الكرسي

الكرسي: قصة قصيرة

١

لم أبلغ هذا المكان اليوم بسهولة. جئت في صحبة آخرين، بيد أني عوملت بطريقة خاصة، فيها قسط كبير من الرفق. أتراهم يعرفون عدد السنين التي تركت آثارها على ظهري؟ أم أن ملامحي، وقسماتي، وتلك البقع الصغيرة التي ترقط جلدي تفضح سري وتبوح بعمري؟ مهما يكن انطباع الآخرين عني، فإنني أشعر اليوم بوهن. وأخشى ألا أستطيع بعد ذلك المشاركة في مثل تلك الأمسيات. هل أصابني الكبر؟ أو أني لم أعد أطيق ما كنت أتحمله في سني حياتي الماضية من سخافات البشر، ونفاقهم، وكبريائهم الفارغة، وثرثراتهم التي تصيبني بالغثيان، خاصة في مثل تلك السهرات؟ علي أن أعترف أني لم أعد كما كنت أيام زمان، مثل الجمل صبرا، وكالحمار تحملا. وللزمن حكمه على الجميع، حتى أنا. وأنا لست شابا، فقد كدت أن أدخل في عامي الأخير من عقدي الثالث في هذه الشركة. كم مضت الأيام سراعا! بل كم كانت الساعات طوالا وقاسية أحايين كثيرة، فأنا لا أحسب عمري بالأيام، بل بالساعات، وأحيانا يبلغ بي الضجر فأحسبه بالدقائق، خاصة إذا كتب عليّ الوجود في اجتماع، أو ندوة، أو حفلة، اضطر إليها اضطرارا. وكم كتب علي التعرف عن قرب بأناس وأناس، ومررت بلحظات ألم وأنين، وثواني راحة وانسجام. وأنا لا أبالغ حينما أقول إني عرفت من صنوف الناس ألوانا وألوانا.

٢

بدأت حياتي في هذه الشركة بداية كانت غير معتادة، كنت في أول حياتي العملية، وكنت فتيا، براقا، ولدي مؤهلات أخرى كثيرة، قدرتها الشركة فدفعت نظيرها مبلغا لم يتخيله أحد من أترابي، أو أبناء جلدتي. وشاركت – بالرغم من حداثة عهدي – مدير القسم في غرفة واحدة، وأشعرتني معاملته لي بأنني مميز، إذ خصص لي مكتبا قبالة مكتبه. وظللت في هذا المكتب نحو عشرين عاما، فقد استطعت بما لدي أولا من بهاء وأناقة، وما اكتسبته ثانيا من مهارات وحسن مسلك خلال العمل أن أدير رأس مدير القسم فلا يلتفت إلا إلي، ولا يقصد سواي، حتى صرت أثيرا لديه. واعتبرت نفسي محظوظا جدا، فلم أر أو أسمع بأحد من أقاربي، أو أقراني، أو زملائي نال من الحظوة في العمل ما تحقق لي. أما عائلتي فهي غير موسرة، لكنها مع ذلك الحال تنتمي إلى الطبقة الوسطى. والحمد للخالق على ما قسم، فكم من أقاربنا من لم يعلُ كعبه في درجات العمل عن الحمامات يقضي فيها ساعات الشغل. لكن هناك من رزقه الله تعالى نعمة العمل في كنف قصور الرئاسة، فنال الرزق ونعم بالراحة، كما يحكون.

