اتجاهات المصريين نحو اللغة

اتجاهات المصريين نحو اللغة

دراسة في صحيفة الأهرام

(فيما بين عامي ٢٠٠٠ و ٢٠٠٢)

١- هذه الدراسة:

هذه الدراسة جزء من مشروع كبير عن اتجاهات العرب نحو اللغة آمل أن أنجزه قريبا إن شاء الله. ودرس اتجاهات الجماعة اللغوية نحو اللغة أو اللغات التي تستخدمها درس وثيق الصلة بالتخطيط اللغوي. إذ إن أي جماعة لغوية – خاصة تلك الجماعات التي يوجد لديها ازدواج لغوي كما هو الحال في الدول العربية جميعا – بحاجة إلى سياسة لغوية وتخطيط لغوي تلتزم به. ولن يتأتى لها هذا التخطيط اللغوي المنشود دون درس اتجاهات أفرادها أول الأمر نحو اللغة أو اللغات التي يستخدمونها لمعرفة رأي هؤلاء الأفراد في اللغة أو اللغات التي يتعاملون بها وكيف ينظرون إليها وكيف يقيّمونها وما هي العوامل التي تؤثر في نظرتهم إليها وتقييمهم لها. وبحثي هذا الذي أشرُف بعرضه عليكم اليوم خطوةٌ في هذه السبيل.

٢- مادة البحث:

تعتمد الدراسة على المقالات والتعليقات التي تعالج موضوع اللغة على اتساع مفهومه التي نشرتها صحيفة الأهرام المصرية خلال ثلاث سنوات فيما بين عام ٢٠٠٠ و٢٠٠٢. وهذه المقالات والتعليقات متاحة على موقع الجريدة على الإنترنت. وقياس اتجاهات أفراد جماعة لغوية ما إزاء اللغة يتم بعدة طرق من بينها اختبار عينة ممثلة للجماعة اللغوية من حيث المكان والسن والتعليم والجنس وذلك بطرح عدد من الأحكام اللغوية من قبيل: لا ينبغي فرض اللغة الفصحى في التعليم في المرحلة الابتدائية، ويتلو ذلك خيارات من قبيل: أوافق بشدة، أوافق، لا أوافق بشدة، لا أوافق، أو ليس لي رأي، وكل ذلك من خلال استبيانات معدة مسبقا.

ومن بين طرق قياس الاتجاهات أيضا تحليل الكتابات والوثائق، وهذه هي الطريقة التي تبنيتها في هذا البحث نظرا لعدم إقامتي في مصر، والمصريون الموجدون في الخارج لا يعدون جزءا من الجماعة اللغوية التي أقصد إلى معرفة اتجاهاتها لأسباب منها أنهم لا يعيشون الواقع المعاش هنا وربما تكون اهتماماتهم وقضاياهم قد أثرت على اتجاهاتهم وآرائهم نحو اللغة التي ابتعدوا عنها.

ولذلك استقر بي الرأي على تحليل الكتابات المتعلقة بموضوع الدراسة التي نشرتها صحيفة الأهرام خلال الفترة التي اخترتها. وكان دافعي وراء هذا اختيار هذه الفترة هو وفرة المادة المتعلقة باللغة وقضاياها، وألا تكون فترة الدراسة بعيدة عما يدور هذه الأيام من مناقشات في هذا المجال.

٣- ملاحظات عامة على مادة البحث:

الملاحظة الأولى: تضم المادة التي حللتها هذه الدراسة أكثر من مئة نص، ومعظم كتاب هذه النصوص من الصحفيين والإعلاميين ولا يمثل اللغويون من بينهم سوى نسبة ضئيلة تتراوح ما بين ١١% و ٢٠% فقط. وأنا أقصد باللغويين هنا الباحثين والدراسين الذين درسوا علم اللغة الحديث وتعرفوا على بعض من نظرياته. ولا شك أن ضآلة مشاركة هؤلاء اللغويين في المناقشات المتعلقة بقضايا اللغة قد أدى من وجهة نظرى إلى أمرين أساسيين:

أولهما: غيبة النظرة العلمية الموضوعية عن ساحة النقاش

وثانيهما: إفساح الميدان لغير المتخصصين للمشاركة مما قد يؤدي إلى شيوع كثير من المفاهيم والأفكار الواهمة الخاطئة التي يترتب عليها من بعد أحكام تجانب الصواب في كثير منها.

