ليس “للحقيقة” مكان

ليس للحقيقة مكان

في السادس عشر من نوفمبر من كل عام تختار دار أكسفورد للمعاجم كلمة أو تعبيرا تطلق عليه كلمة أو تعبير العام. وينال هذه المرتبة ما يكثر تداوله وترداده خلال العام في الصحف والكتب والمدونات.

وتحرص دار أكسفورد للمعاجم دوما على تتبع مفردات اللغة الإنجليزية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية بواسطة بعض من البرامج، التي تبحث كل شهر في حصيلة تبلغ نحو ١٥٠ مليون كلمة مستخدمة في اللغة الإنجليزية، تجمعها من الصحف والكتب والمدونات، ونصوص الأشرطة المسجلة للغة الإنجليزية المحكية. وتسمح تلك البرامج المتقدمة تقنيا لخبراء علم المعاجم بتحديد الكلمات الجديدة، كل يوم تقريبا، واختبار التغيرات التي تطرأ على الكلمات الموجودة والمستخدمة بالفعل.

ومن بين هذه الحصيلة يختار فريق الدار عددا من الكلمات والتعبيرات التي شاعت وكثر تداولها خلال العام – فيما بين نوفمبر من العام الماضي، ونوفمبر من العام الحالي – ويشارك في الاختيار محررو المعاجم باقتراح بعض الكلمات، كما تتسلم الدار اقتراحات ترسل إليها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، والتعليقات على مدونة أكسفورد.

وتختصر القائمة حتى تصل إلى عشر منها فقط هي التي تمثل أكثرها حظا لتكون كلمة أو تعبير العام. وفي ١٦ نوفمبر تعلن دار أكسفورد كلمة أو تعبير العام من بين هذه القائمة المختصرة.

وتعبير عام ٢٠١٦ هو (Post-Truth) وهو يتكون من كلمتين: سابقة (prefix) + اسم (noun). والسابقة في هذا التعبير ليست مستخدمة بمعناها الشائع، الذي يعني ”بعد“، كما يستخدم مثلا في – (ما بعد الحرب – post-war)، و (ما بعد الحداثة – post-modernism).

فقد طرأ عليها هي ذاتها تغير، فأصبحت تدل على ”ما لم يعد ذا صلة، أو ما لم يعد ذا أهمية“. ولذلك فإن التعبير الذي اختاره محررو دار أكسفورد للمعاجم يعني أن الحقيقة لم يعد لها أهمية، أو لم تعد ذات صلة. ويستخدم هذا التعبير أيضا في الإشارة إلى اتجاه سياسي يعرف بـ”سياسة عدم أهمية الحقيقة – post-truth politics“.

وهذه هي السياسة التي أخذ ينتهجها سياسيون، يريدون اجتذاب الجماهير بإثارة عواطفهم ومشاعرهم، مُنحّين الحقيقة جانبا، إذ لم يعد لها مكان، بعد أن فقدت أهميتها في خطاب الجماهير.

وهذا هو بالضبط ما حدث في حدثين كبيرين عاصرناهما: حدث في بريطانيا، وهو الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي؛ وحدث في الولايات المتحدة، وهو انتخابات الرئاسة فيها. ففي كلا الحدثين، طرح السياسون – كثير منهم – الحقيقة جانبا، وركزوا على تهييج عواطف الجماهير وإلهاب مشاعرهم. ومازلنا نذكر ما كان يقوله نايجل فراچ، وبوريس چونسون وغيرهما، حتى يثيروا الناس في بريطانيا. ونذكر أيضا ما كان يقوله دونالد ترامب في مناظرات الرئاسة، وفي خطاباته قبل المناظرات وبعدها لإثارة الجماهير. ونذكر كذلك كيف اتسم خطاب الساعين إلى إخراج بريطانيا من الحظيرة الأوروبية، وخطاب ترامب صاحب النزعة العنصرية بإغفال الحقيقة، بل عدم الاكتراث بها. وفاز الفريقان في البلدين، بعد أن تمكنا من كسب تأييد الجماهير الذين هُيجت مشاعرهم وعواطفهم، فانساقوا وراء المهيجين وهللوا لهم، وصوتوا لهم.

وتعبير هذا العام شديد الدلالة على العصر الذي نعيشه وما فيه من اتجاهات. فنحن نعيش في عصر وسائط التواصل الاجتماعي – التي فتحت مجالات لأناس من أطياف متباينة في مستويات تعلمها، وفي انتماءاتها الطبقية، وتوجهاتها الفكرية، للتعبير عن أفكارهم، والتعليق على ما يكتبه الآخرون، ونشره على نطاق أوسع بمشاركته مع من يتابعونهم.

وفي هذا الخضم من المدونات، والمنشورات والتعليقات، والتغريدات، قد تختفي الحقائق وتنزوي أو تهمل، وقد يغيب معها العقل وتضيع الحكمة أيضا، إذ لم يعد لها جميعا منبر، بل أخذت تفقد أهميتها، وتفسح المجال للعواطف والمشاعر.

ولا شك عندي أبدا في أن الاتجاه السياسي الذي يعرف بـ(post-truth politics) – وهو بلا ريب ذو خطورة كبيرة وعواقب مدمرة في السياسة – هو نتاج وسائط التواصل الاجتماعي: فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وغيرها. إذ لا رقيب على ما يُكتب فيها وما يُنشر، وليس هناك اهتمام بذكر الحقائق، أو برد الناس إليها، إن لاحظ بعضنا حيدا عنها. فتيار الكذب والزيف الذي يرمي إلى إثارة المشاعر وإلهاب العواطف جارف كاسح، وموجات ما يكتب في تلك الوسائط متوالية ومتلاحقة، لا يمكن وقفها.

والأمثلة كثيرة على هذا التيار المجافي للحقيقة. ومن هذا ما وجه لانتقادات إلى فيسبوك بسبب نشر ”أخبار كاذبة“ خلال حملة الرئاسة الأمريكية أفضت – كما يقول المنتقدون – إلى فوز ترامب.

وأيضا ما نشر – ولا يزال ينشر – على وسائط التواصل من كذب بشأن ما قالته هيلاري كلينتون في مذكراتها خلال فترة توليها منصب وزيرة الخارجية الأمريكية عن الإخوان المسلمين. وأيضا ما ينشر في تلك الوسائط عن الحرب في سورية، وما يوضع من مقاطع فيديو أعيد إنتاجها، أو أنتجت بصفة خاصة لهدف معين. وما تروج له وسائل إعلام عربية وغربية – مستغلة تلك الوسائط – من أكاذيب للانتصار لاتجاه أو مذهب أو مسؤول، أو لانتقاد اتجاه أو مذهب أو مسؤول.

ويمر هذا السيل كله بلا رقيب وبلا مراجعة – إلا في حالات قليلة نادرة – تضيع وسط زحمة التغريدات والتعليقات والمنشورات.

لقد وفقت دار أكسفورد للمعاجم في اختيار تعبير (Post-Truth)

ليكون تعبير عام ٢٠١٦، وقد يكون في هذا الاختيار أيضا تنبيه لنا جميعا بأن ما يحدث على الساحة السياسية هنا وهناك خطير، بعدما انزوت الحقيقة، وإنذار بأن ما هو آت قد يكون أشد تدميرا وإيلاما.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.