لحظة الكشف

على أن انتصر على هذا الشعور الذي أخذ يدب في أوصالي. لماذا أحس بالخوف وكأن كل عيون الركاب على رصيف محطة القطار تراقبني، أصبحت أحس ببرودة المكان وكأني عريان يحملق في الجميع ويكادون يصرخون هذا هو الـ…

الجميع ؟ من الجميع ؟ ليس على الرصيف سوى شابين يقفان هناك على الطرف الآخر منه، وهناك امرأة عجوز وفي صحبتها طفلة رقيقة تلهو بدميتها التي تحتضنها.

ما الداعي للخوف إذن وليس على الرصيف إلا أربعة أشخاص وأنا..

وأنا لم أرتكب جرما .. كلا والله، وليس هذا فخاً أو كمينا لإيقاعي..

فخ أو كمين!! ومن أنا؟! وماذا فعلت؟

وأخذت يده تشدد من قبضتها على حقيبته السوداء دون وعي. الحقيبة لم تفارقه منذ أول يوم في وظيفته هناك.. في مصر على بعد أكثر من أربعة آلاف ميل من هذا الرصيف في هذه المحطة: محطة رسل سكوير Russell Square في غرب لندن. وقد ترك الزمن بوضوح تجاعيده على جلد الحقيبة.

أحست يده بانتفاخ الحقيبة عند وسطها، نفس النقطة التي يحرص على إحكام قبضته عليها. وتظاهر بالنظر والتمعن في إحدى الإعلانات الكبيرة التي تكسو جدران الرصيف. وحاول إخفاء الرعدة التي كادت تهز الحقيبة في يده، فرسم ابتسامة على وجهه عندما قرأ الإعلان:

” لماذا لا يستطيع الإنسان العطس وهو مفتح العينين؟”

الإعلان لم يجب عن السؤال، ولكنه طرحه فقط..

” لو حظيت بالأمن في جميع النواحي ” هكذا يقول إعلان إحدى شركات التأمين..

” لخطرت على بالك أسئلة غريبة كهذا السؤال “.

هذا ما أحس أنني أفتقده: الأمن .. الآن في هذه اللحظة ..

وليس لي جريرة سوى ..

والتفت يمنة ويسرة ليتأكد ان كان يراقبه أحد .. الشابان على الطرف الآخر منهمكان في حديث لا يبدو أنه ودي .. أتراهما يخططان لخطف الحقيبة من يده؟ لا .. لا .. إن شكلهما، وسحنة الحقيبة المتجعدة سيدفن هذه الفكرة حال مولدها. أما العجوز فقد بدا عليها التعب انتظارا للقطار فأخذت عيناها تغفوان حينا وتفتحان حينا، والطفلة بجانبها تحادث دميتها وكأنها أم تلاطف وليدها.

الأمن ! وكيف أحس به وأنا كل خلجة فيّ تكاد تقول إنني ..

لا .. لا .. لن أتفوه بها فوالله لم أ.. س .. ر .. ق.

نقل الحقيبة من يده اليمنى إلى يده اليسرى بحيث أصبحت بعيدة عن بصر الشابين اللذين يقفان هناك بعيدا عند الطرف الآخر من الرصيف .. ومشى خطوات ورأى أن من الحكمة أن يجلس على آخر مقعد في الرصيف، ووضع الحقيبة على حجره وأحكم هذه المرة كلتا قبضتيه عليها. إنها الآن في أمان .. أما هو فما زال شعور الخوف يسري في جسده.

فجأة انتفقض واقفا.

لا .. لن أدع هذا الشعور يسيطر علي ..

ولو جاء أحد الشابين وطلبها مني؟!

إنها ليست من حقه .. كيف يفرط فيها؟ ..

