ديزني وعالم خيالي مصنوع

عالم ديزني المصنوع

يشغلني منذ فترة حال أطفالنا وأولادنا الذين لا ينالون – في رأيي – التربية الصحيحة التي ينبغي أن يتلقوها من والديهم. فقد أصبح الأطفال في بعض الأسر العربية هذه الأيام يتركون إما لخادمات ينتمين إلى ثقافة ولغة، وأحيانا ملة، مختلفة، وإما لأجهزة التليفزيون ومحطات الأطفال التابعة لشركة ديزني أو لغيرها من الشركات الأمريكية أو الأوروبية، وما تقدمه لهم من شخوص وأبطال وصور تعبر عن مجتمع بعينه، ذي قيم خاصة ومعايير محددة.

والآن أضحى أولادنا وبناتنا الأكبر سنا يقضون الساعات الطوال أمام أجهزة الكمبيوتر، والأجهزة الإلكترونية الذكية الحديثة، في أحاديث لا تنتهي عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون رقيب أو رشيد.

وقد لاحظت أن عالم ديزني فيه أبطال في أعمارهم، بعضهم من بني البشر، وبعضهم من جنس الحيوان. وهؤلاء جميعا يتحركون في قصص نسجت خيوطها من خيال، مهما جمح فسيظل يدور في فلك المجتمع الأمريكي، أو الأوروبي الذي ينتمي إليه الكاتب، وفريق الإنتاج.

ويعايش أطفالنا هؤلاء الأبطال صباح مساء، في البيت، وحتى خارج البيت. إذ إن شركات المجتمعات الغربية الرأسمالية لا تفوت فرصة إلا انتهزتها للحصول على المزيد من الأرباح. فمع عرض أي فيلم جديد لديزني مثلا، تغرق الشركات الأسواق بلعب عليها صور أبطال الفيلم وأسماؤهم، وأدوات للطعام والشراب والكتابة أو التسلية ممهورة بذات الصور والأسماء. وتنسج شركات الملابس مئات الفساتين والقمصان والبناطيل التي كان يرتديها أبطال الفيلم، وكم هي سعادة أطفالنا عندما يحوزون على قطعة منها ليتباهوا بها أمام أترابهم في المدرسة، أو في حفل لعيد ميلاد.

ويظل أطفالنا محاصرين من كل جهة بهذا العالم الخيالي، وبأبطاله، وبقيمه، وبأزيائه، وطبعا بطريقة كلام هؤلاء الأبطال، وما يرددونه من عبارات وتعبيرات تدخل حديثهم اليومي مع أصدقائهم ووالديهم المنتفخين زهوا بقدرة أولادهم وثقافتهم.

مدينة ديزني

وخير مثال لهذا العالم الخيالي المصنوع، مدن ديزني، وقد زرت إحداها في ضواحي باريس. ومنذ أن تطأ أقدام الزائر الأرض المحيطة بالمدينة يدرك – كبيرهم قبل صبيهم – أنه يدخل فعلا عالما مختلفا عن ذلك الذي جاء منه. فسور المدينة، ومبانيها وأقسامها ومحالها، ومطاعمها، وددكاكينها، ومناطق الألعاب فيها، كلها قاطبة تشعرك بأنك في فيلم من أفلام ديزني. وخلال تجوالك تقابل أبطال أفلام ديزني المشهورين بملابسهم الكرتونية المعروفة، وعليك أن تقف ساعات أحيانا من أجل أن تلتقط لك أو لابنك أو بنتك صورة مع ذاك الفأر، أو تلك البطة، أو، أو … وينهي الزائر رحلته وهو محمل بأكياس وأكياس مما يخلد هؤلاء الأبطال، ويرسخ في أذهان أطفالنا أن لهذا العالم الخيالي الذي شاهده على الشاشات، وجودا حقيقيا، وإن كان خلف أسوار مدينة ديزني التي لا يستطيع إنسان نكران وجودها.

ووسط هذا كله لم يعد لدى الأسر فرصة تتأمل فيها في هذا العالم المصنوع غير الحقيقي، وفيما يتعرض له أولادها وبناتها، ويشكل شخصياتهم، بل أحسب أنهم قد يشعرون بالسعادة لأن أطفالهم ينشؤون في كنفهم، وأنهم يتابعون “لغة” العصر ومستحدثاته، ويستطيعون مواكبتها، ويستكملون من خلالها تعليمهم، وسيكون ذلك لهم ذخرا في الكبر عند طرق أبواب العمل.

وعيب أسرنا اليوم أنها لا تولي بالا – بالنسبة إلى تربية أبنائها – إلا إلى التعليم، محفزة إياهم على الاجتهاد، والمثابرة من أجل التفوق، وحيازة رفيع الدرجات، لبلوغ مكان – يطمح إليه الوالدون قبل الأبناء – في كلية مرموقة، أو جامعة ذات صيت. ولا تنتبه الأسر إلى الجانب الاجتماعي لحياة أبنائها، فهم لن يعولوا في حياتهم العملية مستقبلا على العلم والتعليم فقط، بل سيحتكون بأناس آخرين، وسيضطرون إلى التعامل مع صنوف من الرجال والنساء قد يكونون مختلفين عن آبائهم وأمهاتهم، وهم لم يهيؤوا لهذا من قبل.

أرجو أن تنتبه أسرنا إلى أطفالها وأولادها، ولتنظر ماذا يشاهدون، وماذا يسمعون، وماذا يتصفحون، فكل هذا سيشكل جوانب شخصياتهم في المستقبل. ولينتبه الآباء والأمهات إلى هويتهم هم أنفسهم ومقومات تلك الهوية من ثقافة ولغة وسلوك ولباس، وليغرسوا ذلك في أبنائهم وبناتهم، إن رغبوا في أن يتمتعوا بشخصية مستقلة مستقيمة قوية.

دعوا أولادكم وبناتكم يعيشوا عالمهم العربي الواقعي الحقيقي منذ الطفولة، ويتحدثوا لغته، ويحيوا ثقافته، محافظين على هويتهم، فهذه هي سمات الشخصية التي نحن بحاجة إليها لبناء مجتمع عربي أقوم وأفضل.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.