إن عزوف الأكاديميين من اللغويين عن المشاركة في القضايا التي تثيرها الصحف في أكثر الأحيان ووسائل الإعلام الأخرى في بعض الأحايين سمة لا تقتصر على الأكاديميين في مصر، بل تظهر في بلدان أخرى كالبلدان الغربية. وهذا بعينه ما شكا منه بيتر ترودجيل ولاوري باور في كتابهما “أساطير اللغة – Language Myths” الذي صدر في بريطانيا قبل ست سنوات قائلَيْنِ إن علماء اللغة من الأكاديميين مشغولون بمتابعة النظريات الجديدة، وهم عندما يكتبون فإنما يكتبون عن نتائج أبحاثهم مخاطبين بعضهم بعضا، ومن أجل هذا كتب هذان اللغويان هذا الكتاب حتى يتصديا للأوهام والأفكار الخاطئة التي أخذت تنتشر بين عامة القراء والمثقفين عن اللغة.

وأحسب أن هذه هي الحال في مصر أيضا، إذ ينشغل كثير من اللغويين الجامعيين بقضايا أكاديمية نظرية يدور معظمها على التراث اللغوي تاركين المجال لثلة من الكتاب المدفوعين بحماسة العاطفة مهما كان طابعها، يفتون ويصدرون الأحكام والناس لهم تابعون.

الملاحظة الثانية: غلبت على مادة الدراسة عدة قضايا ترددت فيها جميعا وإن كانت نسبة تردد كل منها تختلف من عام إلى آخر، وهذه القضايا هي:

أولا: وضع العربية هذه الأيام

ثانيا: مكانة العربية لدى الجماعة اللغوية

ثالثا: علاقة الفصحى والعامية

رابعا: علاقة العربية واللغات الأجنبية

خامسا: الأخطاء اللغوية

وسوف أعرض فيما بعد لاتجاهات المصريين في القضايا الثلاث الأولى فقط اختصارا للوقت.

٤- مفهوم “الاتجاه” وعناصره:

بيد أني أود قبل ذلك أن أشير إلى المقصود بمصطلح “الاتجاهات” الذي تكرر ذكره غير مرة. عندما نتحدث عن اتجاه أو اتجاهات شخص ما أو جماعة ما نحو شيء بعينه أو ظاهرة معينة فإننا نقصد المفهوم الافتراضي الذي يستخدم لتفسير مسار سلوك ذلك الشخص أو تلك الجماعة. ونحن عادة ما نفسر السلوك – كما يقول كولين بيكر في كتابه “الاتجاهات واللغة ” Attitudes and Language بالإشارة إلى المظاهر المستقرة والمستمرة لدى الأفراد. فمن يميل إلى قضاء الوقت مع نفسه وفي عزلة عن الآخرين قد ننعته بأنه شخص خجول، ومن يواظب على الصلوات ويعف لسانه عن بذيء الكلام قد نقول بأنه ميال إلى الدين. واتجاه الفرد ليس كطوله أو وزنه أو حتى كالذهاب إلى بيوت العبادة، فهذه أمور ملحوظة ويمكن قياسها بدقة. أما الاتجاه فلا يمكن ملاحظته بطريقة مباشرة، إذ إن تفكير الفرد ومشاعره ونظامه في تحليل الأمور كلها أمور خفية. ولذلك يستدل على الاتجاه بما يكشفه السلوك الخارجي الظاهر. والاتجاه هو الطريقة الميسورة التي تساعدنا على شرح أنماط السلوك المتكررة والمتسقة فيما بينها، وبدرس الاتجاهات نستطيع التنبؤ بسلوك الأفراد.

ويقول الباحثون إن للاتجاه عناصرَ ثلاثة مسايرين في ذلك أفلاطون هي: العنصر الإدراكي والعنصر العاطفي والعنصر النزوعي أو العملي. العنصر الإدراكي يختص بالأفكار والمعتقدات، والعنصر العاطفي يختص بالمشاعر. فإذا كان لدى الفرد اتجاه إيجابي إزاء اللغة الفصحى مثلا، فسوف يقتضي ذلك اعتقاده في أهميتها وضرورة الإبقاء عليها لغة للتعليم، وفي قيمتها في نقل الثقافة العربية. وهذا بدوره قد يثير لديه مشاعر حب اللغة الفصحي وما يتعلق بها من شعر مثلا، أو مشاعر الكراهية تجاه العامية وما يرتبط بها من زجل أو أغان. أما العنصر النزوعي فيختص باستعداد الفرد لسلوك مسلك معين أو الإقدام على عمل ما تطبيقا لاتجاهه الذي يتبناه. فمن يميل إلى اللغة العربية الفصحي قد يرسل أولاده مثلا إلى مدارس دينية يكون الاهتمام فيها بهذه اللغة أكثر من غيرها.