الأمر وما فيه أنه وجدها .. كانت ملقاة في ركن خبيء بين درجتي السلم. كان الشابان يسبقانه في الدخول إلى المحطة وقد فاحت رائحة البيرة من فيهما. وكما يفعل – عادةً في هذه الأحوال – خاصة عندما يكون سائرا في الطريق وحيدا، تلكأ قليلا حتى تجاوزه الشابان: أسمران فتيان لكنهما يمشيان ككل الشباب هنا بشيء من الميوعة .. ودخل المحطة ثم أخرج تذكرته وألقمها الحاجز الآلي من فتحة الدخول فانفتح له المصراعان .. تباطأ قليلا في العبور حتى غاب الشابان عن بصره ودخلا إلى حيث المصعد. عندئذ تقدم ثم دخل، وفضل النزول إلى الرصيف على الدرج الجانبي. ولم يكد يضع قدمه على الدرجة الثانية من درجات السلم حتى لفت عينيه مرأها، تقبع في الزاوية الحادة جداً بين الدرجتين. لم يكن الضوء المسلط على الدرج شديدا، ولم تكن هي من ذوات الألوان البراقة.. بل لونها من الألوان التي يفضلها: البنيّ الداكن. عند وقوع بصره عليها توقفت حركته ربما لثانية واحدة وبسرعة البرق التقطها، أحس ليونةَ ملمسها وراعه انتفاخُها وسمع صوتا خفيفا داخله يقول:

رزق ساقه الله اليك.

وامتدت يده في لهفة وخفة وسرعة ففتح حقيبة يده وألقى حافظة النقود في بطنها دون تفكير، وأغلق الحقيبة هذه المرة بسرعة أكثر، ثم تلفت وراءه فلم ير أحدًا، ولكنه سمع دقاتِ أقدام، عرف فيما بعد أنها كانت للعجوز والطفلة عندما رآهما على الرصيف. وتابع نزوله على الدرج بتؤدةٍ أكثرَ من ذي قبل وبخطوات مظهرها الاتزان وإن كانت جميع فرائصه ترتعد. وعند وصوله إلى الرصيف طاف ببصره المكان وأدرك موقع الشابين وبسرعة وبخطوات بدت ثابتة توجه إلى الجانب الآخر من الرصيف.

لقد آن لك أن تحس بالدنيا .. اليومُ الجمعة، ويومُ الجمعة في بلاد الإنجليزي يوم فرج، فهل أذن الله لك بالفرج؟

كل يوم جمعة يتسلم العمال أجورهم. ولهذا تبدو الحافظة منتفخة .. لم يشعر أنها ملأى بالعملات المعدنية السخيفة التي يمقتها والتي لا قيمة لها، ما أثقلَها وأسمجَ صوتَها وما أخف قيمتَها، حتى الجنيه منها الآن لم تعد له قيمة كما كان أيام عزِه عندما جاء إلى انجلترا .. ملمس الحافظة لين وانتفاخُها فيه أبهة ككرش أحد الأعيان في بلدته. وهو لا ينسى ملمس يده لها ويده خبيرة لا تخيب ظنه وهو لا يتورع عن الحلف أيمانا مغلظة أن الحافظة ملأى بالأوراق.. النقدية طبعا..

اليوم الجمعة ..

ما أحلاك يا يومَ الجمعة .. حقيقة إن فيك لفرجا، بعد هذا الضيق المطبق. فرص العمل في بلاد الانجليز لم تعد كما كانت، ولم يعد أمامي إلا بابُ التدريس، فبين الحين والآخر يرزقني الله بولد “خايب” تآمر عليه مدرسوه أو مدرساتُه فأهملوه فاحتاج إلى المساعدة في دروسه، وهو لا يحب معاملة مدرسيه أو مدرساته له – وأرجو الله أن يديم البغضاءَ بينهم – فيطلبَ درسا خصوصيا. كل شئ الآن أصبح خصوصياً: سيارة خصوصي ومدرس خصوصي، حتى التعليم أصبح خصوصيا.

ولكن مثل هذا الولد الخايب الآن ليس بكثير، أو أن عدد المرتزقين مثلي من المدرسين قد زاد؟

اليومُ الجمعة، يومُ فرج..

في هذا اليوم تعود زوجته بأجرها .. هي الوحيدة في الشقة التي تعود بأجر أسبوعي ثابت .. وعلاوة الكريسماس في آخر العام.

