في الثالث من يناير من عام ١٩٣٨ نطقت هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية لأول مرة. وما بين ذاك التاريخ، يوم انطلاقها، وتاريخنا اليوم حكاية طويلة فيها دروس كثيرة، نتوقف هنا عند واحد منها، وهو اللغة العربية، أداة أي إذاعة عربية.
حرصت المحطة الجديدة منذ انطلاقها على تبني العربية الفصيحة لغة لها، في نشرات الأخبار، وفي البرامج، وفي أوقات الربط. إذ إنها كانت تدرك أن ذلك المستوى اللغوي الفصيح هو أنسب المستويات اللغوية لمخاطبة العرب قاطبة، الذين ينطقون بلهجات مختلفة. ونجحت المحطة الوليدة بهذا الاختيار في ألا تصطبغ بأي صبغة محلية، مشرقية أو مغربية.
وظهر أكثر حرص الإذاعة على العربية الفصيحة – وقد أخذت ساعات البث فيها تزداد – في الاهتمام بالآداب والفنون العربية في برامجها، من شعر، وفنون نثرية، ومسرح.
كما استنت سنة محمودة تمثلت في استضافة كبار الكتاب والأدباء العرب لتسجيل أحاديث دورية اختصوا بها هيئة الإذاعة البريطانية وحدها.
وحظيت المحطة إلى جانب ذلك، ببعض الشعراء والأدباء الذين عملوا فيها لفترة، فأفادت منهم وأثروا برامجها.
وبدأت المحطة الجديدة شيئا فشيئا ترسم لنفسها اتجاها في نطق العربية الفصيحة، عُرفت به، وأصبح من سماتها. واتسم ذلك الاتجاه بتحرّي صحة في نطق الأصوات، وتبني سمت غير محلي، وانتهاج طريقة تنغيم خاصة بها. وساعد في نشر ملامح هذا الاتجاه أصوات أضحت هي صوت هيئة الإذاعة البريطانية بالعربية، يعرفها المستمعون بسماع أصواتهم المميزة، عند تحريك مؤشر المذياع، عندما كان للمذياع مؤشر.
وكم كانت تشدني تلك الأصوات وأنا في بداية شبابي، وكم تطلعت إلى العمل في الإذاعة بسبب حسن أداء معظمها. ولم أكن وحدي في هذا الانجذاب إلى محطة هيئة الإذاعة البريطانية، وإن كنت من بين طائفة، قد لا تكون كبيرة، لفتت مسامعها طريقة النطق التي عرفت بها. فقد كان كثير جدا من العرب يداومون على الاستماع إلى الإذاعة لمعرفة الأخبار التي إما تغفلها عمدا محطات إذاعاتهم المحلية، وإما تقدمها لهم بدون دقة أو أمانة.
ولقد تعلمت الكثير في فترة عملي بهيئة الإذاعة البريطانية. ولعل الدرس الأهم لدي هو اختلاف نظرتي للغة.
فنحن نتلقى العربية في مدارسنا ومعاهد التعليم لدينا بالعين، نصوصا مكتوبة. إذ إننا لا نسمعها كثيرا قدر استماعنا إلى لهجاتنا التي ننشأ عليها، ونتداولها في البيت والشارع والمدرسة. ومن يعمل في الإذاعة يتعامل مع اللغة بالأذن، فهي وسيلة مستمعه الوحيدة. ومن هنا ينشأ لدى “الحريصين” من المذيعين اهتمام شديد بنطق الكلمات الصحيح، وطرق تنغيم الجمل للتعبير عما يريدون توصيله إلى المستمعين. وهذا درس لم أدركه إلا بعد عملي في الإذاعة، بالرغم من دراستي للعربية وآدابها.
هذا هو نصف الحكاية.
أما نصفها الآخر فقد لا يكون بهذا البريق.
لقد تغيرت هيئة الإذاعة البريطانية من الناحية التقنية كثيرا، من حيث الأجهزة، والتقنيات المستخدمة في التسجيل، والبث، وتجهيز المواد الإذاعية. ونال التليفزيون وموقع المحطة على الإنترنت قسط وافر من التغير، بل التطور البعيد الشوط.
بيد أن حال الأداة المستخدمة، وهي اللغة العربية، ومن يستخدمونها من مذيعين ومقدمي برامج، ومحررين على الموقع، لا يسير في الاتجاه نفسه: تطورا وإلى الأمام.
فلم تعد العربية الفصيحة التي عرفت بها هيئة الإذاعة البريطانية، في ثياب فصاحتها المعهودة، بل خلعتها، في “بعض” من البرامج والمقابلات، وهجرتها إلى لهجات محلية، إن فهمها ابن المشرق، استغلق فهمها على ابن المغرب.
ودُفع إلى المايكروفون – في الإذاعة والتليفزيون – بأناس لم يتلقوا تدريبا كافيا في نطق أصوات العربية، ولا في قواعدها، وطرق التنغيم (intonation) المعبرة فيها.
كما عُهد في تحرير النصوص وترجمتها إلى “صحفيين” لم يخبروا اللغة الإنجليزية بقدر كاف، ولم يتلقوا تدريبا كافيا على نقل التعابير الاصطلاحية من الإنجليزية إلى العربية. ولذلك بثت أحيانا على منابر هيئة الإذاعة البريطانية الثلاثة ترجمات ما كان ينبغي أبدا أن ترى نورا، ولا مايكروفونا.
ولو أرادت هيئة الإذاعة البريطانية البقاء فتية في سني عمرها التالية، فلابد أن تهتم قبل أي شيء آخر باللغة العربية الفصيحة، وأن تقلع عن الاتجاهات المحلية حتى لا تفقد مستمعيها. ولابد أن تهيئ مذيعيها وتعدهم إعدادا جيدا جدا قبل أن يتجرأوا على مواجهة الملايين من المستمعين عبر المايكروفون، أو الكاميرا.
ولابد أيضا من التدقيق الشديد في ترجمة النصوص، وتدريب المحررين شهورا وأياما قبل أن يسمح لهم بمواجهة قراء الموقع.
وآمل أن نحيي هيئة الإذاعة البريطانية في أعيادها المقبلة وقد شُدت عضلاتها ولم تتراخ.
(كتبت هذه المقالة في عام ٢٠١٦)