٥- دراسات سابقة:

لخص رالف فاسولد في كتابه “The Sociolinguistics of Society” الذي صدر عام ١٩٨٤ أهم الدراسات التي عرضت لاتجاهات الأفراد نحو اللغة عبر العالم مبينا كيف أن أفراد الجماعة اللغوية التي تستخدم فيها لغتان أو أكثر قد يرون في إحدى هذه اللغات وسيلة أكثر مناسبة في تناول موضوع معين دون غيرها، وقد يعتبرون لغة أكثر جمالا من اللغات الأخرى. ففي بريطانيا وعلى الرغم من استخدام أكثر من لغة في الحياة اليومية، فإن الإنجليزية هي اللغة الوحيدة التي تحظى بالاعتراف الرسمي. ويعتبر بعض الإنجليز التعدد اللغوي تهديدا لوحدتهم الوطنية. وفي مؤتمر لحزب المحافظين عام ١٩٩٧ بعد فترة حكم مارجريت ثاتشر دعا لورد تبيت وهو أحد المحافظين المعروفين بميولهم ضد الأجانب إلى الوحدة الوطنية قائلا ” إننا نريد قيما مشتركة وثقافة مشتركة ولغة واحدة”.

وأشار فاسولد إلى جانب من الدراسات التي تعرضت للهجات بعض اللغات. ووصف لنا كيف يُنظر إلى اللهجة الفرنسية كما تنطق في أوربا على أنها أفضل من الفرنسية على ألسنة المتكلمين في كندا الذين تعد الفرنسية لغتهم الأم. وفي بريطانيا يشكو بعض البريطانيين من اللهجة الأمريكية ويسخرون منها. وتحذر كتيبات الأساليب اللغوية التي توزعها الصحف البريطانية على محرريها من استخدام ما تسميه “Americanisms” أي الاستخدام الذي يشيع بين المتحدثين الأمريكيين.

وتشير ليندا توماس في الفصل الذي كتبته عن “الاتجاهات نحو اللغة” في كتاب “Language, Society and Power: an Introduction” الذي صدر عام ١٩٩٩ إلى أن الناس ينسبون صفات معينة إلى مستويات لغوية مختلفة، كأن يصفوا لهجة ما بأنها آنق من غيرها، وأخرى بأنها هابطة، وقد يصفون لغة ما بأنها موسيقية أو جمالية أو أكثر تأدبا من غيرها من اللغات. ويسبغ الناس الرفعة على بعض مستويات اللغة، بينما يسبغون أوصافا مزرية بمستويات أخرى. ويكاد علماء اللغة يتفقون هنا على أن هذه الأوصاف التي يضفيها الناس على مستويات اللغة سواء أكانت حميدة أم سيئة إنما هي مرتبطة في الأصل بالمتكلمين الذين يستخدمون هذا المستوى اللغوي أو ذاك، وأن تلك النعوت والصفات إنما ترجع إلى الوضع الاجتماعي لهؤلاء المتكلمين أو طبقاتهم الاجتماعية، أو مكانتهم في المجتمع. وهذه نقطة مهمة قد نعود إليها مرة أخرى.

٦- مكانة العربية:

وبعد هذا التطواف السريع مع الدراسات السابقة عن الاتجاهات نحو اللغة نبدأ في تناول أولى القضايا التي برزت خلال الكتابات التي اختارتها الدراسة مادة للمعالجة ، وهي مكانة العربية.

