الزائر

الزائر: قصة قصيرة

نهض آدم من سريره واقفا وتنقل في بطء إلى خزانة ملابسه. فتحها وحدق في الملابس المتراصة بنظرات زائغة لمدة دقيقة. وهمس في نفسه:

– “ماذا أرتدي؟”

وأعاد السؤال مرارا وتكرارا، وكأنه يخاطب شخصا آخر، ثم أضاف:

– “هذه ليست زيارة مثل أي زيارة أخرى؟ كان أمس عيد ميلادي الستين وارتديت حلة رمادية. ستون عاما مرت محملة بأحداث بائسة كثيرة. لكن اليوم مختلف، نعم مختلف جدا، إنها زيارة مهمة جدا. الضيف هو أهم ضيف بالنسبة لي. إذ ستنتهي بإشارة من يده مآس كثيرة”.

وأمسك بيد مرتعشة بذلته السوداء.

– “هذه بذلة جديدة تقريبا. ارتديتها مرة واحدة … قبل بضعة أشهر أو … ربما أكثر … لا أتذكر .. ولكن ماذا كانت المناسبة؟ … عندما؟ يا الله! لا أستطيع أن أتذكر. إنه لأمر مزعج فعلا ألا أكون قادرا على تذكر .. أشياء كثيرة .. أحيانا أسماء أولادك، ناهيك عن المناسبات أو الأشخاص الآخرين”.

وضع البذلة على السرير، واختار قميصه الأبيض الساتان، وربطة عنق من الحرير الطبيعي اشتراها الأسبوع الماضي. جذبه لونها السماوي الغامق البراق، ودفع فيها 75 جنيها، من أول معاش يقبضه في يده، لأنها لم تكن معروضة بين أربطة العنق المخفضة. كان راضيا عما اختار أن يرتديه.

ترك غرفة النوم والملابس لما تزل على السرير. سمع صوت زوجته يتهادى إلى أذنه:

– “آدم! لماذا تترك ملابسك هكذا؟ أعدها إلى الخزانة”.

استدار يمينا والتفت يسارا وأجاب دون وعي:

– “حبيبتي … أنا …”

وكان على وشك أن يشرح لها، لكنه توقف برهة، وزاغ بصره وأخذ يتلفت في أرجاء الشقة .. ترك الغرفة، وفتح باب غرفة النوم الأخرى في لهفة، ثم عاد بسرعة ووقف عند السرير في يأس. ثم قال لنفسه وفي حلقه غصة:

– “لماذا تركتني يا حبيبتي وحدي في هذا المكان المهجور؟ ما أقسى أن أعارك الحياة وحدي! .. خاصة بعد هجرة أمل، ابننا، إلى أستراليا”.

ترك غرفة النوم وقد ألمت به حالة ضيق التنفس التي تلازمه منذ أيام. كانت الشقة بأكملها مظلمة، وستائر النافذة الصغيرة في غرفة النوم لا تزال مطبقة، وكذلك الستائر الكبيرة في الصالة المستديرة. باب الشقة يسد بطوله الفارع جانبا من الصالة وعلى الجانب الآخر تواجهه نافذة كبيرة مغلقة. وفي الصالة كرسيان فارغان يقابل أحدهما الآخر وتسري من ثنايا القماش الباهت برودة تشيع في المكان. الصالة هي مكانه المفضل لأنه بذل جهدا في تصميمها بنفسه قبل التقاعد.

توجه إلى الحمام، وتمتم:

– “الآن سأحلق ذقني وأستحم وأستعد”.

لبس بذلته، ثم تذكر العطر.

– “هل أتعطر بهذا؟ إنه نفس العطر الذي تعطرت به عندما فاجأنا هذا الزائر بزيارته أول مرة في هذه الشقة، وتسللت أنا في غفلة منه وتعطرت. كانت زيارة قصيرة للغاية. كانت مثل طيف حل وانسل. جاء بشكل غير متوقع وترك دون أن يستأذن”.

وقف أمام المرآة في الصالة لضبط ربطة عنقه ورفع رأسه وألقى نظرة حانية على صورة زوجته فوق المرآة. مازال الشريط الأسود يزين زاوية إطارها العليا. وهمس:

– “أتمنى لو كنت معي … يا حبيبتي. لكن لا تقلقي، سنلتقي بالتأكيد مرة أخرى، حيث لا يوجد ألم، ولا شر، ولا أدوية، ولا خرف، ولا نسيان، ولا شعور بالوحدة. أحس بذلك من صميم قلبي حبيبتي”.

