لغة صقلية العربية

اللغة العربية في صقلية

اللغة العربية في صقلية

تأليف ديونيسيوس أديوس

يولي المستشرقون في أوربا اللهجات العربية اهتماما غير قليل في درسهم اللغوي. ولا يقتصر هذا الاهتمام على اللهجات العربية المعاصرة، بل يتعدى ذلك إلى درس اللهجات العربية القديمة في البلدان العربية، أو في المناطق التي استقر فيها العرب لحين من الزمن، كالأندلس ومالطا. والكتاب الذي نعرض له هنا يتناول بالدراسة لهجة صقلية فيما بين القرن التاسع الميلادي وحتي القرن الثالث عشر خلال فترة الحكم العربي وحتي استيلاء النورمانديين على الجزيرة. ويعالج الكتاب تطور هذه اللهجة والخصائص اللغوية التي تميزت بها. ويقيم المؤلف وصفه للهجة صقلية العربية على الوثائق القديمة وملاحظات لحن العامة التي اعتنى بتسجيلها في العهد النورماندي في صقلية اللغوي العربي ابن مكي الصقلي في كتابة تثقيف اللسان.

‏مؤلف الكتاب الذي نعرض له هنا – الدكتور ديونيسيوس أجيوس -محاضر في قسم الدراسات العربية في جامعة ليدز البريطانية. والكتاب من منشورات مؤسسة كيجان بول العالمية هذا العام ضمن سلسلة مكتبة اللسانيات العربية.

أرض الصقليين والاندماج اللغوي والثقافي

‏كانت صقلية محط أنظار القادة والملوك الذين كانوا يسعون إلى السيطرة على طرق التجارة عبر البحر الأبيض المتوسط. وقد شهدت الجزيرة ازدهارا وثراء كبيرين في العهدين الإسلامي والنورماندي. فقد اجتذبت المهاجرين من شمال إفريقيا والأندلس وإيطاليا. وسعى رجال القبائل العرب في العصر الفاطمي إلى صبغ الجزيرة بالطابع الإسلامي، كما أراد النورمانديون إعادتها للطابع المسيحي في فترة احتلالهم لها.

‏لقد شهدت صقلية حضارة عظيمة امتزجت فيها الأفكار اللاتينية والإغريقية والعربية بطريقة فريدة. وتأثر الصقليون بعادات الإسلام وتقاليده التي اصطبغت بالصبغة الصقلية، ‏كما أفادوا – من الناحية اللغوية – من المصطلحات العربية المشحونة بالدلالات الثقافية.

‏وتدل الوثائق التي اعتمد عليها مؤلف الكتاب على اعتناق عدد كبير من سكان صقلية للإسلام فأصبحوا بذلك من المستعربين لتبنيهم للغة العربية والعادات العربية. وكما عرف أهل الجزيرة تسامح الإسلام شهدوا أيضا تسامح النورمانديين على يد ملكهم روجر الأول مع الأغلبية المسلمة من السكان. وهكذا ظل المجتمع الصقلي يستوعب الخلفيات العرقية المتباينة للسكان بسبب التسامح الذي بدأه المسلمون واستمر في عهد النورمانديين

كانت جزيرة صقلية ملتقى للناس وأرضا للمعارك بين القوى المسيطرة على البحر الأبيض، يفد إليها كثير من الناس ويرحلون ويبقى منهم نفر يستقرون في الجزيرة فيساهمون بملامح لغاتهم في لغة التواصل فيها، ‏وقد جعل هذا معرفة اللغات التي كانت مستعملة في صقلية قبل الإسلام أمرا غير ميسور.

‏وكان من آثار التمازج الثقافي بين العناصر العربية وغير العربية بعد الفتح العربي ما يطلق عليه المؤلف عربية صقلية. والمؤلف يميز هنا بين الاندماج اللغوي الذي يستعمل له مصطلح ARABICIZATION والاندماج الثقافي العنصري الذي يطلق عليه مصطلح ARABIZATION ويرى المؤلف أنه من المحتمل أن كثيرا من السكان في صقلية تعلموا العربية لأنها لغة الطبقة الحاكمة، لكنهم مع ذلك ظلوا على دينهم المسيحي، وهكذا أصبحوا صقليين مستعربين.