يقول كاتبو المقالات التي نشرتها الأهرام خلال الفترة المختارة واصفين مكانة العربية: “لغة ديننا وأجدادنا”، “أقدس لغات الأرض”، “لغة شرفها الله فأنزل القرآن بها”، “هذه اللغة خلقت لتبقى، إن الله تكفل بحفظها حين تكفل بحفظ كتابه العزيز”، “اللغة العربية أفضل وأعظم لغات العالم، إنها لغة القرآن الكريم، إن فيها من الألفاظ والتراكيب والمعاني والمترادفات ما يعادل ملايين المرات أي لغة أجنبية، بل هناك من الكلمات التي يعجز أي مترجم عن ترجمتها، بل يقف عاجزا أمامها”، “، “هي اللغة التي كرمها الله فاختارها لسانا لوحيه .. ومن ثم فهي لغة جميع المسلمين بحكم مكانتها المقدسة”، “إن هذه اللغة باقية ما بقي القرآن الكريم … العربية بهذا هي اللغة الخالدة”، ” إن لها موسيقى محبوبة لدى الجميع”، ” لماذا لا تكون اللغة العربية هي لغة العالم؟”، “لغة البيان والحضارة والعبادة لحوالي خمس هذه المعمورة”، “هي العنصر الأساسي الذي يجمع العرب في شتى أنحاء الأرض”، “غالية السطور قد تفوق الجواهر، حين تصاغ منها الكتب المنزلة والوصايا المرسلة”، “ستظل اللغة العربية لها رنين خاص ووجدان شديد الخصوصية”، “هي اللغة الجزلة ذات الجرس والتنوع”، “هي أم اللغات وحاملة لواء الإسلام ولسان القرآن”، “اللغة الباسلة”، ” أغلى غوالينا، هي جزء من الدين”، “إن لغتنا العربية بتجلياتها الإبداعية والجمالية أكبر بكثير من عبث الصغار وتدني الهوام والمسوخ”، “هي صاحبة خاصية فريدة بجرسها الموسيقي الذي لا يتوافر في اللغات الأخرى”، “إنها أعظم وأغنى لغات العالم”

هذه المقتطفات السابقة تشير إلى إيمان كتاب المقالات المنشورة بأن اللغة العربية:

لغة مقدسة لأن الله شرفها بنزول القرآن بها

لغة خالدة باقية لأن الله – كما يعتقد هؤلاء الكتاب – حفظها بحفظه للقرآن الكريم حينما قال “إن نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”

لغة ذات خصائص صوتية وتركيبية ولفظية تفضل فيها غيرها من اللغات

ومن الجدير بالملاحظة هنا أن الكتاب – فيما يبدو – ترتبط العربية في أذهانهم بالقرآن الكريم وكأنهما كيان واحد، يقول أحدهم متحدثا عن جهود المستشرقين في خدمة اللغة العربية ولاحظوا معي استخدامه لمصطلح اللغة العربية:

أول من فكر في خدمة اللغة العربية هو المستشرق الألماني فلوجل بوضع معجم مفهرس لألفاظ القرآن الكريم أسماه نجوم الفرقان … والمعجم الثاني وضعه محمد فؤاد عبد الباقي وأسماه المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وهذا المعجم لا يستغني عنه باحث في اللغة العربية لغة القرآن”

وأحسب أن مفهوم اللغة – أي لغة كانت – باعتبارها ظاهرة اجتماعية منفصلة تماما عن كتاب المسلمين المقدس ويتداولها الأفراد ليديروا شؤون حياتهم فتتأثر بعلاقاتهم بعضهم ببعض وأوضاعهم الاجتماعية وثقافاتهم ونسبة تعليمهم وما بينهم مصالح فتتغير بالتغيرات التي تطرأ على كل ذلك، كل هذا – كما أظن – غير واضح في أذهان هؤلاء الكتاب. يقول أحدهم:

“لم تكن العربية يوما ما في حاجة إلى تطوير أو هجر لبعض مفرداتها”

ومن أجل هذا التوحد بين العربية والقرآن في أذهان الكتاب فهم يؤمنون بخلود اللغة وبقائها وبأن الله تعالى قد تكفل بحفظها. وهذا في زعمي يخالف ما يعرفه علماء اللغة عن اللغات جميعا التي يطرأ عليها التغير دوما في جميع جوانبها ولا تعرف الثبات لأنها تتبع التغيرات التي تعرض لأعضاء الجماعة اللغوية الذين يستخدمونها.

٧- وضع اللغة:

والحقيقة أن إيمان المصريين بقداسة العربية وخلودها وأفضليتها على غيرها ربما يتناقض ظاهريا مع اتجاههم نحو القضية الثانية وهي وضع العربية الحالي. وعناوين المقالات التي تعرضت لهذه القضية ذات دلالة قوية على اتجاه كاتبيها إزاءها. وهاكم نموذجا من هذه العناوين:

