بي بي سي العربية ونصف الحكاية الآخر (٢)

في الصورة يمينا حسن أبو العلا ومحمد العشيري، ويسارا مارون عقيقي ومحمد الأزرق

جاءني تعليق على مقالتي (بي بي سي العربية ونصف الحكاية الآخر) من صديق كريم جدير بأن أتوقف عنده.

يقول الصديق معلقا على ما كتبته عن محطة هيئة الإذاعة البريطانية واللغة العربية الفصيحة: “ماذا تقول … لمن يدفع بأن المحطة ليست مدرسة أزهرية، وبأنها في المقام الأول منبر إخباري، وأن العبرة هي بالمحتوى التحريري، ناهيك عن السعي إلى مواكبة روح العصر، وألا تكون قاصرة على جمهور من الآباء والأجداد. مجرد تساؤل”.

وأول ما لاحظته في تعليق الصديق الكريم هو الخلط بين دعوتي إلى التمسك بالعربية الفصيحة في منابر هيئة الإذاعة البريطانية المختلفة، واللغة المتقعرة القديمة، لغة الآباء والأجداد، التي لا تواكب روح العصر. إذ يبدو أن الاثنتين مرتبطتان في أذهان كثيرين منا. وتلك اللغة المتقعرة القديمة، لغة أخرى، ما دعوت إليها أبدا، وما رأيت يوما أنها مناسبة لأي وسيلة إعلامية في عصرنا هذا. إذ إنني دائما أدعو إلى استخدام لغة سلسة خالية من الحشو والتكرار في الكتابة الإعلامية.

وقد يكون من النافع أن أوضح ما أقصده بمصطلح ”اللغة العربية الفصيحة“. وهذا المصطلح يخالف مصطلح آخر هو ”اللغة العربية الفصحى“. وأنا أفرق بين المصطلحين. فالثاني لديّ – وعلينا أن نلفت الانتباه هنا إلى صيغة التفضيل (فصحى) – هو العربية القديمة التي كانت تستخدم في الشعر العربي القديم، وهي أيضا لغة النثر القديم.

أما العربية ”الفصيحة“، فهي لديّ العربية المعاصرة التي يستخدمها المتعلمون والمثقفون ممن يجيدون العربية في أيامنا هذه. وهي اللغة المستخدمة في معظم وسائل الإعلام الحالية، وهي أيضا ما أدعو إلى التمسك به بشيء من السلاسة المباشرة وعدم الحشو والتكرار والبعد عن التعابير التقليدية التي يتناقلها الكتاب ويرددونها بلا وعي (كليشيهات).

ولعل هذا الخلط هو ما دفع بالصديق الكريم إلى استخدام تعبير “مدرسة أزهرية”، وصفا لما “ظن” أني أدعو إليه، ونفيه عن هيئة الإذاعة البريطانية، باعتبارها منبرا إخباريا، وليست “منبرا دينيا”، كما أظن أنه أراد أن يقول.

وهذا وصف وتصنيف لم أسمع به من قبل. فربما تداول أناس تعبير “مدرسة الأزهر” في الدين، واصفين إياها بالمدرسة الوسطية المعتدلة. أما وصف استخدام العربية الفصيحة في وسيلة إعلام عالمية موجهة إلى العالم العربي بأنه اتجاه “أزهري” فليس – فيما أحسب – وصفا دقيقا، لا للغة المستخدمة، ولا لطريقة الأداء الصوتي.

ولأصارح الصديق الكريم فأقول إن هذه هي المرة الثانية التي أسمع فيها – خلال فترة عملي في هيئة الإذاعة البريطانية – بهذا الوصف، “أزهري”.

وكانت المرة الأولى، حينما سئل مسؤول في الهيئة عن سبب عدم سماحه لأحد المذيعين بقراءة نشرة الأخبار، وكان رده على من سأله: “لأن صوته أزهري”.