الوضع اللغوي لصقلية المسلمة ولصقلية بعد الإسلام

ولكن كيف كان الوضع اللغوي في صقلية إبان العهدين الإسلامي والنورماندي اللذين يركز مؤلف الكتاب دراسته عليهما؟

‏تميز الوضع اللغوي في هذه ‏الفترة بوجود ثلاثة مجتمعات لغوية:

‏- مجتمع منفرد اللغة يتحدث أفراده اليونانية، أو بلهجة إيطالية، ويسكنون بقعا منتشرة على الساحل الغربي من الجزيرة.

‏- ومجتمع مزدوج اللغة منهم عرب وبرابرة وصقليون مستعربون يتكلمون العربية الفصحى ويتكلمون كذلك بلهجة عربية.

‏- ثم مجتمع من النصارى الصقليين تأقلموا مع الحياة الإسلامية لكنهم ظلوا على دينهم يتكلمون لغتهم الأصلية إلى جانب لغة ثانية بسيطة تتكون من عناصر عربية وعناصر غير عربية وتستعمل في ظروف محددة، ثم تطورت هذه اللغة البسيطة إلى لغة كاملة الأوصاف فيما بعد.

‏كانت العامية اللاتينية مستخدمة في صقلية جنبا إلى جنب مع اليونانية، ‏ثم جلب صفوة العسكريين لصقلية اللغة العربية التي انبثقت عنها مجموعة من اللهجات ترجع بجذورها إلى قبائل عربية مختلفة، وكان بعض العسكريين يتحدث البربرية، واختلط هؤلاء بالصقليين الذين كانوا يتكلمون بلهجات رومانية مختلفة.

دور ابن مكي في عربية صقلية

‏أدى اختلاط هذه العناصر اللغوية – مع مرور الزمن – إلى انتشار ظاهرة اللحن في صقلية. وهي الظاهرة التي رصدها ابن مكي الصقلي في كتابة تثقيف اللسان. ‏والحفاظ على نقاء اللغة العربية ذو أهمية بالغة للغويين، ‏وقد صنف هؤلاء اللغويون الكتب لإرشاد الناس إلى قواعد اللغة وصحة ألفاظها. من بين هذه الكتب التي عرفت بكتب اللحن كتاب تثقيف اللسان الذي أشرنا إليه.

‏حرص ابن مكي، كغيره من المؤلفين في لحن العامة، على تتبع اللغة العربية المستعملة في أوساط العرب وغير العرب الذين تأثرت لغتهم باللهجة الدارجة في الحياة اليومية، وما فيها من أخطاء أو خلط بين المستويات المختلفة للغة. وكان ابن مكي يخشى من توهم العوام – مع مرور الزمن – أن لغتهم صحيحة. و‏كان ابن مكي أمينا في وصفه الواضح للمستويات اللغوية التي كانت تستخدم في عصره. ولكنا لا نعرف – كما يقول المؤلف – لمن وجه كتابه، ‏خاصة أن الموقف اللغوي في صقلية كان معقدا، ‏إذ كان هناك تداخل بين العربية التي يشارك فيها العرب والبربر من ناحية، ‏وعربية صقلية التي يتكلمها المسلمون الصقليون، ‏والمسيحيون – على وجه الاحتمال – من ناحية أخرى؟ لم يوضح ابن مكي إن كان يستهدف بكتابه: الصقليين المسلمين من الجيل الثاني أو الثالث أو حتى الرابع، ممن كانوا يتحدثون العربية وانخرطوا في الإسلام وأصبحوا مستعربين تماما؟

‏ومهما يكن من أمر فإن الملاحظ أن ابن مكي يركز على الأخطاء الشائعة في الكلام، وليس في لغة الكتابة، ‏ويستدل مؤلف الكتاب الذي نعرض له هنا على ذلك ببدء ابن مكي لمعظم تعليقاته بتعبير “يقولون”. وكان دور ابن مكي بعامة هو فرض الصيغ الصحيحة للأخطاء، ‏وهذه الأخطاء هي التي ركز عليها ديونيسيوس أجيوس في كتابة هذا.

‏ولعل الفائدة التي يرجوها الباحث اللغوي مثل ديونيسيوس أجيوس – من كتب اللحن هي الاستعانة بتحليل الأخطاء على المستويين الصوتي والصرفي في رسم تصور لبعض الملامح الخاصة ببعض اللهجات التي كانت معروفة في الماضي، غير أن هذه مهمة صعبة لخلوّ كتب اللحن من المعلومات الخاصة – على سبيل المثال – بالتشكيل أوالإمالة أو التفخيم. كما أنها تفتقر- في معظمها – إلى بيان الكلمات المستعارة من اللغات الأخرى.