“إعدام لغة حية”، “لغتنا العربية من يحميها”، “الاعتداءات الصارخة على لغة الأمة”، “إنهم يغتالون اللغة العربية”، “رحم الله اللغة العربية”، “قضايا وأخطار حول اللغة العربية”، “لغة بلا أمة” ، “إن اللغة قد انهارت وانحطت على ألسنة الشباب”، “لغة الضاد تعاني من غربة وسط أهلها”، “اللغة العربية اليوم تحتضر على أيدي أبنائها”، “اللغة العربية وأزمة الهوية”، “لغتنا الجميلة تعاني من الذبول والتدهور”، “أصبحت العربية في مهب الريح وتناوشتها أنياب التراجع من كل ناحية واستشرت الرغبة المحمومة في كل قطر للتركيز على اللهجات الدارجة”، “اللغة العربية تعيش اليوم في غربة نفسية تلقى الزهد من القريب، والإعراض من الحبيب، والمنافسة من الغريب، والمضارة من الدخيل، والمحاربة من العدو”، “اللغة قد أهدرت واغتصبت على ألسنة حاكمين ومحكومين من الخفير إلى الوزير حتى مانيكانات النطق والأداء: المذيعيون والمذيعات”، “إن اللغة العربية تظاهرت عليها الخصومات والتقت في مواجهتها العداوات”، “اللغة المضطهدة والتي تلقى الهوان من الناطقين بها”

الصورة التي تصورها هذه المقتطفات لا تتفق – كما قلت سابقا – مع صورة اللغة المقدسة التي تكفل الله بحفظها وضُمن لها البقاء والخلود. بيد أن هذا التناقض الظاهري سينجلي إذا عرفنا الدافع وراء هذا التباكي والخوف والرهبة والقلق على العربية. إنه العاطفة الدينية والعاطفة القومية هي التي تدفع مثل هؤلاء الكتاب من المصريين إلى هذا القدر من القلق والخوف. وكل مقدس لابد من حمايته وصونه، ولذلك تكرر في مادة البحث لفظ الحماية بصيغ مختلفة تكرارا كبيرا. والملاحظة اللافتة للنظر هنا أن جمعية حماة العربية تعلن على لسان أحد أعضائها البارزين اهتمامها بتعاطف الناس العميق مع اللغة العربية وعدم اكتراثها بالأبحاث والثقافة اللغوية ولا ترى في الدراسات اللغوية حلا أمثل. وهكذا قد تدفع العاطفة إلى رفض العلم.

٨- علاقة الفصحى بالعامية:

والعزوف عن العلم وغيبة علماء اللغة عن الساحة هو ما حدا بالمصريين في كتاباتهم إلى تصورهم الخاص للعامية وعلاقتها بالفصحى.

فالعامية في نظر المصريين: “عربية محرّفة” و”لا قواعد لها ولا تشكيل” وهي “لا تستعمل قواعد النحو والصرف التي تحكم الفصحى بل إنها تلجأ إلى تسكين أواخر الكلمات، لأن العامة لا تعرف الرفع والنصب والجر”، وفي أسواق الكتب كتاب عن “تحريفات العامية للفصحى”

وهي ليست لغة فـ”هل نلملم الأخطاء ونطلق عليها لغة؟”، وهي ” عاجزة عن الوفاء باحتياجات الكتابة الفكرية والمستويات العليا من التنظير الثقافي والبحث العلمي”

ويقول بعضهم في عناد “إن الازدواج اللغوي الذي تعاني منه مجتمعات عربية قريبة منا لا نعرف له شبها عندنا”.

والعامية بهذا شر وأذى لابد من الخلاص منه “العامية تستشري وتتوغل وتحتل كل يوم أرضا جديدة في صحراء العقل العربي”.

وهذه الأحكام – في رأيي – ليست أحكاما لغوية، بل إنها أحكام اجتماعية تصف المتحدثين بالعامية. وتكشف هذه الأحكام عن نظرة يعزل فيها الكاتب – عند الحديث عن العامية – هذه اللغة عن المجتمع وكأنها توجد في فراغ. والحقيقة التي لا مهرب منها والتي يدركها كل من درس على اللغة أن في مصر ازدواجا لغويا كما هو الحال في الدول العربية كافة، وأن مجال الفصحى محدود، ولا يوجد شخص واحد في مصر – كما يقول الدكتور السعيد بدوي عن الفصحى – يعتقد أو يتصرف كما لو كان يعتقد أن بالإمكان أن تصبح لغة التخاطب بين الناس في أمور الحياة اليومية حتى بين المثقفين … فالفصحى بنوعيها أي فصحى التراث وفصحى العصر تبقى دائما لغة صناعية يعانيها صاحبها فكرا وتعبيرا”، و”الإصلاح كما يراه الدكتور بدوي لا يمكن أن يقوم على الأماني وحدها”

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.