سامحك الله يا زمن، لم تنصف الرجال .. والله لولا الحاجة ما تركتها تعمل. ولكن كيف تفي بأجر الشقة ومصاريف الولدين والعودة إلى مصر لن تكون قبل توفير “الخميرة” كما تقول زوجتي .. وهل نفضح أنفسنا ونعود بلا فلوس، بلا هدايا!

أصبحت لندن بطولها وعرضها سجنا علينا البقاء فيه حتى ننهي الحكم.

ولكن اليوم يبدو أنه سيكون يوم الفرج. ملمس الحافظة الناعم دليل الثراء.. إنها جلد طبيعي من نوع فخم. يَذكرُ مرة ً رأى فيها حافظة كان سعرها – لدهشته – مئة وخمسين جنيها .. نعم .. استرلينيا، كان لها الملمسُ ذاتُه .. ولكن هذه حافظة حريمي – على ما يبدو. النساء الآن عموما يحزن نقودا أكثر منا – نحن الرجال – فيقبضن رائحاتٍ غادياتٍ. وهن هذه الأيام يتبوأن المناصب الكبيرة .. سامحك الله يا زمن!

هبت نسمة هواء زادت من إحساسه بالبرودة، ولكنه ابتلع ريقه في اطمئنان فقد اقترب القطار، القطار دوما يسبقه هبوبُ مثلِ هذه النسمة. وصدَّقت قبضانُ السكة الحديد حدسَه فأزت معلنة قدومَ القطار.. وملأ دويُ القطار وأصواتُ عجلاته المكانَ فكسر حدة الشعور الذي داخَلَه منذ أن حل بهذا الرصيف. واقترب من أحد الأبواب وانتظر ثواني إلى أن انفتح الباب فدخل بلا تردد وأسرع إلى الكرسي الأخير من العربة فوضع الحقيبة إلى جوار جدار العربة ثم جلس فلم يعد أحد يراها.

وانطلق القطار .. وانطلقت معه الأفكار.

ماذا سيفعل بالحافظة بعد أن ينعم بما فيها؟ هل يرسلها لصاحبتها؟

صاحبتها؟ وهل تأكدت أنها لسيدة؟

إن شكلها وجلدها ورقتها وجمال لونها جميعا تقول إنها لسيدة، وليس أي سيدة: سيدةٍ ذاتِ منصب.

ولكن ربما لا يجد فيها ما يدل على عنوان صاحبتها.

وفي خفوت تمتم

يا رب…

ستكون لفتة طيبة مني أن أُهديها لزوجتي

إنه لا يزال يذكر صورتها الجديدةَ قبل أن يُلقمها بطنَ حقيبته.

توقف القطار عند أول محطة لثوان ثم انطلق مرة أخرى.

يجب أن تكون واقعيا وألا تجرجرَكَ الأحلام. فقد تكون.. تكون.. فارغة!

فارغة؟! دماغُك هي الفارغة .. قطعا لا .. إن أصابعي لا تخونني .. إنها تغص بالـ .. أقول لا داعي للمبالغة .. إن بها مبلغا محترما، أوراقا نقدية من ذوات العدد .. والأوراق النقدية هذه الأيام – ما أجملَها – صغيرة الحجم، وغالية القيمة.

وحتى لو كان بها أجر أسبوع فهذا في حد ذاته فرج لي ولزوجتي وللولدين. لقد آن أخيرا الأوان لأصطحبهم جميعاً في رحلة إلى “ألتون تاور Alton Tower” مدينة الملاهي المشهورة في شمال بريطانيا، فكم وعدتهم ولم أف، وقد أذن الله لي بالوفاء.

ما أحلاك يا يوم الجمعة!..

وتمتم في خفوت.

الحمد لله.

توقف القطار مرة أخرى ثم انطلق متابعا رحلته.

لم يعد أمامي سوى محطة واحدة. ماذا سأقول لزوجتي؟ لا..

لا .. لن أقول شيئا .. سألتزم الصمت .. سأدخل البيت كعادتي ثم ..

