هل تدعو اللغة إلى العنف؟

هل تدعو اللغة إلى العنف؟

ينحو المتحدثون بالعربية، خاصة في يومها العالمي، في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول من كل عام، إلى الاحتفاء بلغتهم والاحتفال بجمالياتها ، حروفا وأصواتا، وإسهاماتها في الحضارة.

ويميل بعض هؤلاء في الوقت ذاته إلى الشكوى من الخطر الذي تواجهه اللغة من قبلهجماتاللغات الأجنبية، واللهجات أو العاميات المحلية.

ووسط هذا الاحتفاء من جانب، والشكوى من جانب آخر، يغفل متحدثو العربية خطرا جللا آخر آخذا في التغلغل عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، يتمثل في خطاب العنف والتطرف، وإشاعة الكراهية ضد طوائف المجتمع بعضها بعضا.

هل هناك لغة عنيفة؟

ومن يتصفح المواقع الإخبارية هذه الأيام، ومواقع التواصل الاجتماعي يجدها مليئة بكلمات وتعبيرات من قبيلعنف، وإرهاب، وقتل، وذبح، وقطع رؤوس، وخطف، ورهائن، خاصة في أعقاب ظهور تنظيمات وجماعات يتسم نهجها الفكري بالتشدد والتطرف المذهبي المتستر وراء غلالة نسيجها الدين. بل إن كثيرا من هذه التنظيمات والجماعات يتعمد استخدام مفاهيم دينية قديمة، من قبيلخلافة، أوالدولة الإسلامية، لها في أذهان كثير من الناس وقع إيجابي.

ويتوهم بعض متحدثي العربية أن شيوع مثل هذه الكلمات في اللغة المتداولة في الخطابين الديني والسياسي كليهما جعل من العربية لغةعنيفة، بل حولهافي رأيهممن لغة عرفت بـالرقةوشعر الغزل والحب والصوفية، إلى لغة طغى عليها العنف والتطرف.

بيد أن طبيعة اللغةبصفة عامةلا تسمح بوصفها بأيعنف، أوتطرف، أوتسامح، أوحب“. فهذه نعوت قد تتصف بها اتجاهات البشر الذين يتحدثون اللغة، وقد تتصف بها أيضا خطاباتهم السياسية، والدينية. ويلحظ المتابع لمجريات الأمور والأحداث في العالم العربي أن الخطابين الديني والسياسي في أقطار منه يهيمن عليهما هذه الأيام عنف وتطرف واضحان.

اللغة والخطاب

وهناك فرق بين اللغةكما تُستخدم في المجتمعات العربيةوالخطاب الديني أو السياسي فيها. فاللغة وسيلة يوظفها الخطاب لنشر رسالته، مثلها في ذلك تماما مثل الصور، والموسيقى، والأناشيد، والرسم، والملابس، واللافتات، وغيرها. أما الخطابسواء أكان دينيا أم سياسيافهو يعبر عن نهج واتجاه فكري شامل لطائفة أو حزب أو جماعة في فترة من الفترات. ومن أهم أدواته المتعددة في نشر رسالته اللغة.

كلماتنا التي نتحدث بها ونقرأها تعين أخلاقنا وسلوكنا الاجتماعي، فنحن فضلاء أو أرذال باللغة، ونحن عقلاء أو مجانين باللغة، وعلماء أو جهلاء باللغة – سلامة موسى

وقد استغل الخطابان السياسي والديني التجمعات السياسية والدينية، ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة، والمنابر الدينية، في الترويج. ثم أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي في وقتنا هذا ساحة رحبة لكلا الخطابين.

ويكمن خطر خطاب العنف والتطرف، الذي أشرت إليه سابقا، في تكراره صباح مساء، هنا وهناك، عبر تلك الوسائل والوسائط. وهذا التكراربحسب ما يقول المختصون في علم اللغة الإدراكي أو المعرفيينشط في أذهان المتلقين مفاهيم وصورا وأطرا مرتبطة بالعنف والتطرف، وترسخهما في أذهانهم.

مسؤولية وسائل الإعلام

ففي كل مرة تتحدث فيها وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي عن تنظيم ينسب نفسه لـالدولة الإسلاميةيستحضر المتلقون في أذهانهم تلك الصور والمفاهيم المحببة في نفوس كثير منهم، والتي عرفوها خلال درسهم أو قراءتهم للتاريخ الإسلامي. ويساعد هذا في ترسيخ إطار ذهني مقبول لذلك التنظيم في الأذهان، لأنه يعيدذهنيا على الأقل لدى بعض المتلقينجزءا من تاريخ مفقود.

وقد لمس شيئا قريبا من ذلك المفكر المصري سلامة موسى عام 1945 في كتابه (البلاغة العصرية واللغة العربية) حينما قال إنكلماتنا التي نتحدث بها ونقرأها تعين أخلاقنا وسلوكنا الاجتماعي، فنحن فضلاء أو أرذال باللغة، ونحن عقلاء أو مجانين باللغة، وعلماء أو جهلاء باللغة“.

وضرب موسى مثلا بالشاب الريفي الذي نشأ وتربي وسمع بأذنه، وتكرر سماعه لكلماتالثأر والانتقام والدم، فإن هذه الكلمات حين ينطقها تصور له صورا فكرية معينة وتحمله على أن يسلك السلوك الإجرامي بقتل خصومه لأوهى الأسباب“.

إن تكرار مفاهيم العنف والتطرف، المباشرة وغير المباشرة، طبقا لنظريةالإطار الذهنيالتي يتبناها عالم اللغة الأمريكي جورج لاكوف، ينشط تلك المفاهيم ويرسخها في الأذهان.

والحقيقة المؤلمة هي أن بعض وسائل الإعلام تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية نشر خطاب التطرف والعنف، حتى وإن كانت تتبنى الحياد والموضوعية. فباسم الحياد تتحدث عن الجماعات والتنظيمات بأسمائها، فترسخها في الأذهان، وتنقل أخبارها بحيادية أيضا فتكون دون أن تدري منبرا لها.

خطاب التسامح

وهذه مشكلة ينبغي على وسائل الإعلام التعامل معها بحنكة وذكاء بحيث تحافظ على وظيفتها في نقل الأخبار وإعلام الناس بما يحدث حولهم، دون أن تسهم في نشر خطاب العنف والتطرف، ودون أن تصبح منبرا للجماعات والتنظيمات المتطرفة.

وربما يساعد في الحفاظ على ذلك التوازن المنشود في وسائل الإعلام إفساحها المجال أكثر لممثلي خطاب التسامح والمؤاخاة والمواطنة في برامجها وندواتها لتواجه بطريقة إيجابية الخطاب الآخر.

وبهذا يمكننا أن نحد شيئا فشيئا من خطاب العنف الذي ألصق باللغة العربية في الفترة الأخيرة افتئاتا، وما أجمل أن نذكركما يقول سلامة موسى – “ونكرر الذكر لكلمات الحرية والديمقراطية، .. والمساواة والإخاء والحب .. وحق المرأة في الإنسانية“.

(نشرت هذه المقالة في ديسمبر ٢٠١٤ في موقع بي بي سي)

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.