغيرة يصل سعر الواحدة منها عشرة ريالات.

وهناك التمور بأنواعها المحشوة وغير المحشوة، والسواك، وأغطية الرأس من طاقيات للرجال وأحجبة للنساء، إلى جانب الذهب والفضة التي لفت انتباهي انتشار محالهما انتشارا واسع النطاق في المدينة ومكة.

بمثل هذا تمتلئ حقيبة الحاج، وربما جاورها أيضا طبعات مختلفة من المصحف، أو التفاسير، أو كتب الأحاديث، أو سير الصحابة، أو تسجيلات القرآن الكريم بأصوات كبار قراء الحرم المكي الذين يذيع صيتهم خلال صلوات التراويح في رمضان من كل عام.

كل هذا الزاد المادي -الذي اتخم متاع الحاج-قد يسعد المهنئين المباركين لدى وصوله إلى بلاده واستقبال أهله وذويه له.

ولكن هل من زاد آخر، زاد لا يشتريه الحاج من سوبرماركت، ولا من أسواق المدينة أو مكة، زاد يشفي غلة الروح، وينتشر عبقه في علاقته مع الآخرين؟

إنه زاد الروح الذي من أجله كانت رحلة الحج وفي سبيله كان ما أنفق.

هل خلا لمثل هذا الزاد ركن في حقيبة الحاج؟

إن رحلة الحج في مجملها رحلة لإعلاء ذكر الله سبحانه، رحلة يتحمل فيها الحاج ويتعلم الصبر، والتواضع، والتسامح، وسعة الصدر، والإنفاق، والإقلاع عن الجدال، وحب الآخر وعونه إذا احتاج المعونة، وإشاعة الابتسامة، ونشر السلام.

مثل هذا الزاد لا يحتاج إلى حقيبة، أو ركن في حقيبة، لأنه ينبغي أن يكون في قلب كل حاج في ختام رحلته، وهذا هو زاده لما تبقى من أيام العمر، وهو الزاد الذي يجب أن يفيض بفضله على الآخرين من حوله.

أرجو ألا تكون الحقائب قد انتفخت، وخوت القلوب من الزاد الذي يضيء نبراسك.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.