وقد دهشت عند سماع هذا الوصف لصوت من أصوات الإذاعة، وتساءلت في خبث: هل هناك صوت “أزهري”، وصوت “غير أزهري”، أو “علماني” مثلا؟ وهل يُعاب على رجل عربي نطقه الواضح لأصوات العربية، الذي قد يرتبط في أذهان بعضنا بالقرآن، أو بالدين، أو بالأزهر ورجاله.

وربما يكون وصف “أزهري” صحيحا، إذا كان المنعوت به، يطبق في نطقه للعربية الفصيحة اليوم قواعد “تجويد” القرآن الكريم الصوتية، من غنة، وإخفاء، وإدغام وغيرها.

ولا أظن أن المسؤول كان من الحنكة وقتها فيلمح سمات ”قرآنية تجويدية“ في طريقة نطق ذاك المذيع المظلوم. بل أكاد أجزم بأن وصفه لصوته بأنه ”أزهري“ إنما كان وصفا انطباعيا محضا.

وقد لا يعلم الصديق الكريم صاحب التعليق أن في الأذاعة الآن من يطبق ”بعض“ القواعد الصوتية لتجويد القرآن الكريم في قراءة نشرات الأخبار، متوهما أن هذه هي الطريقة الصحيحة في نطق أصوات العربية. وكان هذا المذيع يسلك المسلك نفسه في الماضي، دون أن يدرك المسؤول عن الأخبار ذلك الملمح لديه.

أما مسألة “العبرة بالمحتوى التحريري”، فلا أظن أبدا أن هناك محتوى تحريريا يفرض على المحررين استخدام مستوى لغوي  بعينه في وسائل الإعلام. فلغة الإعلام – في رأيي – ذات مستوى واحد، يتسم بالبساطة والسلاسة والمباشرة، والصحة اللغوية. وهو هو الذي يستخدم في الأخبار، والعلوم، والرياضة، والفنون، مع فروق طفيفة تفرضها طبيعة المادة.

ولذلك فلست أرى أي تعارض ألبتة بين استخدام العربية الفصيحة، والمحتوى التحريري.

وهذه هي الحال نفسها في اللغة الإنجليزية في هيئة الإذاعة البريطانية بمنابرها المختلفة. إذ يستخدم المحررون بها مستوى عاما يتسم بالصحة اللغوية، ويترفع عن اللهجات المحلية مثل لهجة “كوكني – Cockney accent”، أو لهجة “جلاسجو – Glaswegian accent”، مثلا.

وتبقى مسألة “روح العصر” التي لا أظن أن استخدام العربية الفصيحة قد يقتلها.

إن ما قد يقتل روح العصر فعلا هو الحشو، والتكرار، وعدم المباشرة في اللغة التي يستخدمها الآن محررون شبان، اعتادوا على ترديد أساليب تقليدية مكرورة وليدة عدم دراية بالترجمة، وإغفالٍ لقواعد العربية، وإهمالٍ لسلاسة لغة الإعلام وبساطتها.

وتجد في تلك اللغة – التي ربما يتوهم محررون أنها تواكب روح العصر – مثلا تكرار أفعال من قبيل ”قام/يقوم“، و”جرى/يجري“، و”خضع/يخضع“، دون داع ولا حاجة لغوية، مثل (قام الرئيس بزيارة …)، و(خضع المريض لعملية …)، و(جرت محادثات … ). وتكرار كلمات من قبيل “أعمال”، مثل (وقعت أعمال عنف …)، وغيرها من حشو، لا تحتاجه لغة الإعلام، ولا أستطيع أن آتي على أغلبها في هذا التعليق الموجز.

وخلاصة القول: كيف يمكننا في منبر إخباري أن نعبر عن أي محتوى تحريري، في ثوب أو لغة مهلهلة، مرقشة بقطعة من هنا، وقطعة من هناك؟ وهل المحتوى أهم من الثوب؟ وهل الرسالة المراد إبلاغها في وسائل الإعلام أهم من اللغة التي تصاغ فيها الرسالة؟ وإلى أي مدى تؤثر صيغة الرسالة في إبلاغها؟

هذان هما السؤالان الكبيران المهمان.

(كتبت هذه المقالة في عام ٢٠١٦)

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.