في ذكرى رحيل فريد الأطرش

ما الذي يميز فريد الأطرش؟

اندفعت في الصباح – كعادتي في أيام العطلة – إلى يوتيوب للاستماع إلى شيء من الموسيقى. ودون تفكير مني رأيتني أبحث عن شيء لفريد الأطرش. واكتشفت من بعد أن الفنان الفريد قد رحل في مثل هذ اليوم في عام ١٩٧٤. وبعد مرور واحد وأربعين عاما على رحيله، لما يزل فنه، موسيقى وغناء، يجتذب مستمعين جددا.

وقد وصفت فريد بالفنان الفريد لما لاحظته من نقاط تميز بها من غيره من الفنانين.

كان فريد عازف عود من طراز فريد، وكان مطربا مبدعا، كما كان ملحنا ملهما. ولذلك فلا مجال للمقارنة بينه وبين غيره من المطربين فقط، من قبيل عبد الحليم حافظ مثلا.

كان فريد فنانا اصطبغ غناؤه وألحانه لنفسه بمسحة من الحزن، ربما تعكس ما مرت به حياته وحياة أسرته. لكن ألحان فريد لغيره من المطربين، لم تكن تتسم بتلك السمة، لأنه كان يعبر عن كلمات ربما لم يخترها هو، بل اختارها المطرب نفسه، أو المطربة نفسها. كما أنه كان يلحن لصوت آخر يختلف عن صوته هو الذي كان – حتى في حديثه العادي – فيه نبرة حزينة. ولذلك عرفنا لفريد أغنيات خفيفة مرحة، مثل أغنية (حبيبة أمها) التي كتبها حسين السيد ولحنها هو لصباح.

كان فريد أيضا فنانا مجيدا في انتقاء الكلمات التي يطربنا بها، فهو يحسن اختيار القصائد التي تحوي معاني ربما لم يكن بعضها مسبوقا من قبل، ومن هذا الباب التعبير الجميل في رائعته (أول همسة):

ما ليش أمل ياحبيبي فيك غير اني أشوفك بعينيا
خلي الجمال و الحسن عليك وانا الغرام والحب عليا

وهذا نوع رقيق من الحب، عانيته وعاناه بَعضُنَا، ولما يزل يقاسي منه آخرون، عندما تقع في حبائل حب، يصعب معه، بسبب ظروف كثيرة، تحقيق التقارب المبتغى من الحب ليكتمل ويثمر. وهل نرفض مثل هذا الحب؟ وكيف نرفض ما لم يكن لنا فيه خيار. إنه القلب وما يعشق. هو إذن حب بلا أمل، سوى رؤية الحبيب، والتمتع بمشاهدة جماله، والمعاناة من غرامه. ما أرق المعنى، وأنبله.

تميز غناء فريد أيضا – في رأيي – بمد بعض الأصوات، حتى الحركات القصيرة، التي نعرف نحن دارسي علم الأصوات، أنها إن طالت عن الحد فقد تختلط بالحركات الطويلة، التي لا يميزها من القصيرة إلا ملمح الطول (كالفرق بين صوت الفتحة، في كٓتٓبَ، وصوت الفتحة الطويلة التي نكتبها ألفا، في كاتب، وكتابان). وهذا المنحى من جانب فريد مخالف للمعهود في الغناء، ومخالف للقواعد الصوتية في اللغة العربية. لكن ما قد يشفع لفناننا هو غلبة الموسيقى واللحن والأداء عليه، على قواعد الأصوات.

ومن الأصوات الأخرى التي لحظت مد فريد لها في غنائه، أصوات الذلاقة، (وهي الأصوات التي تنطق من ذلق اللسان، أي يكون لطرفه دور في نطقها) وهي اللام، والراء، والنون. وهذه السمة ملحوظة في أغنية (أول همسة)، خاصة اللام، وتطويل فريد هنا في هذه الأصوات أمر محمود، لأن طبيعة تلك الأصوات تساعد على المد بحيث يكون الصوت الناتج صوتا يحسن الاستماع إليه. وهذا على نقيض مد أصوات أخرى من قبيل الشين، مثلا، أو الزاي، مثلا، مما قد لا يجمل عند الأداء.

لقد استمعت اليوم لأول همسة واستمتعت. وآمل أن تجدوا فيها متعة.

ورحم الله فناننا الفريد، فريد الأطرش.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.