٣

بيد أن دوام الحال فعلا من المحال، فلم يدم الحظ مادا يديه، بل عاكسني، وشاكسني وما أقسى ألاعيبه. ففي يوم من الأيام النحسة، كنت أشعر بتعب من كثرة الجهد وزيادة الكبت الذي سببه تحملي لأسابيع لما فوق طاقتي، وكان مدير القسم يجتمع مع بعض مديري الأقسام الأخرى، وكم أحسست وقتها بثقل الثواني، وحِمل اللحظات، قبل الدقائق والساعات التي استغرقها ذلك الاجتماع المشؤوم، وكم تمنيت لو يحدث الخالق أمرا فينفض الاجتماع فيريح ونستريح. ويبدو أني جلبت لنفسي ما حدث. فقد تعثرت قدم أحد الموظفين حتى كاد يتهاوى، فارتطم بي فجاءة فألتوت ساقي، بعد لسعة ألم لم تدم لحيظات، ولم أتمالك نفسي فانهرت قعيد الأرض، وأطحت في طريقي بصينية قهوة المدير فانسكبت على ملابسه التي كان مزهوا بها ذلك اليوم أمام نظرائه، وانتشرت بقع القهوة على كرشه الذي بدأ ينتفخ أكثر فأكثر خلال السنوات العشر الأخيرة. فانتفض، وارتعد، وصرخ، وزعق، دون أن يلتفت إلي وأنا طريح الأرض. ولا أدري كيف مرت الليلة التي لم أر بعدها المكتب ومن فيه، وما فيه. وأصدر ذلك المدير البغيض قرارا بإحالتي إلى المخازن، بعد عودتي من العلاج الذي لم يستطع حرماني منه، بسبب قوة نقابتنا، وحتى أظل مستخدَما له ينتفع بما ما زلت أتمتع به من قدرات. وعدت إلى العمل، ليس كما كنت في سنوات الشباب البهي، إذ لا تزال آثار كسر ساقي تهددني أحيانا فلا أمتلك معها السيطرة على حركتي، لكنني كنت أتظاهر بالتعافي حتى أظل في الخدمة، وليشفع لي حسن مظهري فينتدبني المديرون في مهام لا أرجو منها والله سوى التنعم براحة أفتقدها في المخازن.

٤

وأفلحت خطتي، فبقيت في الخدمة، وظل الحظ يداعبني من بعيد أحيانا فأنتدب إلى حفل أو ندوة للشركة، لأكون عونا للمديرين وكبار الموظفين. وهذا هو الذي جاء بي الليلة إلى هنا. ونظرا لقدم عهدي في الشركة، ولارتباطي في الماضي – وأحيانا في الحاضر – بكبار رجال وسيدات الشركة، اعتاد العمال على معاملتي باحترام، وأحيانا برفق، قد يكون الدافع إليه خبرة السنين، كما أسميها، أو الهرم الذي بدأ يدب في أوصالي، كما هو الواقع. كنت في الصف الأول وعلى جانبيّ جمع من كبار الحضور. ولا أدري لماذا يكون الكبار في شركتنا كبارا في كل شيء: سنا، ووزنا وحِملا، وانتفاخا. وأخذ المدعوون يفدون إلى القاعة التي تتسع لنحو مئتي شخص. خصصت الصفوف الخمسة الأولى منها لرجالات الشركة وسيداتها ذوات الشأن. مشاهدة القادمين متعة يالها من متعة. هذا رجل قضى الزمن عليه نحبه، فسار متهالكا، يعرج يمنة، ليعرج يسرة، ولا يمتد بصره إلا إلى موطئ قدمه. لكنه يسير محوطا بثلة عن يمينه وثلة عن يساره من كبار الموظفين. أتراه رئيس مجلس الإدارة؟ ودخلت بعده بدقائق سيدة في أواخر الثلاثينيات، عجبت لمرآها، وتلفتّ أنا عن يميني وعن شمالي إذ إني لم أصدق ما كانت تلبس، وظننت أنها أخطأت في القاعة. كانت تلف جسدها في ثوب سهرة طويل، له ذيل يعادل طولها ضعفين أو ثلاثة، لونه أزرق فاقع، خبا خجلا من صفرة قبعتها الأفقع. وكانت تمشي الهويني وكأنها تسير في عرض أزياء هي نجمته. ما الذي جرى يا ناس؟ هل نحن في عرس؟ ما أعرفه أنا الاجتماع رسمي يحضره رئيس مجلس الإدارة، وأعضاء المجلس، وكبار المديرين. والتوت الأعناق متابعة لها خطوة بخطوة. ثم هل شباب هالني منظر ملبسهم، وأنا فيما يبدو، من جيل قديم لا يعجبه العجب، بناطليهم تكاد تكون جزءا من أجسادهم، رُسمت عليها رسما، وتدلى خصرها تدليا مزريا. أستغفرك ربي وأتوب إليك.

