“هنا لندن” ودور المذيع

دور المذيع في عصرنا

كنت أتحدث اليوم مع أحد الأصدقاء الذين يعملون في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وهو شاب نابه دؤوب طموح. وتطرق الحديث إلى المذيع وكيفية إعداده، وذكرني ذلك بأيام خلت، وأيام نعيشها، وما بينهما من رحلة طويلة، أشعر بحنين إلى الحديث عنها بطريقتي.

كان المذيع أيام زمان “قارئا – News reader”، يجب أن يتحلى بجمال الصوت، وجهوريته. وأن يكون نطقه معافى من أي لكنة تشوبه، فهو “مثال” و “نموذج”. ولم تكن الإذاعة بالإنجليزية في هيئة الإذاعة البريطانية تقبل مذيعا تشوب نطقه لكنة محلية، إسكتلندية، أو ويلزية مثلا. وكذلك كان الحال في القسم العربي نوعا ما. وأقول نوعا ما لأنه من الصعب على الناطق بالعربية الفصيحة التخلص من آثار لهجته الأم.

وكان العاملون في الإذاعة يصنفون في فئتين: فئة المذيعين، قارئي النشرات، وفئة المترجمين، الذين يسند إليهم ترجمة الأخبار والتقارير والتحليلات. وكانت الحدود بين الفئتين صارمة، إلى حد كبير. وكان بعض من عرفتهم من ذلك العصر، يتندر على ذلك الفصل بين الطائفتين، بسؤال الوافد الجديد على الإذاعة، وكنت من بينهم، “أنت جاي قراءة، ولا كتابة؟”

وعُرفت في ذلك العصر أصوات طبقت شهرتها بلا مبالغة الآفاق. وكان من بين هؤلاء من أصبح صوته “علامة مميزة” للإذاعة، نعرف به مكان موجتها، عندما كنا ندير مؤشر المذياع، حينما كان للمذياع مؤشر.

ومع الزمن وسيره تغيرت وظيفة المذيع، فلم يعد “قارئا”، بل أصبح حامل رسالة عليه أن يوصلها بطريقة طبيعية، وأصبح “محاورا”، “Communicator” وينبغي أن يتسم أسلوبه بطبيعية الأداء، فيه علو وانخفاض، في درجة الصوت وحدته، وتنوع في التنغيم الدال على المعاني، وفيه إقناع يشعر مستمعيه بأن ما يقوله كلامه هو، وليس كلاما مكتوبا له، يقرؤه هو نيابة عن كاتبه.

وتخلت الإذاعات في هذه المرحلة عن شروط جمال الصوت، وطلاوته، كما تنازلت أيضاً عن نبذ اللكنات المحلية، فأصبحنا نسمع في الإذاعة الإنجليزية أصواتا من شمال المملكة المتحدة، وغربها، وجنوبها، ووسطها. بل كم سمعنا أصواتا جُشّا (جمع أجش) نجح أصحابها نجاحا كبيرا في تقديم برامجهم.

وما زلت أذكر من ذكريات تلك المرحلة قرارا اتخذه أحد مديري الأخبار آنذاك بمنع أحد المذيعين، ممن كانت أصواتهم فعلا علامة مميزة، عن قراءة النشرة، لأن صوته – من وجهة نظره التقليدية – لم يكن جميلا، أو لأن قراءته كانت موسومة بلكنة بلده بجلاء. ولم يكن ذلك المدير يدري أن جمال الصوت أو لكنته، لم يعد لهما الأولوية في عصر أصبح المذيع فيه محاورا، وليس قارئا.

وقلت لصديقي – في نهاية جلستنا – إن وظيفة المذيع ليست سهلة، فأنت في الإذاعة تتعامل مع اللغة بالصوت فقط، وهو عدتك لتوصيل الأفكار، والعواطف، والحجج. وعدة جمهورك هي الأذن فقط، فعليك الحفاظ على جذب انتباهه طوال الوقت.

وفي الوقت الذي ينبغي فيه إتقان قواعد اللغة، ومعرفة صيغ الكلمات الصرفية أسماء وأفعالا، يجب أن تحذر التقعر في النطق، وأحيانا يكون التسكين – مثلا – مخرجا لطيفا من الوقوع في التقعر.

ومع أهمية صحة مخارج الأصوات، ودقة التعبير عن محتويات الرسالة التي يوصلها المذيع بصوته بواسطة التنغيم وحسن الوقف، وحسن الابتداء بين العبارات والجمل، لا ينبغي أن يقع المذيع في مزلق التنغيم فيكون صوته – كما أسميه – غنائيا، وهذا سمت بعض مذيعي المدرسة المصرية في الإذاعة، لأن أي صفة زائدة عن الحد في الصوت بحيث تكون سمتا غالبا، ستفقد المذيع انتباه مستمعيه، الذين يلهيهم التغني عن الانتباه إلى ما يقول.

وأنت لو فهمت ما بيدك – يا صديقي – فهما جيدا، وقسمت النص إلى فقرات، والفقرات إلى جمل، والجمل إلى عبارات موصولة الأوصال، ووضعت فواصلك، ونهايات جملك، وختام فقراتك، على الورق بلا حياء، استطعت توصيله إلى مستمعك بطريقة طبيعية تتسم بالأصالة، وكأنك تحكي لمستمعيك تجربة مررت بها، فلا تردد فيها، ولا لجلجة، ولا تلعثم.

لا تتعجل يا صديقي إذ لا يزال الطريق بينك وبين “هنا لندن”، غير قريب.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.