توقف القطار وانتبه أن هذه هي محطة “مانر هاوس – Manor House” فهب من مقعده سريعاً واندفع منسلا من بين مصراعي الباب قبل أن يُغلق وكأنه يهرب من مطارد.

فتح باب الشقة بهدوء ودخل، ثم تلفت فلم يجد زوجته في الصالة كعادتها تشاهد التلفزيون. يبدو أنها في غرفة النوم. واتجه إلى غرفته هو حيث يوجد مكتب عتيق وأربعة أرفف عليها بعض من كتبه التي كان يقرأ فيها في الماضي. وقبل أن يدخل سمع صوت زوجته.

– أنت وصلت؟

– مساء الخير

– سأصلي العِشاء .. وأحضّر لك العَشاء بعدَها ..

لم يستمع إلى بقية كلامها لكنه أحس بنبرة غير طبيعية في صوتها. نبرة لمس فيها شيئًا من القلق:

هل توفى أبي في مصر؟ لقد كان يعاني من المرض منذ دهر من الزمن .. اللهم اجعله خيرا..

إنه لا يريد لأي شئ أن يقطع عليه تلك اللحظة: لحظةَ الكشف..

حتى لو كان أبي قد مات فماذا سأفعل له؟ أنا هنا في لندن، وهو هناك على بعد آلاف الأميال، وليس باليد حيلة .. هل سأحييه؟.. استغفر الله .. لا أريد أن أعكر صفو لحظة الكشف بالنكد .. فبعد أن وجدتها علي أن أتعرف، ولوحدي، .. نعم لوحدي، على الكنز المخبوء.. لن أدع زوجتي تُحبطَ خطتي.

– دعيني بعض الوقت، عندي كراسات لابد من تصحيحها الآن قبل أن ننام حتى أعطيها للتلاميذ بكرة.

وعزم أمره ودخل الغرفة وبسرعة توجه إلى المكتب، في وسطها، وجلس على الكرسي ووضع الحقيبة على المكتب.

الكنز هنا في بطن هذا الحوت .. لمست جسدَه رعشة فأحس بالنافذة فرآها مفتوحة فأحكم إغلاقَها وأسدل الستارة الوحيدة في الحجرة وارتاح في جلسته، ثم راحت يده تفتح الحقيبة، لكنه أوقفها.

على أن أسمى أولا .. فكل عمل لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر.

.. لا .. لا .. خير . إنني متفائل خيرا.

ومد يده وأخرج الحافظة وأحس ملمسَها اللين واطمأن لانتفاخها. هل يفتحها الآن؟ أو يغلق باب الحجرة؟ لا داعي لتضييع الوقت. وحتى لو دخلت زوجته فلن تفوتُه مفاجأتُها إذ يستطيع إخفاء كل شئ في الدرج.. وأخرج بالفعل بعض الكراسات من الحقيبة وفتحها أمامه على المكتب. وأضاء أبجورة المكتب.

وتمتم بالتسمية مرة أخرى ثم قرر أن تكون تلك هي اللحظة الحاسمة، لحظةَ الكشف.. وأمسك الحافظة بكلتا يديه ووجد نفسه يقبلها، وفي رقة – وكأنه يلمس يدا ناعمة – فتحها..

ولمست أصابعه أوراقا .. لكن خشخشتها خيبت ظنه .. لا يبدو أنها أوراقٌ مالية .. إنها فواتير!.. ما أسخفَها من أوراق، حتى بعد أن تكلفَنا كلَ طائل نحتفظ بها لجلب الغم.

لا بد أن الأوراق النقدية داخل الجيب الآخر الذي تحميه سوستة ناعمة من أيدي العابثين.

ودفعه حبُ الاستطلاع والكشف إلى فتح إحدى الفواتير ليعرف من هي هذه السيدة العظيمة ذاتُ المنصب الرفيع التي كانت تلك الحافظة ملكاً لها يوما ما .. قبل هذا التاريخ، نعم قبل هذا التاريخ.

الفاتورة باسم مسز .. إنها زو و و جـ جـ تـ ته!..

فتح الجيب الآخر بارتعاش، فلم تلمس أصابعُه إلا برودةَ الجلد.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.