٥

وبدأ كل وافد يتجه إلى مكانه حتى امتلأت القاعة. ولم يبق على بدء الاجتماع سوى دقيقتين. وتسارعت الخطى بين القادمين، فصاروا يهرولون، يسعى كل منهم إلى اللحاق بمكانه. وفي الدقيقة الأخيرة دخل شاب في أوائل العشرينيات، بدا عليه الارتباك، ودار بنظره هنا وهناك ثم اتخذ قرارا متسرعا، فيما أظن، فجلس حيث كنت. علا وجهه حمرة للحظات، وظل الارتباك يسري في أوصاله، وبلع ريقه وكأنه أحس أن وضعه استقر في جلسته، ولن يتيح الوقت فرصة لأحد ليقيمه من هذا المكان. لكن حظه، وحظي أنا أيضا، كان عاثرا. ففي آخر لحظة قدمت مجموعة من كبار المديرين، من بينهم مدير قسمي البغيض، الذي ازداد انتفاخا وتكرشا، وسارع أحد مصاحبيه إلى الهرولة نحوي مشيرا إليه: – تفضل، تفضل هنا. ثم رمق الشاب المسكين باحتقار، وهمس في أذنه بصوت خشن خفيض: – هذا الكرسي للمدير يا ولد؟ ألا تعرف ذلك؟ قم! وازداد ارتباك الشاب، الذي ألجم الموقف لسانه، فلم ينطق، ولم يتح له المساعد الفرصة ليقوم من جلسته، فقد شده من ذراعه فخلعه بعيدا عني. وكرر المساعد دعوته للمدير: – تفضل، حضرتك، هذا مكان سيادتكم. وشكوت متمتما في نفسي حظي العاثر، قبل أن يبلغ المدير مكاني ليجلس. لقد بدا الغضب على وجهه، عندما رأي الشاب المسكين وقد تجرأ، وبلغت وقاحته – من وجهة نظره هو طبعا – مبلغا احتل معه كرسيه هو. ومال مساعده في انحناء متملق مشيرا إلىّ، وهو يقول: – تفضل، أهلا وسهلا بحضرتك. ولم يرق المدير الغاضب هذا التملق الزائد من مساعده، فأشار إليه بيده ليزيحه عن طريقه. وارتمى بجسده كله الذي بدا وكأنه جسد فيل، علىّ، دون رحمة، وبلا رفق، وبلا هوادة، ودون أدنى شعور يمت إلى الإنسانية بصلة. أحسست أن المكان أظلم، لم أعد أبصر من القاعة شيئا، وفجأة كُتمت أنفاسي، وشعرت بارتطام كتلة جسده كله، لحما ودهونا وعظاما، وكرها، وبغضا، وحقدا. ولم أحسّ بشيء، لكن تبادر إلى سمعي صوت واهن صادر عني يتأوه ”آي“. ثم خرق أذني صوت عال اختلطت فيه قرقعة بخرخشة، وكأن عظامي قد هشمتها مطرقة حديدية ضخمة، وغبت عن الوعي لحظات. وعلت في أرجاء القاعة صرخة مفاجئة، تهادت إلى سمعي من بعيد، بعيد، تبعها هرج شديد. وعلا صوت أظن أنه كان يذكر اسمي: – الكـ … رسي …، انــ … كــ … سر …، الــ … مـ … دير …، و.. قع …، و… قع. لندن في ٢٢ يونيه ٢٠١٤

(١)  نشرت هذه القصة في مجلة ”العربي“ الكويتية في عدد مايو ٢٠١٥

للمشاركة على :

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.