جلس على كرسيه فأحس بارتخاء أطرافه. أمامه، كان الكرسي الآخر لما يزل فارغا. وتمتم في نفسه:

– “هذا للزائر. فهو يناسبه أكثر، بقماشه المخملي الغامق وظهره العالي، وعنقه الطويل المزين بثلاثة ملائكة في ثياب من الذهب المطلي”.

الساعة الكبيرة على الحائط بجانب الكرسي الآخر تدق. رن الهاتف فوقف بسرعة وأجاب:

– “نعم … أخشى أنني لا أستطيع. أنا في انتظار زائر، ضيف مهم. اعتقدت أنه هو عندما اتصلت أنت. لا بد لي من الانتظار. عذرا”.

الساعة تدق، واحدة، اثنتين، ثلاثة، … عشرة … إحدى عشرة … اثنتي عشرة. أصاب عينيه النعاس، وظل رأسه يقاوم السقوط كل دقيقتين أو ثلاث دقائق من كتفه، وفي كل مرة تيقظه فيها طأطأة رأسه كان يحدق في الساعة وينظر بقلق إلى الهاتف، ويرمق باب الشقة والأمل يسبق نظراته.

ورن جرس الباب فسمع صدى رنين الجرس يدق عظامه. قفز من كرسيه ليفتح الباب. ووجد أمامه جاره، الذي قال:

– “صباح الخير … لم أرك منذ زمن طويل … هل لديك وقت لنتناول كوبا من الشاي معا؟”

أجاب بغضب ولكن بنبرة مهذبة:

– “أنا آسف للغاية. أنا .. أنا في انتظار زائر، زائر مهم للغاية. آسف جدا”

وظلت الساعة تدق، وظل الهاتف يرن من وقت لآخر، وظل جرس الباب يشق هدوء الصمت المخيم على أرجاء المكان يوما بعد يوم.

وأحس بما يدفعه إلى قطع هذا الصمت المطبق ثم نهض ووقف فجأة. وظل يمشي جيئة وذهابا مطمئنا نفسه:

– “إنه قادم بالتأكيد. ليس هناك شك. لقد حان الوقت. ومن باب الاحترام، يجب أن أواصل الانتظار. لست مضطرا للانخراط في أي روتين يومي تافه معتاد، لأنه قد يدق الباب فجأة، كالعادة. يجب أن تتوقف الحياة المعتادة. يجب أن تتوقف إجراءاتها المملّة، احتراما. ولا بد لي من التحلي بالصبر … الصبر الآن هو شعار هذه المرحلة من حياتي. الصبر .. والانتظار. من المفيد أن تنتظر شيئا ما أو شخصا ما. فهذا يجعل مشاعرك كلها في حالة تأهب ويقظة، وتشعر أن هناك هدفا لكل دقيقة في حياتك. وتشعر أنك تعيش لغرض ما، في انتظار .. حتى المجهول الذي أصبح مألوفا بشكل واضح من طول الانتظار”.

ظلت الساعة تدق وتدق وتدق  …

وأخذ الشحوب يلوح على قسمات وجه آدم. وأخذت شعيرات لحيته تغطي معظم مناطق وجهه بالتنسيق مع ما تبقى من شعر رأسه على جانبي وجهه المستطيل. فقدت بذلته وقميصه وربطة عنقه لمعانها وانطفأت ألوانها، وبدت ملامح الكرمشة عليها. لكنه ظل ينتظر بلا يأس.

وعند الفجر، ذهب بخطوات ثابتة إلى النافذة الكبيرة التي تواجه باب الشقة، وفتحها على مصراعيها. اندفعت موجات الهواء داخل الشقة وكأنها تركض إذ لم يكن يسمح لها بالدخول من قبل.

وقف آدم أمام المرآة وحدق في صورته المنعكسة ووجه الطويل المتجمد. ورفع رأسه وقال لزوجته بنبرة نادم متأسفا:

– “كم كنت ساذجا. ظللت أنتظر وأنتظر هنا داخل الشقة. ثم أدركت .. كم كنت ساذجا”.

واستدار وواجه النافذة … أخذ نفسا طويلا وقفز.

سمعه بعض من التفوا حوله بعد سقوطه يتمتم وهو ملقى على الأرض في صوت خافت: “كنت ساذجا .. لقد جاء الزائر .. لكنه لم يطرق الباب، وانتظر في الخارج”.

للمشاركة على :

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.