النظام الصوتي لعربية صقلية من خلال تثقيف اللسان

‏ومع ذلك استطاع المؤلف أن يرسم صورة للنظام الصوتي لعربية صقلية كما استقاها من كتاب تثقيف اللسان لابن مكي الصقلي. ويحدد المؤلف في هذا الصدد بعض سمات عربية صقلية من حيث الأصوات الصامتة السواكن Consonants، والأصوات الصائتة أو الحركات Vowels.

‏من أهم خصائص اللهجة الصقلية في عصر ابن مكي من حيث الأصوات الصامتة اختفاء الهمزة، فالصقليون كانوا يستبدلون بالهمزة حركة فيقولون في (أخطأت – أخطيت)، وهم كذلك يستبدلون بالدال الذال فيقولون في (بليد – بليذ، وفي دميم – ذميم) متأثيرين بالبربرية على ما يحتمل. ثم يفعلون عكس ذلك حينما يستبدلون بالذال الدال فيقولون في (غذاء – غداء، وفي جرذان – جردان، وفي ذخر – دخر)

‏ولم يكن صوت الحا، أو الخاء مستقرين تماما في عربية صقلية ربما بتأثير اللاتينية، إذ كان الصقليون يقولون في (حانوت – خانوت، وفي حصيرة – خصيريا XHASERIA). كما كانوا يضفون صفة الجهر على صوت السين فينطقونه زايا فيقولون في (سكة – زكة)، ويستبدلون بالتفخيم الترقيق وبالترقيق التفخيم فيقولون في (فرصة – فرسة، وفي نقرس – نقرص).

‏أما الأصوات الصائتة أو الحركات فيلاحظ مؤلف الكتاب تبادلها للمواقع في الكلمات كما هو الحال في بعض اللهجات العربية المعاصرة. ففي قالَب يقولون قالِب وفي رَصاص رُصاص. ويخلص المؤلف إلى أن هناك قواعد متشابهة بين عربية صقلية ولهجتي مالطا والأندلس العربيتين.

أثر اللهجة اللاتينية في عربية صقلية

‏تماثل التغييرات التي حدثت في العربية الصقلية نتيجة الأثر الذي تركته اللهجة اللاتينية فيها ما تعرضت له لهجتا الأندلس ومالطا. فمن حيث الأصوات الساكنة تحول صوت الباء في الفصحى إما إلى ڤ، وإما إلى پ، ففي بطانة يقولون: VUTANA ويقولون في جبة CHOPPA وتحول صوت الجيم إلى ي، فيقولون في جرة يرة JARRA. ويرجع فقدان الهمزة والعين إلى التأثير اللاتيني كذلك فيقولون في أزرق ZARCU وفي عصفور USFARU.

‏وعلى المستوى الصرفي أو بنية الكلمة يتضح أثر اللاتينية واليونانية في عربية صقلية في المصطلحات الخاصة بالثقافة، وهي في معظمها ألفاظ عربية لكنها لحقتها لواحق صقلية مثل أري وإياري، فيقولون مثلا في بلاطة (أبَّالاتاري).

‏لقد بذل ديونيسيوس أجيوس مؤلف (اللغة العربية في صقلية) جهدا كبيرا في قراءة كثير من الوثائق وفي التتبع الدقيق لما تتضمنه كتاب ابن مكي عن اللحن في عربية صقلية. ومما يحمد للمؤلف ربطه في الدراسة بين اللغة وجوانب الثقافة الأخرى في جزيرة صقلية، مثل زخرفة البيوت من الداخل – خاصة الأسقف المرسومة – التي تجمع بين السمات البيزنطية الهندسية والنقش العربي المقوس الخطوط ذي الأشكال المتداخلة المتعددة الجوانب.

‏ويخلص المؤلف من كتابة إلى نتيجة قد يخالفه فيها بعض المستشرقين وهي أن اللهجة العربية الصقلية هي أساس اللغة المالطية المعاصرة، وأن بعض المسيحيين الصقليين انتقلوا إلى مالطة في القرن الثاني عشر الميلادي واستوطنوا مالطا طبقا لسياسة النورمانديين الرامية إلى التوسع، وكانوا عندئذ يتكلمون لغة تتكون من أصول عربية استوعبت عناصر إيطالية بدرجة ملحوظة.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.